431

ثم إن هذا المسافرَ المُحِبَّ للاستطلاع قال لعقله:

بالرغم من أن هذا الهواء جمادٌ لا حياة فيه ولا شعور، وبالرغم من أنه على الدوام مَوَّارٌ بلا قرار، عاصفٌ متقلِّبٌ بلا هدفٍ ولا ثبات، إلا أنه بصورته الظاهرية ينطوي على مئاتِ آلافِ الأعمال المُتْقَنة والإحساناتِ والإمداداتِ الحكيمة الرحيمة التي تأتي بواسطته إلى الوجود، مما يُثْبِتُ بالبداهة أن هذا الخادم الجوَّال وهذه الرياح الموَّارة لا حركةَ لها من تلقاء نفسها، وإنما تتحركُ بأمرِ آمرٍ في غاية العلم والقدرة، وغايةِ الكرم والحكمة؛ حتى كأن كل ذرَّةٍ من ذراتها جنديٌّ يعرِف كلَّ عملٍ يُناط به، ويَسمعُ ويَفهمُ جميعَ أوامرِ هذا الآمر؛ فتطيع كلَّ أمرٍ ربانيٍّ جارٍ في الهواء من تنفُّسِ جميع الحيوانات وإعاشتها، وتلقيحِ النباتات ونموِّها، وتأمينِ الموادِّ اللازمةِ لحياتها، وتصريف السُّحُب وإدارتِها، وتسييرِ السفنِ بلا وقودٍ وجريانِها، وإيصالِ الأصوات، خصوصًا إيصال الأحاديث عبر المذياع والتلغراف والهواتف اللاسلكية، ونحوِ هذه الخدمات وغيرها من الخدمات العامَّة الكلِّيَّة؛ ومع أن ذرَّاتِ الهواء متماثلةٌ تتألف من مادَّتَين بسيطتين كالآزوت ومولِّد الحموضة «الأوكسجين»، إلا أنني أراها تُستَخدَم من قِبَل يَدِ حكمةٍ بكمالِ الانتظام في مئاتِ الآلاف من أنماط الأعمال الربانية على وجه الأرض.

فحَكَم السائح قائلًا: إن مَن يَستعمل الرياح تصريفًا في خدماتٍ ربانيةٍ لا حَدَّ لها؛ ومَن يَستخدم السَّحاب تسخيرًا في شؤونٍ رحمانيةٍ لا حدَّ لها؛ ومَن أوجد الهواء على تلك الصورة؛ كما صرَّحت الآية: ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [البقرة:164] ليس إلا الربُّ الواجبُ الوجود، القادرُ على كلِّ شيء، العالِمُ بكلِّ شيء، ذو الجلال والإكرام.

ثم نظر إلى المطر فرأى فيه منافع بعدد حباته، وجَلواتٍ رحمانيةً بعدد قطراته، وحِكَمًا بمقدار رشحاته؛