435

والفَتَّاحيَّةِ، وتوزيعِ البذورِ والمحافَظةِ والإدارةِ والإعاشةِ لجميعِ ذوي الحياة، والرحمانيَّةِ والرحيميَّةِ العامَّة الشاملةِ المكمَّلةِ بالمشاهدة.

ثم إن هذا المسافر المتفكِّر صار كلما قرأ صحيفةً قَوِيَ إيمانُه الذي هو مفتاحُ السعادة، وزادت معرفتُه التي هي مفتاحُ الترقِّيات المعنوية، وتبدَّتْ له درجةٌ أخرى من حقيقةِ الإيمان بالله التي هي أساسُ جميع الكمالات وأصلُها؛ فنال لذائذَ وأذواقًا معنويةً جَمَّةً أثارتْ شغفَه بشدة؛ ولهذا فإنه برغم الدروس الباهرة القطعيَّةَ التي سمِعها من السماءِ والجوِّ والأرضِ أخذ يردِّد: هل من مزيد؟ فسَمِع من البحار والأنهارِ العظيمةِ أصواتَها الحزينة العذبة، وأذكارَها بهديرٍ ووجدٍ، تقول بلسان الحال والمقال: اُنظُرْ إلينا واقرأْنا نحنُ أيضًا.

فنظر، فرأى البحارَ مع أنها مائجةٌ موَّارةٌ بالحياة على الدوام، ومع أن من شأنها خِلقةً الانسكابَ والانسياحَ والاجتياحَ، ومع أنها قد أحاطت بالأرض فأُجرِيتا معًا في دائرةٍ مقدارها خمسٌ وعشرون ألف سنة، تقطعُها الأرضُ في سنةٍ واحدةٍ بغاية السرعة؛ إلا أن البحار مع هذا لا تسيح ولا تنسكب ولا تطغى على جارتها اليابسة؛ ما يعني أنها تتحرَّك وتَسكُن وتُحفَظُ بأمرِ وقوةِ مَن له مُطلَقُ العظمة والقدرة.

ثم نظر إلى ما في جوف البحار فرأى جواهر بغايةِ الجمال والزينة والإتقان، ورأى فضلًا عن ذلك انتظامًا عظيمًا في إعاشةِ آلافِ أنواع الحيوانات وإدارتها، وتولُّداتِها ووَفَيَاتِها، وكمالًا بديعًا في تأمين أرزاقها ومخصَّصاتها من خلالِ رملٍ بسيطٍ وماءٍ أُجاج، ما يُثْبِتُ بالبداهة أنها إدارةٌ وإعاشةٌ من قديرٍ ذي جلال، رحيمٍ ذي جمال.

ثم نظر الضيفُ إلى الأنهار، فرأى منافعها ووظائفها ووارداتها وصَرْفِيَّاتها على قَدْرٍ عظيمٍ من الحكمة والرحمة، بحيث تُثْبتُ بداهةً أن جميع الجداول والعيون والغُدران والأنهار الكبيرة إنما تنبع وتجري من خزينةِ رحمةِ الرحمن ذي الجلال والإكرام؛ بل تُدَّخَر