552

ثم إننا نشاهد في أنفسنا وفيما حولَنا رحمةً عامة، وحكمةً شاملة، وعنايةً دائمة، نشاهدها بأعيننا جَليَّةً كالنهار، ونرى آثارًا وجَلَواتٍ تشير إلى سلطنةِ ربوبيةٍ مَهيبة، وعدالةٍ عاليةٍ دقيقة، وإجراءاتٍ جلاليةٍ عزيزة؛ حتى إننا لَنشاهد حكمةً تُقيم في الشجرة الواحدة حِكمًا بعدد أثمارها وأزهارها؛ ورحمةً تَهَبُ الإنسانَ إحساناتٍ وإنعاماتٍ بعدد أجهزته ومشاعره وقواه؛ وعدالةً ذاتَ عزةٍ وعنايةٍ تحفظ حقوقَ أدنى ذوي الحياة، وتَصُبُّ سَوطَ العذاب على الأمم العاصية كقومِ نوح، وكعادٍ قومِ هود، وثمودَ قومِ صالح، وكقوم فرعون؛ ونرى كذلك سلطنةَ ربوبيةٍ تتجلى عظَمَتُها غيرَ المتناهية فيما قرَّرتْه الآية الكريمة بإيجازٍ بالغِ العَظَمة:

﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ [الروم:25]

إذْ كما هي الحال مع جنودٍ مطيعين مرابطين في ثُكْنتَين عسكريتَين، ما إنْ يدعوهم القائد عبر مكبِّر الصوت حتى يهُبُّوا من مَهاجعهم ويتقلَّدوا سلاحَهم ويقوموا على رأس عملهم، فكذلك الأرضُ والسماوات العظيمة، هما ثُكنتان مطيعتان تَضُمَّان جنود السلطان الأزليِّ سبحانه، وما إنْ ينادي إسرافيلُ ببوقه الهاجعين فيهما بالموت حتى يَهُبُّوا من الأجداث سِراعًا مُرتَدِين لباسَ الجَسَد؛ وهي نفسُ الحال التي تُثبتها سلطنةُ الربوبية هذه وتُظهِرها في كل ربيعٍ حين يَهدِر بوقُ مَلَكِ الرعد بالموجودين في ثكنة الأرض.

فما دمنا نشاهد هذا كلَّه ونراه عِيانًا، فلا ريب أنه بعدمِ إقامةِ الدارِ الآخرة ودارِ الحشر والنشر التي تقتضيها هذه الرحمة والحكمة والعناية والعدالة والسلطنة السرمدية اقتضاءً في غاية القطعية -كما سبق إثباتُه في «الكلمة العاشرة»-، ينقلب جمالُ الرحمة اللامتناهية قسوةً قبيحةً لامتناهية، وينقلب كمالُ الحكمة التي لا تُحَدّ عبثيةً مُشِينةً لا تُحَدّ، ويعود هدرًا وإسرافًا لا جدوى منه، وتستحيلُ تلك العناية المتناهية في اللطف غدرًا في منتهى الإيلام والأسى، وتتبدَّل تلك العدالة البالغةُ غايةَ الحقَّانية والقِسْط مظالمَ في غاية