543

صنع تلك المصابيح وأنشأ تلك المحطات، وهو مَن يدير كهرباءَها ويؤمِّن وقودَها، وكما تعرِّف به وتُحبِّب به على نحوٍ يثير الإعجاب والتقدير، فكذلك مصابيح النجوم التي تزيِّن قبةَ قصر الدنيا في مدينة هذا العالَم، فرغم أن بعضها يَفُوق الكرة الأرضية مئة مرةٍ حجمًا، ويتحرك أسرعَ من قذيفة المدفع بسبعين مرة وفقًا لما يقوله علم الفلك، إلا أنها مع ذلك لا يختلُّ نظامها، ولا تتصادم فيما بينها، ولا ينطفئ ضَوءُها، ولا تَنفَد مادةُ اشتعالها، وأقرب مثالٍ لها شمسُنا التي هي -بحسب علم الفلك الذي تدرسونه- أكبر من الأرض بأكثر من مليون مرة، وأقدم منها بمليون سنة، والتي هي مصباحٌ ومدفأةٌ لدار الضيافة الرحمانية هذه، والتي يلزمها في كلِّ يومٍ إحراقُ ما يعادل بحارَ الأرض غازًا وجبالَها فحمًا، أو ما يعادل ألف ضعفِ الأرضِ حطبًا كي تبقى مشتعلةً فلا تنطفئ؛ فهذه المصابيح التي تضيء قصر الدنيا في مدينةِ الكون المَهيبة، وما تستلزمه من إدارةٍ وتدبير، إنما تشير بأصابع الضياء إلى قدرةٍ وسلطنةٍ غيرِ متناهيةٍ توقِد هذه النجوم العُلويَّة وأمثالَها بلا غازٍ ولا فحمٍ ولا حطب، وتُبقيها وهّاجةً مضيئةً بلا انطفاء، وتُجريها معًا وبسرعةٍ دون اصطدام.

وهذه المصابيحُ وإدارتُها بقَدْرِ ما تَفُوق نظيرتَها المذكورةَ في المثال ضخامةً وفخامةً، تُعرِّف بالقَدْرِ نفسه بمن هو -وَفْقَ مقياس علم الكهرباء الذي تدرسونه أو ستدرسونه- سلطانُ هذا الكونِ المعرِض الأعظم، ومدبِّرُه ومنوِّرُه وصانعُه، وتقيم النجومَ النيِّرةَ شاهدةً عليه، وتُحبِّب به وتدعو لعبادته بالتسبيح والتقديس.

وكذلك لو وُجِدَ كتابٌ ما على نحوٍ بديع، بحيث كان مكتوبًا في كلِّ سطرٍ من سطوره كتابٌ بخطٍّ رفيع، وكان مكتوبًا في كلِّ كلمةٍ من كلماته سورةٌ قرآنيةٌ بقلمٍ دقيق، وكان مع هذا غزير المعنى قد بلغ الغاية في الدلالة، وكانت جميعُ مسائله يؤيِّد بعضُها بعضًا، بحيث غدا سِفْرًا عجيبًا يُظهِر ما يتمتع به كاتبُه ومؤلِّفه من مهارةٍ وقدرةٍ فائقة؛ فكما أنه ينبئ عن كمالاتِ كاتبه بلا شكٍّ، ويُعرِّف ببراعةِ مصنِّفه جليَّةً كالنهار، ويستجلب