350

وإن مَن يعيش بعد الخمسين من عمره وحيدًا لا تربطه علاقةٌ بأحد، لا يضحي بحياته الأبدية من أجل سنةٍ أو سنتين من ثرثرة الدنيا وألاعيبها، فإن ضحَّى بها لم يكن صاحب حيلة، بل كان مجنونًا أبله، وماذا عسى أن يَصدر عن مجنونٍ أبله حتى يُهتم بأمره؟!

أما شبهةُ أني تاركٌ للدنيا ظاهرًا طالبٌ لها باطنًا، فإنني بمقتضى الآية: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ [يوسف:53] لستُ أبرئ نفسي، فهي تطلب كل سوء، ولكن ليس من شأن أهل العقل أن يُفسِدوا حياتهم الأبدية الدائمة وسعادتَهم الأبدية لأجل لذةٍ يسيرةٍ في زمان الشيخوخة من عمرٍ قصيرٍ في دار الضيافة المؤقتة لهذه الدنيا الفانية؛ وبما أن ذلك ليس من شأن أهل العقل وذوي الشعور، فقد تبِعتْ نفسي الأمارةُ العقل راغِمة.

السؤال المتوجِّس الثالث: يقول أهل الدنيا: هل تحبنا؟ وهل يُعجبك أمرُنا؟ فإنْ كنتَ تحبنا فلماذا تُقاطعنا ولا تخالطنا؟ وإن كان لا يُعجبك أمرُنا فأنت إذن معارضٌ لنا، ونحن نسحق معارضينا.

الجواب: لو كنت أحب دنياكم -فضلًا عن أن أحبكم- لما انسحبتُ من الدنيا، فلستُ معجبًا بكم ولا بدنياكم، غير أني لا أتدخل في شؤونكم، لأنني في مقصِدٍ آخر، ولقد شغلتْ قلبي أمورٌ أخرى فلم تدع مجالًا للتفكير بغيرها.

وإنما وظيفتكم النظر إلى اليد لا إلى القلب، ذلك أنكم تريدون أمنكم وإدارة شؤونكم، فإن لم تتعرض لكم اليدُ فبأي حقٍّ تتعرضون للقلب فتطلبوا منه أن يحبكم وأنتم لستم أهلًا للمحبة أصلًا؟!

نعم، فكما أتمنى الربيع وأتوق إليه وأنا في فصل الشتاء هذا، لكن لا أقدر عليه ولا أستطيع الإتيان به، فكذلك أتمنى صلاح حال العالَم وأسأل الله ذلك، وأتوق إلى إصلاح أهل الدنيا، لكن لا أقدر عليه لأنه ليس بوسعي، ولا يمكنني فعلُه، لأنه ليس من وظيفتي ولا بمقدوري.