378

ولقد كنت أحار من هذا كثيرًا، حتى أُخطِر على قلبي في هذه الأيام أنه مثلما يحصل عندما يشتكي عضوٌ من الإنسان أو يُجرَح، إذْ تتداعى سائرُ الأعضاء وتترك بعض وظائفها وتسرع لنجدته، فكذلك الأمر بالنسبة للجهاز الإنساني المُدرَجِ في الفطرة الإنسانية، والقائمِ بمهمة الحرص على الحياة وحفظها والاستمتاع بها وعشقها، فإنه قد جُرِح بالكثير من الأسباب، وراحَ يَشغَل بنفسه سائرَ اللطائف وينحطُّ بها ويجتهد في أن يُنسيها وظائفَها الحقيقية.

وكما يحصل إن وُجِد حفلٌ باهرُ الأضواء جاذبُ الأجواء، مع ما فيه من الرذائل والسُّكْر، فكما يَنْشَدُّ إليه الأراذل والأصاغر، ينشدُّ إليه أيضًا الأكابر والحرائر، فيشتركون فيه مُعطِّلين وظائفهم الحقيقية.

والأمر كذلك بالنسبة إلى الحياة الإنسانية في هذا العصر، خصوصًا الحياة الاجتماعية، فإنها قد آلتْ إلى حالٍ مفزعةٍ لكنها جذابة، ومؤلمةٍ لكنها مثيرة، بحيث دفعت لطائفَ الإنسان العُلْوية، لا سيما القلب والعقل، لاتِّباع النفس الأمارة، وجعلتْها تهوي كالفَراش في نيران تلك الفتنة.

نعم، إنْ بلغ الحفاظ على الحياة الدنيوية درجةَ الضرورة فثمة رخصةٌ شرعية لترجيحه مؤقتًا على بعض الأمور الأُخروية، لكن لا رخصةَ ولا ترجيح لمجرد وجود حاجةٍ أو ضررٍ غيرِ مفضٍ إلى الهلاك، والحال أن هذا العصر قد حَقَنَ بخاصيته هذه عروقَ الإنسان حتى صار يترك أمورًا دينية هي كالألماس لأجلِ حاجةٍ صغيرةٍ أو ضررٍ دنيويٍّ بسيط.

أجل، لقد جُرِح عِرقُ الحياة الإنسانية في هذا العصر جُرحًا بليغًا، وأصيب جهاز حفظ الحياة إصابةً بالغةً من جرَّاء الإسراف ورفعِ البركة الناجمِ عن الحرص وعدم القناعة وعدم الاقتصاد، ومن جرَّاء ازدياد الفقر والضرورة وحاجات المعيشة، كما أن أهلَ الضلالة دأبوا على توجيه الاهتمام إلى هذه الحياة الفانية، حتى صار ذلك العِرق يوجِّه الأنظار لنفسه، ويدفع المرءَ لترجيح أدنى حاجةٍ حياتيةٍ على مسائل دينيةٍ جليلة.