281

ثالثًا: قبل اثنتي عشرة سنة، دعاني رؤساءُ أنقرة لزيارتها تقديرًا لجهادي ضدَّ الإنكليز في كتابي المسمَّى «الخطوات الست»، فذهبت، فلم توافق توجُّهاتهم مشاعرَ شيخوختي؛ فقالوا لي: اعملْ معنا، فقلت: لا يمكن لـ«سعيدٍ الجديد» أن يعمل معكم، فهو يريد العملَ للآخرة، غير أنه بالمقابل لا يتعرَّض لكم.

أجل، لم أتعرَّض لهم، ولم أشترك مع الذين تعرَّضوا لهم، لأنه بسبب هذا التعرُّض خسرنا الدهاءَ العسكريَّ الذي كان يمكن أن يخدُم قِيَمَ الأمة الإسلامية وثوابتها، فانقلبَ وسيلةً ضدَّها للأسف.

نعم، شعرتُ بدهاءٍ لدى رؤساء أنقرة، خصوصًا لدى رئيس الجمهورية، فقلت في نفسي: لا يجوز أن يُحوَّل هذا الدهاء ضدَّ قِيَمِ الأمة وثوابتها بإثارةِ مخاوف القوم وهواجسهم؛ ولهذا تجنَّبتُ دنياهم بكلِّ وسعي ولم أتدخل فيها، وانسحبتُ من السياسة منذ ثلاث عشرة سنة، حتى لقد مرَّ عليَّ في هذه الغربة قرابة عشرين عيدًا أمضيتُها -عدا واحدًا أو اثنين منها- وحيدًا في غرفتي كالسجين، لئلا يتوهَّم متوهِّمٌ أنني أخوض في السياسة.

وإليكم الأدلةَ التي تُثبِت أني لم أتعرَّض لأعمال الحكومة ولم أرغب في التدخَّل بشؤونها:

الدليل الأوَّل: أنني لم أقرأ منذ ثلاثَ عشْرة سنةً شيئًا من الصُّحُف التي هي لسانُ السياسة، يعلَم هذا أصحابي في قرية «بارلا» التي لبِثتُ فيها تسعَ سنين، وأصحابي في «إسبارطة» التي أقمتُ بها تسعة أشهر؛ هذا باستثناء فقرةٍ من مقالٍ تناهتْ إلى سمعي عَرَضًا حين كنتُ في غرفة التوقيف بـ«إسبارطة»، يشنُّ فيها صحفيٌّ متحاملٌ هجومًا يَنضَح بالكفر والإلحاد ضدَّ طلاب رسائل النور.

الدليل الثَّاني: أنه لم يُرَ مني -على مدى عشرِ سنوات أمضيتُها في ولاية «إسبارطة»- أيَّةُ أمارةٍ أو علامةٍ تَنُمُّ عن محاولةِ التدخل في السياسة أثناء التحوُّلات الكثيرة التي شَهِدها العالَم.