574

«كان الأستاذ تحت المراقبة الدائمة، وكان من عادته الخروج للتجوال في الهواء الطلق، خصوصًا في الربيع والصيف، فقد كان يخرج فيهما إلى خارج المدينة يخلو بنفسه ساعاتٍ ثم يعود إلى بيته؛ وكان يوجد في غالب الأحيان مَن يتعقبه في مسيره هذا، فمرةً يتعقبه أحدُ الرقباء، ومرةً أحدُ عناصر الشرطة؛ ولقد أُطلِق عليه النار من الخلف ذات مرة، لكنه لم يُصَبْ؛ ولَحِق به ذات مرةٍ أحد موظفي الجهات الرسمية وخاطبه بحدةٍ قائلًا: ممنوعٌ الخروج، وليس لك أن تَعتمِر طاقيّةً أو تَعْتَمَّ بعمامة؛ فعاد الأستاذ أدراجه؛ وأمثال هذا النوع من المعاملة كثير».

وكما كانت حال الأستاذ في الأماكن الأخرى فإن خدمته الإيمانية في «أميرداغ» لم تقتصر على وظيفةٍ واحدةٍ بعينها، ويتبيَّن من رسائله في «الملاحق»، ومن أخبار زُوّاره من الطلاب والأصحاب القدامى أيام التحصيل العلمي، ومن مشاهدات الأهالي والجيران والطلاب الملازمين له، أنه كانت له وظائف عدةٌ نابعةٌ من الحقيقة متوجهةٌ إلى الحق، يجتهد كلَّ يوم في أدائها على وجهها الأتم؛ فبالإضافة إلى انشغاله بتأليف كتبه وتصحيحها ونشرها -كـ«الكلمات» و«اللمعات» التي هي أنوارُ حقائق قرآنية- كان شديدَ الشغف بمطالعة كتاب الكون والنظر في موجوداته ومصنوعاته التي هي كلماتُ القدرة، شديدَ الافتتان بقراءة أسفار الحكمة والرحمة المعجزةِ المسطورة على وجه الأرض، المنشورةِ في صحائف الربيع، والتأملِ في عجائب الصنعة الإلهية المبثوثة في الأشجار والنباتات والحيوانات، واستجلاءِ آيات التوحيد الساطعة الجامعة؛ فكان يحلِّق في آفاقٍ لا تتناهى من الحقائق الإيمانية والمعرفة الربانية بالغًا مرتبة حقِّ اليقين.

ولا غرابة في الأمر، فالتفكر هو أحد أُسِس منهجه الذي تلقاه من القرآن الكريم، وهو لا يفتأ في جميع مؤلفاته يدعو الإنسان إلى التفكر ويلقِّنه دروسَه؛ لقد كان يتحرك انطلاقًا من مبدأ أن تفكُّر ساعةٍ خيرٌ من عبادة سنة، [من الكلام المأثور عن السَّرِيِّ السَّقَطي رحمه الله، يُنظَر: كشف الخفاء، الحديث رقم 1004؛ هـ ت] ويردد البيت القائل:

وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ     تدلُّ على أنه واحدُ

مؤكدًا على أن المعرفة الإلهية المكتسَبة بالعلم والتفكر تحقِّق للروح اتساعًا بقدر الكون.

***