570

أجل، فلقد تعاقب عبر القرون العلماء والمجتهدون والأساتذة الربانيون الذين بلغوا الحقيقةَ بما نهلوا من درس الرسول الأعظم (ص) وإرشاده، وترقَّوا في مدارج الكمالات، وسلَّكوا -كلٌّ على حدة- طائفةً من جماعة المسلمين في دائرة إرشادهم وتنويرهم، ولقد جاء بديع الزمان سعيدٌ النُّورْسِيّ كأنه وارثٌ لهؤلاء العلماء الأجلَّة في مسلكهم وعلمهم، فبرز في زماننا هذا متحلِّيًا بمحاسنهم ومزاياهم، وانخرط في خدمةٍ دينيةٍ وجهادٍ معنويٍّ تحت راية القرآن وعبر رسائل النور، فأدى بفضل الله تعالى وتوفيقه وظائفَ جمةً وخدماتٍ كلِّيةً لا يقدر على أدائها إلا جماعةٌ بأكملها، أو هيئةٌ رفيعةُ المستوى، أو جيشٌ عظيم.

وإن الشخصية المعنوية لتلاميذ النور التي شكَّلها بديع الزمان بقوةِ نور الإسلام ورابطةِ أُخُوّة الإيمان، قد تصدت لهجوم أهل الضلالة، وشكَّلت للمؤمنين نقطةَ استنادٍ متينةً راسخة، وأقامتْ سدًّا قرآنيًّا منيعًا في وجه الخطر الشيوعي الأحمر الذي يتهدَّد البلاد والعباد، ومدتْ جسور الأُخُوَّة والمحبة والوئام بين العالَم الإسلامي والشعب التركي الذي كان أسلافه أبطالَ الإسلام في سالف الزمان.

وبديع الزمان سعيدٌ النُّورْسِيّ رجلٌ ذو استعداداتٍ جامعة، وهو فيها صاحبُ سَبْقٍ وقدمٍ راسخ، يرى الكليَّ مع الجزئيِّ في أوسع دوائر الآفاق والأنفُس، فتراه مثلًا يطالع مدقِّقًا الذرَّة والمجرَّة في آنٍ معًا، فيشاهد فيها أنوار التوحيد، ويَعرِضها ويُثبِتها؛ وتجده حينًا مشغولًا بالخدمة الإيمانية الكُلِّية الممتدة على أنحاء العالَمَين الإسلامي والإنساني، ثم تجده حينًا آخر عاكفًا في خلوةٍ يطالع كتاب الكائنات الكبير متفكرًا في معجزات الصنعة الإلهية، متأملًا في آثار الفطرة الربانية النفيسة التي هي مكتوبات قلم القدرة؛ وبهذه الوظائف العُلوِية التي لا يَفتُر عنها يترقى على الدوام فيما لا يُحدُّ من أنوار المعرفة الإلهية وأذواق الأُنس والقرب الربانية.

وكما تُشاهَد هذه الحالة الروحية والأحوال القدسية في كلِّ صفحةٍ من صفحات حياة الأستاذ، فإن حياته التي قضاها في «أميرداغ» ملأى بهذه المعاني المذكورة، ولئن ذُكِرَ شيءٌ منها في الرسائل المجموعة في «الملاحق» إلا أنها ظلت ناقصة، أما هذه السيرة فقد اجتُزئ فيها بقطرةٍ من البحر.

***