613

أهل الحقيقة، وقد ثبتتْ عند إخوانك بحججٍ وأسانيد لا تُرَدّ، ومع أنك إن قبلتَها لم تضرَّ بإخلاصِك، لكنك مع هذا تجتنبها لا بتواضعٍ وفناءٍ عن الذات، بل بشدةٍ وحِدَّةٍ تكسر بها خواطر إخوانك هؤلاء.

فالجواب: أنه مثلما يضحي الرجل الشهم بحياته لينقذ حياة أصدقائه، فإنني إذا لَزِم الأمر -والأمر لازمٌ حقًّا- مستعدٌّ للتضحية لا بتلك المقامات التي لا أستحقها فحسب، بل حتى بمقامات الحياة الأبدية الحقيقية لأحافظ على حياة أهل الإيمان الأبدية من صولة الأعداء المُحْدِقين؛ وهذا بمقتضى درسِ الشفقة الذي تعلمته من رسائل النور.

أجل، فإن ثمة أمرًا سائدًا في كل زمان، لا سيما في زماننا هذا، وبالأخص في هذا العصر الجيَّاش بالأنانية والمراءاة، حيث تهيمن الغفلةُ العامة الناجمة عن الضلالة، وتَغلِب السياسةُ والفلسفة، وهو أن أصحاب المناصب والمقامات الرفيعة يَعمِدون إلى كلِّ شيءٍ فيجعلونه تابعًا لهم وسُلَّمًا، حتى إنهم يجعلون من مقدَّساتهم أدواتٍ لمقاماتٍ دنيوية؛ أما حين يكون المبتغى مقاماتٍ معنوية، فالتوسُّل إليها والسعيُ نحوها بشتى الوسائل والأدوات أشدُّ وأقوى، والساعي إلى هذه المقامات مُتَّهَمٌ بأنه يجعل بعضَ الحقائق والخدمات القدسية وسيلةً وسُلَّمًا لكي يحافظ على نفسه في نظر العامة، وليقدِّمها لهم على أنها لائقةٌ بتلك المقامات، وعندئذٍ يتعدَّى الضرر حتى إلى الحقائق التي ينشرها، فيَشوبُ رواجَها كثيرٌ من التردُّد؛ فإذا كانت المنفعة العائدة إلى الشخص أو إلى المقام واحدة، فالضرر اللاحق بعامة الناس -لعدم الرواج- ألفٌ.

والحاصل أن حقيقة الإخلاص تمنعني من كلِّ ما من شأنه أن يكون وسيلةً لجاهٍ وسمعةٍ أو مرتبةٍ ماديةٍ أو معنوية؛ نعم، صحيحٌ أن هذا يُلحِق ضررًا كبيرًا بالخدمة النورية من حيث الكَمّ، لكن ليس للكمية أهميةٌ في مقابل النوعية؛ بل إني أرى أن تلقين عشرةِ أشخاصٍ الحقائقَ الإيمانية التي هي أسمى من كلِّ شيءٍ، وتعليمَهم إياها تعليمًا متحقِّقًا بالإخلاص من موقع الخادم الخالص، أهمُّ من إرشادِ آلاف الناس بصفةِ قُطبيَّةٍ عظيمة؛