846

ثمانيًا وعشرين سنةً لئلا يتشبه بالكفرة.. إن رجلًا هذه حاله لو كُلِّف بأمرٍ لا قانونية له ولا مصلحة فيه فقيل له: «عليك أن تتشبه برهبان اليهود والنصارى، وترتدي القبعة الإفرنجية مثلَهم، وتخالف إجماع علماء المسلمين، وإلا نزل بك العقاب» فلا جرم أن من ضحى بكل شيءٍ فداءً للحقيقة القرآنية سيرفض ارتداء هذه القبعة حتى ولو كلَّفه الأمرُ التضحيةَ لا بروحه فحسب، بل بمئة روحٍ له لو وُجِدت، وحتى لو كان التهديد لا بالسجن والتعذيب فحسب، بل بالتقطيع إِرَبًا والتعذيب حرقًا؛ وحسبكم بسيرة الرجل شاهدًا بهذا.

فيا ترى ما السر الذي يجعل هذا الرجل الذي يتحلَّى بمثل هذه التضحية والقوة المعنوية الهائلة، يتحمَّل أشدَّ الظلم والطغيان الذي يَلقاه من أعداء الدين والوطن العاملين في الخفاء، ولماذا لا يقابل السيئة بمثلها ولا يردُّ عليها بسلوكٍ عمليٍّ ملموس؟

دعوني أعلنها لكم ولكل مَن له ضميرٌ ووجدان: إن سرَّ ذلك هو مخافتُه من إلحاق الضرر بتسعين بالمئة من الأبرياء بجريرة عشرةٍ بالمئة من الزنادقة الكفرة، والتزامُه بالحفاظ على الأمن والاستقرار في هذا البلد، وإقامتُه الرقيبَ المعنويَّ في قلب كلِّ فردٍ من خلال دروس رسائل النور، فهذا ما علَّمه إياه القرآنُ الحكيم؛ وإلا فإن بمقدوره الانتقام في يومٍ واحدٍ من أعدائه الذين ظلموه طَوالَ ثمانٍ وعشرين سنة؛ لكنه حفاظًا على الأمن والاستقرار وحقوق الأبرياء لا ينتقم ممن طعنوا في شخصه ونالوا من كرامته وشرفه، بل يقول: إنني لأجل الأمة الإسلامية لا أُضحِّي بحياتي الدنيوية فحسب، بل بحياتي الأُخروية إن لزم الأمر.

سعيد النُّورْسِيّ

***