بعد فراقٍ طويل

لعلها سبعٌ وعشرون أو ثمانٍ وعشرون سنةً مضت لم أحْظَ فيها بلقاء الأستاذ.. ولطالما وددت أن أزوره وأمتِّع ناظري برؤية مُحيّاه المبارك، لكنَّ تزاحُم المشاغل لم يسنح لي بفرصةٍ من هذا القبيل، إلا أنه برغم هذا ظلَّ يسكن في القلوب، فكان حاضرًا معنا على الدوام بوجوده المعنوي؛ لكن أيكفي هذا ليطفئ لواعجَ الأشواق؟! كلا؛ فلقد أبانت فرحتُنا بلقائه ومعانقته ورؤية طلعته البهية عن عظيم شوقنا إلى لقياه ومجالسته.

لقد مضى على تعرُّفنا إلى الأستاذ أربعون سنة، كان في تلك الأيام كثيرًا ما يتردد إلى غرفة الإدارة [في «دار الحكمة الإسلامية» باسطنبول؛ هـ ت] فنقضي بمجالسته أمتع الأوقات، ونتجاذب معه أطراف حديثٍ عذبٍ يمتد لساعاتٍ بصحبة السادة الأفاضل محمد عاكف ونعيم وفريد وإسماعيل حقي الإزميري؛ وكان يتحدث في المسائل العلمية الدقيقة بلهجته الآسرة، فكانت القوة والعزة التي تطبع حديثه تثير مشاعرنا، وكان ذكاؤه الفطري الخارق وموهبته الإلهية يتجليان في تناوله لأعضل المسائل.

إنه صاحب ذهنٍ وقَّاد لا ينشغل كثيرًا بالنُّقول، وإنما مرشدُه القرآنُ وحده، فهو منبع ذكائه وفيوضاته، ومنه نبعت جميعُ لمعاته؛ وهو كذلك صاحبُ رأيٍ يبلغ به درجة إمامٍ مجتهد، إنه رجلٌ يحمل بين جنبيه قلبًا مُترعًا بالإيمان كصحابيٍّ، وتَعمُرُ روحَه شهامةُ عمر، يعيش في القرن العشرين بروحِ مؤمنٍ في عصر الرسالة، ليس له هدفٌ سوى الإيمان والقرآن.