797

نيِّفًا وثمانين سنة لم أعرف شيئًا من لذائذ الدنيا ومباهجها، فقد انقضى عمري إما في ساحات القتال أو في معسكرات الأسر أو في سجون بلدي أو في محاكمها، ولم تبق شِدَّةٌ إلا عانيتُها ولا أذًى إلا ذقتُه.. عومِلتُ في المحكمة العسكرية كمجرمٍ، ونُقِلتُ من منفًى إلى منفًى كإرهابيٍّ مخرِّب، ومُنِعتُ في سجون بلدي من التواصل مع الآخرين شهورًا طويلة، وسُمِّمتُ مراتٍ عديدة، ولقيتُ صنوفًا من الطعن والحط والإزراء، حتى لقد فضلت في بعض الأحيان الموت على الحياة، ولولا أن ديني يمنعني من الانتحار لكان سعيدٌ مُغيَّبًا تحت الثرى منذ زمنٍ بعيد.

إن لي فطرةً لا تقبل الذل والمهانة، وإن عزة الإسلام وشهامته تمنعانني منهما أشدَّ المنع، فليكن خصمي مَن كان، فلستُ أذِلُّ له ولو كان أعتى ظالمٍ جبار، أو ألدَّ عدوٍ سفاكٍ للدماء، بل أردُّ عليه ظُلمَه وبطشَه وإنْ كلَّفني ذلك الزجَّ في غياهب السجون، أو السَّوقَ إلى مِنَصَّات الإعدام، فلستُ أبالي بشيءٍ من ذلك إن وقع، بل قد وقع فعلًا وعاينتُه، ولو أن ذلك القائد الدموي في معسكر الاعتقال طاوعه قلبُه وضميرُه في الإمعان في الظلم قليلًا، لكان سعيدٌ اليوم ممن قضوا شنقًا والتحق بركب المظلومين.

هكذا مضت حياتي بين مشاق ومصائب ومِحَنٍ ومصاعب، وضحَّيتُ بنفسي ودنياي في سبيل إيمان المجتمع وسلامته وسعادته، فليهنأ بها؛ أنا لا أدعو على مَن ظلمني، لأنه بفضل هذه المشاق والمِحَن أصبحت رسائل النور وسيلةً لإنقاذ إيمان مئات الألوف إن لم يكن الملايين.. أنا لا أعرف عددهم بالضبط، هكذا يقولون، المدعي العام بـ«أفيون» قال: إنهم خمسمئة ألف.. فلله الحمد كثيرًا أنَّ بقائي على قيد الحياة وتحمُّلي المشاقَّ والمِحَن قد أسدى خدمةً لكلِّ هؤلاء بإنقاذ إيمانهم، فيما لو متُّ لما أنقذتُ سوى إيماني.

ولقد ضحَّيت بآخرتي كذلك في سبيل إيمان هذا المجتمع وسلامته، لا طمعًا في الجنة ولا خوفًا من النار، فإذا سَلِمَ إيمانُ المجتمع التركي ذي الخمسة والعشرين مليون