857

أجل، إن هذا الرجل مَظهرٌ من مظاهر الرحمة الإلهية التي لا تتناهى، فقد نُفِي ذات يومٍ من شرقي الأناضول إلى «إسبارطة»، ومنها إلى قرية «بارلا» الواقعة بين الجبال، حيث كان يُراد له أن يموت ويطويَه النسيان؛ لكنْ تشهد سيرة هذا البطل المقدام وسنواتُ حياته السالفة بأنه رجلٌ حَمَلَ حقائقَ القرآن الحكيم بين جنبيه وجعلها قضيتَه، وآمن أنه لا سبيل لسعادة الفرد والمجتمع إلا بحقائق الإسلام، فبرز داعيًا لها منافحًا عنها في ميدان العلم والدلائل العقلية.

لقد عاصر ثلاثة عهودٍ من تاريخ هذه البلاد، فلم يطأطئ رأسه لحاكمٍ مهما بلغ من تجبُّره، ولم يَحِد عن دعوته؛ أثخنته الجراح في المعارك، ودُسَّ له السُّمّ، لكنه لم يمت ولم تَنَل من عزيمته أمواجُ المصاعب والمصائب العاتية.

ولم تُفلِح التيارات والمذاهب التي يموج بها عصرنا الحالي، والتي اكتسحت شعوبًا وأقوامًا، وغيَّرت عقلياتٍ ومفاهيم، لم تُفلِح في تحويل هذا الرجل عن دربه الذي انتهجه في الدعوة إلى الإيمان والقرآن، بل هو على يقينٍ جازمٍ تَرفُدُه الشجاعة الإيمانية التي تَعمُر كيانَه من أنه سيأتي اليوم الذي يتبنى فيه الشعب الحقيقة التي دعاه إليها، وأن سعيدًا لن يبقى واحدًا، بل سيكون غدًا ألفُ سعيدٍ وسعيد، بل عشراتٌ بل مئاتُ الآلاف، وستزدهر فتوحاتُ الدعوة إلى الحقائق الإيمانية التي بثَّها في الناس، وأن مشعل الهداية الذي تَسلَّمه من القرآن سيُبدِّد الظلمات التي تُلبِّد آفاق العالَم الإسلامي، وستَنتعِشُ من جديدٍ روحُ الإيمان التي ظَنَّ كثيرون أنها تعيش لحظات الاحتضار، وستَنفخ الروح في الأرواح، وستُحيي الأمةَ التي خَيَّم عليها الموت معنًى، وسيعود الإسلام سيِّدَ الدنيا من جديد.

لقد نُفي هذا الرجل الجليل الذي يحمل هذه الحقيقة القدسية ويدعو إليها، والذي هو اليوم مبعثُ فخرٍ واعتزازٍ لبني الإنسان.. نُفي وقتَها إلى هذه البلدة الصغيرة النائية بتدبيرٍ من أعداء الدين، خشية أن يتدخَّل فعليًّا ضد النظام السياسي المُقام حديثًا