858

في الأناضول، ولكن شَتّان شَتّان بين حال هذا الرجل وبين ما خَشِيَه القوم منه.. فلقد ترك السياسةَ وولاها ظهرَه، ولم يتدخل في دنيا أهل الدنيا، بل توجَّه إلى حقيقةٍ ستُنير المستقبل بعد حين، فعكف على تأليفها ونشرها، ولم يكن له من وليٍّ ولا معينٍ سوى مَن بيده مقاليد الكائنات وأزِمَّة الحادثات، وكفى به وليًّا ونصيرًا؛ وها هو اليوم بعد ثلاثين سنة يعود إلى «بارلا» من جديدٍ، وفي هذه العودة يشاهد ويتأمل جليلَ ما أولاه ربُّه من عنايةٍ وإكرامٍ بالخدمة الإيمانية التي آتت أُكُلها، فتفيض عيناه بالدمع فرحًا، ويَخِرُّ لله ساجدًا شُكرًا.

يقيم الأستاذ اليوم في «إسبارطة»، ويتردَّدُ بين حينٍ وآخر إلى «أميرداغ» و«بارلا» اللتَين تربطه بهما صلةٌ معنويةٌ وثيقة، إذْ هما من مراكز تأليف ونشر رسائل النور؛ وهو يعاني من شدة الوهن والمرض لمناهزته التسعين وتعرُّضه للتسميم مراتٍ كثيرةً في السابق، وهو فوق هذا مرهف الإحساس، يتأثر بما يصيب العالم الإنساني عامةً، والعالَم الإسلامي خاصةً، لا سيما حيث تنتشر رسائل النور.

ومع أن دعواتِ طلابه ونشرَ الأنوار الإيمانية تُمثِّل له دواءً لمرضه، إلا أنه ربما عانى في بعض الأحيان من مرضٍ شديدٍ لِسَعَةِ شفقته، فلا يستطيع البقاء حيث هو، بل يحتاج لتبديل الأجواء ليجدِّد نشاطَه ويستعيدَ شيئًا من عافيته.

وبعد انتشار رسائل النور في الآفاق، وتزايد عدد طلابها وتوزُّعهم في كلِّ جهة، قلَّل الأستاذ من زيارات الناس له إلى حدٍّ كبير، فلم يَعُد يستقبل الزوار، بل كثيرًا ما يقول: «إن قراءة رسائل النور أنفع من مجالستي بعشرة أضعاف»؛ بل قلَّما يتحدث إلى طلابه الذين يلازمونه إلا عند الضرورة.

ويُردِّد الأستاذ أنه قد شارف على النهاية، وأنه ينتظر أجلَه، ولا يدري إن كان يُتمُّ الشهرَ أو لا، ويُبدي شكره وامتنانه لنشر الأنوار، ويُقدِّر كل خطوةٍ تخطوها الدولة أو أبناء المجتمع في سبيل خدمة الإسلام ونشر السعادة، ويدعو لكلِّ من يسير في طريق