الكلمة السابعة

بسم الله الرحمن الرحيم

آمنت بالله وباليوم الآخر

إن كنت ترغب أن تفهم كيف أن الإيمان بالله وباليوم الآخر، أثمن مفتاحين يحلاّن لروح البشر طلسم الكون ولغزه، ويفتحان أمامها باب السعادة والهناء.. وكيف أن توكّل الإنسان على خالقه صابرًا، والرجاء من رزّاقه شاكرًا، أنفع علاجين ناجعين.. وأن الإنصات إلى القرآن الكريم، والانقياد لحكمه، وأداء الصلوات وترك الكبائر، أغلى زاد للآخرة، وأسطع نور للقبر، وأيسر تذكرة مرور في رحلة الخلود.. أجل! إن كنت تريد أن تفهم هذه الأمور كلها فأنصت معي إلى هذه الحكاية التمثيلية القصيرة:

وقع جندي -في الحرب العالمية- في مأزق عصيب ووضع محيّر، إذ أصبح جريحًا بجرحين غائرين في يمينه وفي شماله. وخلفه أسد هصور يوشك أن ينقضّ عليه. وأمامه مشنقة تبيد جميع أحبته وتنتظره أيضًا، زد على ذلك كانت أمامه رحلة نفي شاقة طويلة رغم وضعه الفظيع المؤلم!.. وبينما كان هذا المسكين المبتلى مستغرقًا في تفكير يائس من واقعه المفجع هذا، إذا برجل خيّرٍ كأنه الخضر عليه السلام يتلألأ وجهه نورًا يظهر عن يمينه ويخاطبه:

– لا تيأس ولا تقنط. سأعلمك طلسمين اثنين، إن أحسنتَ استعمالهما ينقلب ذلك الأسد فرسًا أمينًا مسخرًا لخدمتك، وتتحول تلك المشنقة أرجوحة مريحة لطيفة تأنس بها.. وسأناولك دواءين اثنين، إن احسنت استعمالهما يصيّران جرحيك المنتنين زهرتين شذّيتين، وسأزودك بتذكرة سفر تستطيع بها أن تقطع مسافة سنة كاملة في يوم واحد كأنك تطير!! وإن لم تصدّق بما أقول فجرّبه مرة، وتيقنّ من صحته وصدقه… فجرَّب الجندي شيئًا منه، فرآه صدقًا وصوابًا.

نعم، وأنا كذلك -هذا المسكين سعيد- أصدّقه، لأنني جربته قليلًا، فرأيته صدقًا وحقًا خالصًا.

ثم، على حين غرة رأى رجلًا لعوبًا دساسًا -كأنه الشيطان- يأتيه من جهة اليسار مع زينة فاخرة، وصور جذابة، ومُسْكرات مغرية، ووقف قبالته يدعوه:

– إليّ اإليّ أيها الصديق، أقبل لنلْهُ معًا ونستمتع بصور الحسناوات هذه، ونطرب بسماع هذه الألوان من الأغاني ونتلذذ بهذه المأكولات اللذيذة.. ولكن يا هذا! ما هذه التمتمة التي ترددها؟!

– إنه طلسم ولغز!

– دع عنك هذا الشئ الغامض، فلا تعكّر صفو لذتنا، وأُنسَ نشوتنا الحاضرة.. يا هذا… وما ذلك بيدك؟

– إنه دواء!

– إرمه بعيدًا، إنك سالم صحيح ما بك شئ، ونحن في ساعة طرب وأُنس ومتعة. وما هذه البطاقة ذات العلامات الخمس؟

– إنها تذكرة سفر، وأمر إداري للتوظيف!

– مزّقها، فلسنا بحاجة إلى سفر في هذا الربيع الزاهي!

وهكذا حاول بكل مكر وخديعة أن يقنع الجندي، حتى بدأ ذلك المسكين يركن شيئًا قليلًا إلى كلامه.

نعم، إن الإنسان ينخدع، ولقد خُدعت أنا كذلك لمثل هذا الماكر!

وفجأة دوّى صوت كالرعد عن يمينه يحذّره:

– إياك أن تنخدع.. قل لذلك الماكر الخبيث:

إن كنت تستطيع قتل الأسد الرابض خلفي، وأن ترفع أعواد المشنقة من أمامي، وأن تبرأني من جرحيّ الغائرين في يميني وشمالي، وأن تحول بيني وبين رحلتي الشاقة الطويلة.. نعم إن كنت تقدر على إيجاد سبيل لكل هذا فهيا أرنيه، وهات ما لديك، ولك بعد ذلك أن تدعوني إلى اللهو والطرب، وإلاّ فاسكت أيها الأبله، ليتكلم هذا الرجل السامي -الشبيه بالخضر- ليقول ما يروم.

فيا نفسي الباكية على ما ضحكتْ أيام شبابها. اعلمي! إن ذلك الجندي المسكين المتورط هو أنتِ، وهو الإنسان.. وأن ذلك الأسد هو الأجل.. وأن أعواد المشنقة تلك هي الموت والزوال والفراق الذي تذوقه كل نفس.. ألا تَرَين كيف يفارقنا كل حبيب إثر حبيب ويودعنا ليل نهار.. أما الجرحان العميقان، فأحدهما: العجز البشري المزعج الذي لا حدّ له. والآخر: هو الفقر الإنساني المؤلم الذي لا نهاية له.. أما ذلك النفي والسفر المديد فهو رحلة الامتحان والابتلاء الطويلة لهذا الإنسان، التي تنطلق من عالم الأرواح مارةً من رحم الأم ومن الطفولة والصِبا ثم من الشيخوخة ومن الدنيا ثم من القبر والبرزخ ومن الحشر والصراط.. وأما الطلسمان فهما الإيمان بالله وباليوم الآخر. نعم إن الموت بهذا الطلسم القدسي يلبس صورة فرس مسخّر بدلًا عن الأسد، بل يتخذ صورة بُراق يُخرج الإنسان المؤمن من سجن الدنيا إلى روضة الجنان، إلى روضة الرحمن ذي الجلال. ومن هنا كان الكاملون من الناس يحبّون الموت ويطلبونه، حيث رأوا حقيقته. ثم إن سير الزمان ومروره على كل شيء ونفوذ الزوال والفراق والموت والوفاة فيه يتخذ بهذا الطلسم الإيماني صورةً وضّاءة حيث تحفِز الإنسان إلى رؤية الجِدَّة بتجدد كل شئ، بل يكون مبعث التأمل في ألوان مختلفة متنوعة وأنواع متباينة لمعجزات إبداع الخالق ذي الجلال وخوارق قدرته، وتجليات رحمته سبحانه ومشاهدتها باستمتاع وبهجة كاملين. بمثل ما يضفي تبدل المرايا العاكسة لألوان نور الشمس، وتغيّر الصور في شاشة السينما من جمال وروعة إلى تكون المناظر الجذابة وتشكلها.

أما ذانك العلاجان.

فأحدهما: التوكل على الله والتحلي بالصبر، أي الاستناد إلى قدرة الخالق الكريم والثقة بحكمته سبحانه.

– أهو كذلك؟

نعم، إن من يعتمد بهوية «عجزه» على سلطان الكون الذي بيده أمر ﴿كُن فَيَكُونُ﴾ كيف يجزع ويضطرب؟ بل يثبت أمام أشد المصائب، واثقًا بالله ربه، مطمئن البال مرتاح القلب وهو يردد: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾.

نعم، إن العارف بالله يتلذذ من عجزه وخوفه من الله سبحانه. وحقًا إن في الخوف لذة! فلو تمكنّا من الاستفسار من طفل له من العمر سنة واحدة، مفترضين فيه العقل والكلام: ما أطيب حالاتك وألذها؟ فربما يكون جوابه: هو عندما ألوذ بصدر أمي الحنون بخوفي ورجائي وعجزي.. علمًا أن رحمة جميع الوالدات وحنانهن ما هي إلاّ لمعةُ تجلٍ من تجليات الرحمة الإلهية الواسعة.

ومن هنا وجد الذين كَمُل إيمانُهم لذة تفوق أية لذة كانت في العجز ومخافة الله،حتى إنهم تبرأوا إلى الله براءة خالصة من حولهم وقوتهم ولاذوا بعجزهم إليه تعالى واستعاذوا به وحده، مقدِّمين هذا العجز والخوف وسيلتين وشفيعين لهم عند البارئ الجليل.

أما العلاج الآخر فهو: الدعاء والسؤال ثم القناعة بالعطاء، والشكر عليه والثقة برحمة الرزاق الرحيم.

– أهو هكذا؟

نعم! إن من كان ضيفًا لدى الذي فَرَش له وجه الأرض مائدةً حافلة بالنعم، وجعل الربيع كأنه باقة أنيقة من الورود ووضعها بجانب تلك المائدة العامرة بل نثرها عليها، إن مَن كان ضيفًا عند هذا الجواد الكريم جلَّ وعلا كيف يكون الفقر والحاجة لديه مؤلمًا وثقيلًا؟. بل يتخذ فقره وفاقته إليه سبحانه صورة مُشهٍّ لتناول النِعم. فيسعى إلى الاستزادة من تلك الفاقة كمن يستزيد من شهيته. وهنا يكمن سبب افتخار الكاملين واعتزازهم بالفقر إلى الله تعالى.. «واياك أن تظن خلاف ما نقصد بالفقر؛ إنه استشعار الإنسان بالفقر إليه سبحانه والتضرع إليه وحده والسؤال منه، وليس المقصود إظهار الفقر إلى الناس والتذلل لهم والسؤال منهم بالتسول والاستجداء!».

أما ذلك المستند أو الأمر الإداري أو البطاقة فهو أداء الفرائض وفي مقدمتها الصلوات الخمس واجتناب الكبائر.

– أهو هكذا؟

نعم! إن جميع أهل الاختصاص والشهود وجميع أهل الذوق والكشف من العلماء المدققين والأولياء الصالحين متفقون على أن زاد طريق أبد الآباد، وذخيرة تلك الرحلة الطويلة المظلمة ونورها وبُراقها ليس إلاّ امتثال أوامر القرآن الكريم واجتناب نواهيه،وإلاّ فلا يغني العلم والفلسفة والمهارة والحكمة شيئًا في تلك الرحلة، بل تقف جميعها منطفئة الأضواء عند باب القبر.

فيا نفسي الكسول! ما أخفّ أداء الصلوات الخمس واجتناب الكبائر السبع وما أريحها وأيسرها أمام عِظَم فوائدها وثمراتها وضرورتها! إن كنتِ فطنة تفهمين ذلك. ألا قولي لمن يدعوكِ إلى الفسق واللهو والسفاهة، وإلى ذلك الشيطان الخبيث الماكر:

لو كانت لديك وسيلة لقتل الموت، ولإزالة الزوال عن الدنيا، ولو كان عندك دواء لرفع العجز والفقر عن البشرية، ووساطة لغلق باب القبر إلى الأبد، فهاتها إذن وقُلها لأسمع وأطيع.. وإلاّ فاخرس، فإن القرآن الكريم يتلو آيات الكائنات في مسجد الكون الكبير هذا. فلننصت إليه، ولنتنّور بنوره، ولنعمل بهديه الحكيم، حتى يكون لساننا رطبًا بذكره وتلاوته.

نعم! إن الكلام كلامه. فهو الحق، وهو الذي يُظهر الحقيقة وينشر آيات نور الحكمة.

اللّهم نوِّر قلوبَنا بنور الإيمان والقرآن. اللهم أغنِنا بالافتقار إليك ولا تُفقِرنا بالاستغناء عنك، تبرأنا إليك مِن حولنا وقوتنا والتجأنا إلى حولك وقوتك فاجعلنا من المتوكلين عليك ولا تكِلْنا إلى أنفسنا واحفظنا بحفظك وارحمنا وارحم المؤمنين والمؤمنات.

وصلِّ وسلم على سيّدنا محمد عبدك ونبيك وصفيك وخليلك وجمال ملكك ومليك صنعك وعين عنايتك وشمس هدايتك ولسان محبتك ومثال رحمتك ونور خلقك وشرف موجوداتك وسراج وحدتك في كثرة مخلوقاتك وكاشف طلسم كائناتك ودلاّل سلطنة ربوبيتك ومبلّغ مرضياتك ومعرّف كنوز أسمائك ومعلم عبادك وترجمان آياتك ومرآة جمال ربوبيتك ومدار شهودك وإشهادك وحبيبك ورسولك الذي أرسلته رحمةً للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين وعلى ملائكتك المقربين وعلى عبادك الصالحين… آمين .