﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّٓا اَضَٓاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّٰهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ في ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ﴿17﴾ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴿18﴾ اَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَٓاءِ فيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ اَصَابِعَهُمْ فٓي اٰذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللّٰهُ مُحيطٌ بِالْكَافِرينَ ﴿19﴾ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ اَبْصَارَهُمْ كُلَّمَٓا اَضَٓاءَ لَهُمْ مَشَوْا فيهِ وَاِذَٓا اَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَٓاءَ اللّٰهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَاَبْصَارِهِمْ اِنَّ اللّٰهَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ۟﴿20﴾﴾

 

اعلم أن أساس إعجاز القرآن الكريم في بلاغة نظمه. وبلاغة النظم على قسمين:

قسم كالحِلية وقسم كالحُلّة:

فالأول:

كاللآلئ المنثورة والزينةِ المنشورة والنقش المرصّع. ومَعدِنُه الذي يتحصّل منه هو: توخّي المعاني النحوية الحرفية فيما بين الكَلِم، كإذابة الذهب بين أحجار فضة. وثمراتُ هذا النوع هي اللطائفُ التي تعهّد بيانَها فنُّ المعاني..

والقسم الثاني:

هو كلباسٍ عالٍ وحُلَّة فاخرة قُدّت من أسلوبٍ على مقدار قامات المعاني، وخيطَت من قِطَعات خيطاً منتظماً فيُلبَس على قامة المعنى أو القصة أو الغرض دفعةً. وصَنّاع هذا القسم والمتكفِّل به فنُّ البيان.. ومن أهم مسائل هذا القسم التمثيلُ. ولقد أكثرَ القرآن من التمثيلات إلى أن بلغت الألفَ؛ لأن في التمثيل سرّاً لطيفاً وحكمةً عالية؛ إذ به يصير الوهمُ مغلوباً للعقل، والخيالُ مجبوراً للانقياد للفكر، وبه يتحول الغائبُ حاضراً، والمعقولُ محسوساً، والمعنى مجسّماً، وبه يُجعَل المتفرق مجموعاً، والمختلطُ ممتزجاً، والمختلف متّحداً، والمنقطع متصلاً، والأعزل مسلّحاً. وإن شئت التفصيل فاستمع معي لما يترنّم به صاحبُ «دلائل الإعجاز» في أسرار بلاغته؛ حيث قال:

فصل في مواقع التمثيل وتأثيره

اعلم أنَّ مما اتفق العقلاءُ عليه، أن التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني أو بَرَزتْ هي باختصار في معرضه، ونُقِلَتْ عن صُوَرها الأصلية إلى صورته،كساها أُبَّهةً، وكَسَبها مَنْقَبةً، ورفع من أقدارها، وشَبَّ من نارها، وضاعف قُواها في تحريك النفوس لها، ودعا القلوبَ إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صَبابة وكلَفاً، وقَسَر الطِباع على أن تُعطيها محبة وشغفاً.

فإن كان مدحاً كان أبهى وأفخمَ، وأنبلَ في النفوس وأعظمَ، وأهزَّ للعِطْف، وأسرعَ للإلف، وأجلبَ للفرح، وأغلبَ على الممتدح، وأوجَبَ شفاعة للمادح، وأقضى له بغُرِّ المواهب والمنائح، وأسْيَرَ على الألسن وأذكرَ، وأولى بأن تعْلَقَه القلوبُ وأجدرَ.

وإن كان ذماً كان مَسُّه أوجعَ، ومِيسمُه ألذَع، ووقعُه أشدَّ، وحدُّه أحدَّ.

وإن كان حِجاجاً كان برهانُه أنورَ، وسلطانُه أقهرَ، وبيانه أبهَر.

وإن كان افتخاراً كان شأوه أبعدَ، وشرفه أجدَّ، ولسانه ألدَّ.

وإن كان اعتذاراً كان إلى القلوب أقربَ، وللقلوب أخلبَ، وللسخائم أسلّ، ولغرب الغَضَبْ أفلَّ، وفي عُقَد العقود أنفثَ، وعلى حُسن الرجوع أبعثَ.

وإن كان وعظاً كان أشفى للصدر، وأدعى إلى الفكر، وأبلغَ في التنبيه والزجر، وأجدرَ بأن يَجْلي الغياية، ويبصر الغاية، ويُبرئ العليل، ويشفي الغليل…

وهكذا الحُكم إذا استقريتَ فُنونَ القول وضروبَهُ، وتتبعت أبوابَه وشُعوبه. انتهى..

* * *

ثم إنَّ في الآيات الآتية دلائل إعجاز وأسرار بلاغة فذكرناها هنا لمناسبتها لمسائل المقدمة الآتية.

فمثال التمثيل في مقام المدح:

ما ذكره القرآن في وصف الصحابة مِن ﴿وَمَثَلُهُمْ فِي الْاِنْجيلِ۠ كَزَرْعٍ اَخْرَجَ شَطْـَٔهُ۫ فَاٰزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوٰى عَلٰى سُوقِه يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ﴾ (الفتح:29). وقس نظائره..

وفي مقام الذم:

﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ اِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ اَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾ (الأعراف:176)، و﴿مَثَلُ الَّذينَ حُمِّلُوا التَّوْرٰيةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ اَسْفَارًا﴾ (الجمعة:5)، و﴿اِنَّا جَعَلْنَا فٓي اَعْنَاقِهِمْ اَغْلَالًا فَهِيَ اِلَى الْاَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ﴾ (يس:8)، وقس.

وفي مقام الاحتجاج والاستدلال:

﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ (البقرة:17) و﴿اَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَٓاءِ فيهِ ظُلُمَاتٌ…﴾ إلى آخره (البقرة:19)، و﴿وَمَثَلُ الَّذينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ اِلَّا دُعَٓاءً وَنِدَٓاءً﴾ (البقرة:171)، و﴿مَثَلُ الَّذينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ اَوْلِيَٓاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اِتَّخَذَتْ بَيْتًا﴾ (العنكبوت:41)، و﴿اَنْزَلَ مِنَ السَّمَٓاءِ مَٓاءً فَسَالَتْ اَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَٓاءَ حِلْيَةٍ اَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ﴾ (الرعد:17)، و﴿ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلًا رَجُلًا فيهِ شُرَكَٓاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا﴾ (الزمر:29). وقس عليه.

ونظير مثال الافتخار وإن لم يُسمَّ افتخاراً بيانُ عظمته تعالى وكمالاته الإلهية قولُه تعالى:

﴿وَمَا قَدَرُوا اللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهۗ وَالْاَرْضُ جَميعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيٰمَةِ وَالسَّمٰوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمينِه سُبْحَانَهُ وَتَعَالٰى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (الزمر:67) وقس عليه.

ومثال التمثيل في مقام الاعتذار لا يوجد إلَّا حكايات أهل الأعذار الباطلة للاحتجاج عليهم كقوله: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ (البقرة:88). ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فٓي اَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَٓا اِلَيْهِ وَفٓي اٰذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾ (فصلت:5)، وقس…

ومن الشعر:

لا تَحْسَبُوا أَنَّ رَقْصِي بيْنَكُمْ طَرَبٌ   فَالطّيْرُ يَرْقُصُ مَذبُوحاً مِنَ الألمِ

ومثاله من الوعظ في وصف نعيم الدنيا:

ما ذكره القرآن مِن: ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ اَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهيجُ فَتَرٰيهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا﴾ (الحديد:20)، و﴿اَلَمْ تَرَ اَنَّ اللّٰهَ اَنْزَلَ مِنَ السَّمَٓاءِ مَٓاءً فَسَلَكَهُ يَنَابيعَ فِي الْاَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِه زَرْعًا مُخْتَلِفًا اَلْوَانُهُ﴾ (الزمر:21)، و﴿اِنَّا عَرَضْنَا الْاَمَانَةَ عَلَى السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ وَالْجِبَالِ فَاَبَيْنَ اَنْ يَحْمِلْنَهَا وَاَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْاِنْسَانُ اِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ (الأحزاب:72)، و﴿لَوْ اَنْزَلْنَا هٰذَا الْقُرْاٰنَ عَلٰى جَبَلٍ لَرَاَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْاَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الحشر:21)، و﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضينَ ﴿49﴾ كَاَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ﴿50﴾ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ﴾ (المدثر:49-51)، و﴿مَثَلُ الَّذينَ يُنْفِقُونَ اَمْوَالَهُمْ في سَبيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ اَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ في كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ﴾ (البقرة:261) و﴿كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ اَصَابَهَا وَابِلٌ فَاٰتَتْ اُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَاِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ..﴾ (البقرة:265).

وفي إحباط العمل الصالح بالإيذاء والرياء:

﴿اَيَوَدُّ اَحَدُكُمْ اَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخيلٍ وَاَعْنَابٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الْاَنْهَارُ لَهُ فيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَاَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَٓاءُۖ فَاَصَابَهَٓا اِعْصَارٌ فيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ﴾ (البقرة:266) ﴿مَثَلُ الَّذينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ اَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍۨ اشْتَدَّتْ بِهِ الرّيحُ في يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلٰى شَيْءٍ ذٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعيدُ﴾ (إبراهيم:18).

ومثاله من طبقات الكلام في مقام الوصف:

﴿ثُمَّ اسْتَوٰٓى اِلَى السَّمَٓاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْاَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا اَوْ كَرْهًا قَالَتَٓا اَتَيْنَا طَٓائِعينَ﴾ (فصلت:11)، و﴿وَقيلَ يَٓا اَرْضُ ابْلَعي مَٓاءَكِ وَيَا سَمَٓاءُ اَقْلِعي وَغيضَ الْمَٓاءُ وَقُضِيَ الْاَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمينَ﴾ (هود:44)، و﴿اَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ اَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَٓاءِ ﴿24﴾ تُؤْتٓي اُكُلَهَا كُلَّ حينٍ بِاِذْنِ رَبِّهَا﴾ (إبراهيم:24-25)، و﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبيثَةٍۨ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْاَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾ (إبراهيم:26)…

ومن الشعر:

والليلُ تَجري الدَّراري في مَجَرَّتِه   كالروضِ تطفو على نهرِ أزاهيره

اعلم أن في كل آية من هذه الآيات التمثيلية طبقاتٍ ومراتبَ وصوراً وأساليبَ متنوعة. كلٌّ منها -في كلٍّ منها- كفيلٌ وضامن لطائفة من الحقائق. وكما أنك إذا أخذتَ قواريرَ من فضةٍ وزيَّنتها بذَوب الذهب، ثم نقشتَها بجواهرَ، ثم صيّرتَها ذوات نور بإدراج «الألكتريق» ترى فيها طبقاتِ حُسنٍ وأنواعَ زينةٍ؛ كذلك في كلٍّ من تلك الآيات من المقصد الأصليّ إلى الأسلوب التمثيليّ قد شُرِعَت إشاراتٌ ومُدّت رموزٌ إلى مقامات كأن أصلَ المقصد تدحرجَ على المراتب وأخذ من كلٍّ لوناً وحصةً حتى صارت تلك الكلماتُ من جوامع الكلماتِ بل من جَمعِ الجوامع.

فصل ومقدمة

اعلم أن المتكلم كما يفيد المعنى ثم يُقْنِـع العقلَ بواسطة الدليل؛ كذلك يلقي إلى الوجدان حسِّياتٍ بواسطة صوَر التمثيل، فيحرّك في القلب المَيلَ أو النَّفرةَ ويهيئُه للقبول. فالكلام البليغ، ما استفاد منه العقلُ والوجدانُ معاً، فكما يتداخل إلى العقل يتقطّر إلى الوجدان أيضاً. والمتكفِّل لهذين الوجهَين التمثيلُ؛ إذ هو يتضمن قياساً وينعكس به في مرآة الممثَّلِ القانونُ المندمج في الممثّل به. فكأنه دعوى مدلَّل. كما تقول في رئيس يكابد البلايا لراحة رعيته: «الجبل العالي يتحمّل مشاقّ الثلج والبَرَد، وتخضرّ من تحته الأوديةُ».

ثم إن أساس التمثيل هو التشبيه. ومن شأن التشبيه تحريكُ حسّ النَّفرة أو الرَّغبة أو الميلان أو الكراهية أو الحيرة أو الهيبة؛ فقد يكون للتعظيم أو التحقير أو الترغيب أو التنفير أو التشويه أو التزيين أو التلطيف إلى آخره… فبصورةِ الأسلوب يُوقَظ الوجدانُ وينبَّه الحسُّ بميلٍ أو نَفرة.

ثم إن مما يُحوِج إلى التمثيل عمقَ المعنى ودقّتَه ليتظاهر بالتمثيل، أو تفرُّقَ المقصد وانتشارَه ليرتبط به. ومن الأوّل متشابهات القرآن؛ إذ هي عند أهل التحقيق نوعٌ من التمثيلات العالية وأساليبُ لحقائق محضة ومعقولاتٍ صرفة؛ ولأن العوام لا يتلقَّون الحقائقَ في الأغلب إلّا بصورة متخيّلة، ولا يفهمون المعقولات الصرفة إلّا بأساليب تمثيلية، لم يكن بدٌّ من المتشابهات كـ ﴿اسْتَوٰى عَلَى الْعَرْشِ﴾ (الأعراف:54) لتأنيس أذهانهم ومراعاة أفهامهم.

ثم إني استخرجتُ -فيما مضى من الزمان- من أُسِّ أساس البلاغة مقدِّمةً لبيان إعجاز القرآن ثنتَي عشرة مسألة. كلٌّ منها خيطٌ لحقائق ولما ذُكرت هذه الآيات التمثيلية هنا -دفعةً- ناسبَ تلخيص تلك المسائل فنقول وبالله التوفيق:

المسألة الأولى

إنَّ منشأ نقوش البلاغة إنما هو نظمُ المعاني دون نظم اللفظ، كما جرى عليه اللفظيون المتصلّفون، وصار حبُّ اللفظ فيهم مرضاً مزمناً إلى أن ردَّ عليهم عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، وحصر على المناظرة معهم أكثرَ من مائة صحيفة.

ونظمُ المعاني: عبارة عن توخّي المعاني النحوية فيما بين الكلمات أي إذابة المعاني الحَرفية بين الكَلِم لتحصيل النقوش الغريبة. وإن أمعنتَ النظر لرأيت أن المجرى الطبيعيّ للأفكار والحسيات إنما هو نظمُ المعاني. ونظم المعاني هو الذي يشيَّد بقوانين المنطق.. وأسلوبُ المنطق هو الذي يتسلسل به الفكرُ إلى الحقائق.. والفكر الواصل إلى الحقائق هو الذي ينفُذُ في دقائق الماهيات ونِسَبها.. ونِسَب الماهيات هي الروابط للنظام الأكمل.. والنظام الأكمل هو الصَدَفُ للحُسن المجرد الذي هو منبعُ كلِّ حُسن.. والحسنُ المجرّد هو الروضة لأزاهير البلاغة التي تسمى لطائفَ ومزايا.. وتلك الجنة المُزهرة هي التي يجولُ ويتنـزّه فيها البلابلُ المسمّاة بالبلغاء وعشّاقِ الفطرة.. وأولئك البلابلُ نغماتُهم الحلوة اللطيفة إنما تتولد من تقطيع الصدى الروحاني المنتشر من أنابيب نظم المعاني.

والحاصل: أنَّ الكائنات في غاية البلاغة قد أنشأها وأنشدها صانعُها فصيحةً بليغة، فكلُّ صورة وكل نوع منها -بالنظام المندمج فيه- معجزةٌ من معجزات القدرة. فالكلام إذا حذا حذوَ الواقع، وطابق نظمُه نظامَه حازَ الجزالةَ بحذافيرها. وإلّا فإنْ توجَّه إلى نظم اللفظ وقعَ في التصنّع والرياء، كأنه يقع في أرض يابسة وسراب خادع.

والسرّ في الانحراف عن طبيعة البلاغة أنه: لما انجذب واستعرب العجمُ بجاذبة سلطنة العرب صارت صنعةُ اللفظ عندهم أهمَّ، وفسد بالاختلاط مَلَكةُ الكلام المُضَريّ التي هي أساسُ بلاغة القرآن، وتلوَّن مَعكِسُ أساليب القرآن؛ وإنما معدنها من حسّيات قوم «مُضَر» ومزاجهم. فاستهوى حبُّ اللفظ كثيراً من المتأخرين.

تذييل: تزيينُ اللفظ إنما يكون زينةً إذا اقتضته طبيعةُ المعاني. وشعشعةُ صورة المعنى إنما تكون حشمةً له إذا أذِن به المآلُ. وتنويرُ الأسلوب إنما يكون جزالةً إذا ساعده استعدادُ المقصود. ولطافةُ التشبيه إنما تكون بلاغةً إذا تأسّست على مناسبة المقصود وارتضى به المطلوبُ. وعظمةُ الخيال وجولانُه إنما تكون من البلاغة إذا لم تؤلِم الحقيقةَ ولم تثقُل عليها، ويكون الخيال مثالاً للحقيقة متَسَنْبِلاً عليها. وإن شئت الأمثلة الجامعة لتلك الشرائط فعليك بتلك الآيات التمثيلية المذكورة قبل المقدمة.

المسألة الثانية

إنَّ السحر البياني إذا تجلّى في الكلام صيّرَ الأعراض جواهرَ، والمعانيَ أجساماً، والجماداتِ ذواتِ أرواحٍ والنباتاتِ عقلاءَ، فيوقِع بينها محاورةً قد تنجرّ إلى المخاصمة، وقد تُوصل إلى المطايبة فترقُص الجماداتُ في نظر الخيال.

وإن شئت مثالاً فادخُل في هذا البيت:

يُنَاجِينيَ الإِخْلَافُ مِنْ تَحْتِ مَطْلِهِ   فَتَخْتَصِمُ الآمَالُ وَالْيَأْسُ في صَدْرِي

أو استمع معاشقةَ الأرض مع المطر في:

تَشَكَّى الأَرضُ غَيْبَتَهُ إلَيْهِ     وَ تَرْشُفُ مَاءَهُ رَشْفَ الرُضابِ

فهذه الصورة إنما تسنبلت على تصوّت الأرضِ اليابسة بنـزول المطر بعد تأخّرٍ. ولابد في كل خيال من نواةٍ من الحقيقة نظيرَ هذا المثال، ولابد في زجاجةِ كلِّ مجازٍ من سراج الحقيقة، وإلّا كانت بلاغتُه الخيالية خرافةً بلا عِرقٍ لا تفيد إلّا حيرةً.

المسألة الثالثة

اعلم أن كمال الكلام وجمالَه وحُلَّتَه البيانية بأسلوبه. وأسلوبُه صورةُ الحقائق وقالبُ المعاني المتّخذ من قطعَات الاستعارة التمثيلية. وكأن تلك القطعاتِ «سيِمُوطُوغْرَاف» خياليّ؛ كإراءة لفظِ «الثمرة» جنتَها وحديقتَها، ولفظِ «بارَزَ» معركةَ الحرب.

ثم إن التمثيلات مؤسسةٌ على سرّ المناسبات بين الأشياء، والانعكاسات في نظام الكائنات، وإخطارِ أمور أموراً؛ كإخطار رؤيةِ الهلال في الثريا في ذهن أبناء النخلة غصنَها الأبيض بالقدم المتقوس بتدلي العنقود. وفي التنزيل:

﴿حَتّٰى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَديمِ﴾ (يس:39)

ثم إنَّ فائدة أسلوبِ التمثيل كما في الآيات المذكورة هي أنّ المتكلم بواسطة الاستعارة التمثيلية يُظهر العروقَ العميقة، ويُوصل المعاني المتفرقة. وإذا وضع بيد السامع طرفاً أمكنَ له أن يجرّ الباقي إلى نفسه، وينتقل إليه بواسطة الاتّصال. فبرؤية بعضٍ يتدرج شيئاً فشيئاً -ولو مع ظُلمة- إلى تمامه. فمن سمِع من الجوهريِّ ما قال في وصف الكلام البليغ: «الكلام البليغ ما ثقبَته الفكرةُ».. ومن الخمّار ما قال فيه: «ما طُبخَ في مراجل العلم».. ومن الجمَّال ما قال فيه: «ما أخذتَ بخطامِه وأنَخْتَهُ في مَبْرك المعنى» ينتقل إلى تمام المقصد بملاحظة الصنعة.

ثم إنَّ الحكمة في تشكل الأسلوب هي أن المتكلم بإرادته ينادي ويوقِظ المعانيَ الساكنة في زوايا القلب كأنها حفاةٌ عراةٌ. فيخرجون ويدخلون الخيالَ، فيلبَسون ما يجدون من الصور الحاضرة بسبب الصنعةِ أو التوغل أو الألفة أو الاحتياج، ولا أقل من لفِّ منديلٍ من تلك الصنعة برأسه، أو الانصباغ بلونٍ ما. وما تجدُه في ديباجة الكتب من براعةِ الاستهلال مِنْ أظهرِ أمثلة هذه المسألة.

ثم إن أسلوب الكلام قد يكون باعتبار خيالِ المخاطَب كما في أساليب القرآن فلا تنسَ.

ثم إن مراتب الأسلوب متفاوتةٌ، فبعضها أرقُّ من النسيم إذا سرى يُرمَز اليه بهيئات الكلام، وبعضها أخفى من دسائس الحرب لا يشمّه إلّا ذو دهاء في الحرب؛ كاستشمام الزمخشري مِن ﴿مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَميمٌ﴾ (يس:78) أسلوبَ «مَن يبرزُ إلى الميدان».

وإن شئت فتأمّل في الآيات المذكورة ترَ فيها مصداقَ هذه المسائل بألطف وجهٍ.

وإن شئت زُرِ الإمامَ البوصيريَّ وانظر كيف كتب «رَجَتَتَهُ» بأسلوب الحكيم في قوله:

وَاسْتَفْرغِ الدَّمْعَ مِنْ عَيْنٍ قَدِ امْتَلأتْ   مِنَ الْمَحَارِمِ وَالْزَمْ حِمْيَةَ النَّدَمِ

ورَمز إلى الأسلوب بلفظ الحِمية. أو استمع هدهدَ سليمان كيف أومأ إلى هندسته بقوله: ﴿اَلَّا يَسْجُدُوا لِلّٰهِ الَّذي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ﴾ (النمل:25).

المسألة الرابعة

اعلم أن الكلام إنما يكون ذا قوّةٍ وقدرة إذا كان أجزاؤه مصداقاً لمَا قيل:

عِبَاراتُنا شَتى وَحسْنُكَ وَاحِدٌ   وَكُلٌّ إلى ذَاكَ الْجَمَالِ يُشيرُ

بأن تتجاوبَ قيوداتُ الكلام ونظمُه وهيئته، ويأخذ كلٌّ بيَد الآخر ويظاهِرَه، ويمدّ كلٌّ بقَدَرِه الغرضَ الكلّيِّ مع ثمراته الخصوصية. كأن الغرضَ المشترك حوضٌ يتشرّب من جوانبه الرّطبةَ، فيتولد من هذه المجاوبةِ المعاونةُ، ومنها الانتظامُ، ومنه التناسبُ، ومنه الحُسنُ والجمال الذاتي. وهذا السر من البلاغة يتلألأ من مجموع القرآن لا سيما في: ﴿الٓمٓ ﴿1﴾ ذٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فيهِ هُـدًى لِلْمُتَّقينَ﴾ كما سمعتَه مع التنظير بقوله: ﴿وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ﴾ (الأنبياء:46).

المسألة الخامسة

اعلم أن غِناء الكلام وثروتَه ووسعتَه هو أنه كما أن أصل الكلام يُفيد أصلَ المقصد؛ كذلك كيفياتُه وهيئاته ومستتبعاتُه تشير وترمز وتلوّح إلى لوازم الغرض وتوابعه وفروعه، فكأنما تتراءى طبقةً بعد طبقة ومقاماً خلفَ مقام. وإن شئت مثالاً تأمل في ﴿وَاِذَا قيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْاَرْضِ﴾ إلى آخره، و﴿وَاِذَا لَقُوا الَّذينَ اٰمَنُوا﴾ إلى آخره، على
الوجه المفسَّر سابقاً.

المسألة السادسة

اعلم أن المعاني المُجتناة من خريطة الكلام المأخوذةِ المنقوشة بـ«فُوطُغْراف» التلفّظ على أنواع مختلفةٍ ومراتبَ متفاوتة. فبعضُها كالهواء يُحسُّ به ولا يُرى.. وبعضها كالبخار يُرى ولا يُؤخذ.. وبعضها كالماء يُؤخذ ولا ينضبط.. وبعضها كالسبيكة ينضبط ولا يتعيّن.. وبعضها كالدُّرِّ المنتظم والذهب المضروب يتشخّص، ثم بتأثير الغرض والمقام قد يتصلّب الهوائي. وقد تعتَور على المعنى الواحدِ الحالاتُ الثلاثُ. ألا ترى أنه إذا أثَّر أمرٌ خارجي في وجدانك يتهيّج قلبُك؟ فيثير الحسياتِ فيتطايرُ معانٍ هوائية فيتولد ميولٌ، ثم يتحصّل بعضُها، ثم يتشكل من ذلك البعض قسمٌ، ثم ينعقد من ذلك القسم بعضٌ. ففي كلٍّ من هذه الطبقات يتوضّع وينعقد البعضُ، ويبقى البعض الآخر معلّقاً كمعلّقية بعضِ الصوت عند تشكّل الحروف، والتِّبنِ عند انعقاد الحبوب. فمن شأن البليغ أن يفيدَ بصريح الكلام ما تعلّق به الغرضُ واقتضاه المقامُ وطلبَه المخاطَبُ. ثم يُحيل الطبقاتِ الأُخَر -بمقدار نسبة درجة القُرب من الغرض- على دلالة القيود، وإشارةِ الفحوى، ورمز الكيفيات، وتلويح مستَتبعات التراكيب، وتلميحِ الأساليب، وإيماءِ أطوار المتكلم. ثم إن من تلك المعاني المعلّقة معانيَ حرفية هوائية ليس لها ألفاظٌ مخصوصة، ولا لها وطنٌ معيّن بل كالسَيَّاح السيَّار؛ قد يستتر في كلمة وقد يتشرّبه كلامٌ وقد يتداخل في قصة، فإن عصرتَ تقطَّر؛ كالتحسّر في: ﴿اِنّي وَضَعْتُهَٓا اُنْثٰى﴾ (آل عمران:36) والتأسف في «لَيْتَ الشَّبَابَ.. الخ». والاشتياق والتمدح والخطاب والإشارة والتألّم والتحيّر والتعجب والتفاخر وغيرِ ذلك. ثم إن شرط حُسن المعاشرة بين تلك المعاني المتزاحمة تقسيمُ العناية والاهتمام على نسبة خدمتها للغرض الأساسيّ. وإن شئت مثالاً لهذه المسألة فمن رأس السورة إلى هنا مثالٌ بيّنٌ على الوجه المشروح سابقاً.