ذيل الحباب

مَن كان لله كان له كل شيء..

ومَن لم يكن له، يكن عليه كلُّ شيء.

والكونُ له بتركِ الكلّ له والإذعانِ بأن الكلَّ مالُه ومنه وإليه..

في (ط1)

إفادة مرام

يا أيها الناظر في رسائلي العربية الثمان!

إني أولَ ما كتبتُها، ما كتبتُ إلّا لنفسي، ثم تخطّرتُ أن هذه النعمة من شُكرها نشرُها، لعل أن ينتفع بها أناسٌ. ثم بعد تكرار النظر فيها تفطنت فيها سرا ترددتُ في إظهاره من زمان، ولكن أُحسّ في قلبي الآن سائقا لإظهاره، وهو:

أنه أرى مسائل تلك الرسائل وسائلَ وسلالم للصعود إلى الزنابيل النورانية المتدليّة من عرش الرحمن التي هي الآيات الفرقانية. فما من مسألةٍ منها إلّا ويماسّ رأسُها قدمَ آيةٍ من الفرقان. فمسائلها وإن حصلت لي أولَ ما حصلت شهوديةً وحدسية وذوقية، لكن لدخولي في صحراء الجنون مع رفاقة عقلي مفتوحَ الجفون -فيما يغمض فيه ذووالأبصار- لفّ عقلي على عادته ما رآه قلبي في مقاييسه وَوَزَنه بموازينه واستمسكه ببراهينه.. صارت مسائل هذه الرسائل من هذه الجهة كأنها مبرهنة استدلالية.

فيمكن لمن ضلّ من جهة الفكر والعلم أن يستفيدَ منها ما يُنجيه من مزالق الأفكار الفلسفية.

بل يمكن أن يَستخرج منها بالتهذيب والتنظيم والإيضاح عقائدَ إيمانيةً وعلمَ كلام جديد في غاية القوة والرصانة لردّ ضلالات أفكار هذا الزمان.

بل يمكن لمن اختلط عقلُه بقلبه، أوالتحق قلبُه بعقله المتشتتِ في آفاق الكثرة أن يستنبطَ منها طريقة كسكّة الحديد متينةً أمينةً يسلك فيها تحت إرشاد القرآن الكريم..

كيف لا، وكل ما في رسائلي من المحاسن ما هوإلّا من فيض القرآن..

ولله الحمد كان القرآن هومرشدي وأستاذي في هذا الطريق.

نعم، مَن استمسكَ به استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها.


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي تقدست عن الأشباه ذاتُه، وتنزّهت عن مشابهة الأمثال صفاتُه، الخلّاق الذي ذاك العالمُ الكبير إبداعُه.. وهذا العالَمُ الصغير (أي الإنسان) إيجادُه.. وذا إنشاؤه وهذا بناؤه.. وذا صنعتُه وهذا صبغتُه.. وذا نقشه وهذا زينتُه.. وذا رحمتُه وهذا نعمته.. وذا قدرتُه وهذا حكمته.. وذا عظمتُه وهذا ربوبيتُه وذا مخلوقُه وهذا مصنوعُه.. وذا ملكهُ وهذا مملوكُه.. وذا مسجدُه وهذا عبده.. وعلى جوانبهما بل على كلِّ جزءٍ منهما سكتُه الناطقة بأن الكلَّ مالُه.

اَللَّهُمَّ يا قيومَ الأرض والسماء إنّا نُشهِدك ونُشهدُ حَملَة عرشكَ وملائكتك بشهادة جميع أنبيائكَ وأوليائك وآياتك وجميع مصنوعاتك وجميع خلقك بأنك أنت الله لا إلهَ إلّا أنت وحدك لا شريكَ لك، ونستغفركَ ونتوب إليك ونشهد أن محمدا عبدك ورسولك، أرسلتَهُ رحمةً للعالمين.

اَللَّهُمَّ صلِّ عليه كما يناسب حرمته وكما يليقُ برحمتك وعلى آله وصحبه أجمعين..

اعلم أن ما أنعم الله عليك من وجودك وتوابعه، ما هوإلّا إباحةٌ وليس بتمليك. فلك أن تتصرَّف فيما أعطاكَ كما يرضى مَن أعطى، لا كما ترضى أنت. كمن أضاف أحدا، ليس للضيف أن يُسرف أويَصرف فيما لا إذن للمضيِّف فيه.

اعلم يا من يستغرب الحشرَ الأعظم ويستبعده! ألا تنظر إلى ما بين يديك مما لا يُحصى من أنواع الحشر والنشر والقيامات الخصوصية! وكيف تستبعد القيامة الكبرى مع مشاهدة ما لا يحد من القيامات في كل سنة، حتى في كل شجرة مثمرة أومزهرة؟ وإن شئتَ اليقينَ الشهودي، فاذهب مع عقلك في آخر الربيع والصيف إلى تحت شجرة التوت أوالمشمش، مثلا.. وانظر كيف حُشرت ونُشرت هذه الثمراتُ الحلوة الحية.. والمخلوقاتُ الطرية اللطيفة النظيفة. كأنها أعيانُ الثمرات اللاتي ماتت في السنة الخالية. فهؤلاء الثمرات المنشورة المنثورة اللاتي يضحكن في وجهك، ما هي إلّا أخواتُ الميتات الخاليات وأمثالُها كأنها هي. ولوكانت لها «الوحدة الروحية» كالإنسان كانت هي إياها، أي عينَها، لا مثلَها! ثم تأمل في الشجرة مع يبسها وجمودها وحقارتها وصغرها، مع ضيق مجاريها واشتباك مسيل حَمَلة أرزاق الأزهار والأثمار..كيف صارت تلك الشجرة برأسها عالَما عجيبا، يصور للمدقق تمثال: ﴿وَاِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (الانفطار:4). الحق أن القدرة التي تنشُر من الشجرة اليابسة هذه المصنوعاتِ اللطيفة لا يتعسر عليها شيء ما في الإمكان. آمنا.

اعلم أن تضمين كلِّ سورةٍ سورةٍ من القرآن مجمَلَ ما في كل القرآن وسائرِ السوَر من المقاصد وأهم القصص، لأجل أن لا يُحرَمَ مَن يقرأ سورة فقط عما أُنزلَ له التنـزيل؛ إذ في المكلَّفين الأمّيُّ أوالغبيُّ، ومَن لا يتيسر له إلّا قراءة سورةٍ قصيرة فقط، فمِن هذه اللمعة الإعجازية تصير السورةُ قرآنا تاما لمَن قرأها.

اعلم أن الواحد المتصرفَ في الكثير لا يلزم أن يكون مباشرا مخالطا متداخلا فيما بينهم؛ لاسيما إذا كان مباينَ الماهية، ولاسيما إذا كان غيرَ مادي ولا ممكنٍ، بخلاف الكثير. والفاعلُ الكثير -كفعل الأمير في النفرات- يحصل بالإرادة والأمر بدون الاختلاط والمعالجة. ولوأُحيلت وظائفُ الإمارة وأفاعيلُها على النفرات، لَزِمت المباشرةُ الذاتية والمعالجة، أوانقلاب النفرات إلى ماهية الأمير. فالحق سبحانه مع غاية تقدّسه وتنـزّهه وعلوّه وعظمته، ونهاية بُعدنا وخساستنا، يتصرف فينا كما يشاء.وهوسبحانه كالشمس قريبٌ منا.. ونحن بعيدون منه جلّ جلاله.

اعلم أن الكثرةَ تنجر إلى الوحدة بجهة صيرورة الجزء أنموذجَ الكل، كالشجرة إلى الثمرة؛ فيصيرُ الكل كالكلي، والجزء كالجزئي كضياء الشمس المنبسط في الفضاء، إذ قد تضمن كلٌّ من ذرات ذلك الضياء لتمثالٍ من تماثيل الشمس، كأن الذرات المهتزة شُميساتٌ اتصلت فصارت ضياء مثلا: – ﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى -.. هكذا تجليات أسماء نور الأنوار الأزلي فتجلي أسماء الله يُري بهذين الوجهين كلا وكليا.

اعلم يا مَن اطمأن بالدنيا وسكن إليها! إن مَثَلكَ كمثل من يتدحرج ساقطا من أعلى قصر، يتدحرج ذلك القصر في سيلٍ، يتساقط ذلك السيل من أعالي جبل، يتدحرج ذلك الجبل متنازلا بالزلزلة إلى أعماق الأرض.. إذ قصرُ الحياة ينهدم، وطائرُ العمر يمرّ كالبرق أوشك أن يبيضك في وكر القبر، وسيلُ الزمان تسرع دواليبُه بدرجةٍ تُدهش العقول، وسفينةُ الأرض تمرّ مرّ السحاب. فمَن كان في «شمندوفر» يسرع سرعة شديدة، ثم مدَّ يدَه -في وسط الطريق وفي آن السرعة- إلى أزاهيرَ ذات أشواك مفترسة في جانب الطريق، فمزّقت الأشواكُ يدَه.. فلا يلومنّ إلّا نفسَه. فإذا كان هذا هكذا.. فلا تمدنّ عينيك ولا يديك إلى زهرة الدنيا، فإن أشواكَ آلام الفراق تمزّق القلوبَ في آنِ التلاقي؛ فكيف بوقت الفراق!

فيا نفسي الأمارة بالسوء! اعبدي مَن شئت وادْعي ما شئت.. وأما أنا فلا أعبدُ إلّا الذي فطرني واقَتَدَر على أن سخّر لي الشمسَ والقمر والأرض والشجر، ولا أستمدُّ إلا ممن حَملني في طيارة العمر السابح في فضاءِ محيط القَدر، وسخّر لي الفَلكَ الدائر الطائر بين النجوم السيارات، وأركبني في «شمندوفر» الزمان المار كالبرق في أخدود الأرض وتحت جبل الحياة إلى باب القبر في طريق أبد الآباد.. وأنا قاعد بإذنه وتذكرته في «واغون» هذا اليوم المتصل طرفاه بحلقتي الأمس والغد.. ولا أدعوولا أستغيث إلّا مَن يقتدر على توقيف «جرخ الفَلَك» المحرك ظاهرا لفُلكِ الأرض.. وعلى تسكين حركة الزمان بجمع الشمس والقمر.. وعلى تثبيت هذه الدنيا المتغيرة المتدحرجة من شواهق الوجود في أعماق أودية الفناء والزوال بتبديل الأرض غيرَ الأرض؛ إذ لي آمال ومقاصد متعلقة بكل شيء، تبقى آمالي ملتزقة على ما يمر عليه الزمان، وتذهب عليه الأرض وتفارقه الدنيا، ولي علاقة ولذة بسعادةِ كلِ صالح من أهل السماوات والأرض. ولا أعبد إلّا مَن هو؛ كما يسمع أدقّ هواجس سري ويُصلح لي أرقّ آمالِ قلبي وميوله.. كذلك يقتدر مع ذلك على ما يتمناه عقلي وخيالي من تحصيل السعادة الأبدية لنوع البشر بإقامة القيامة وتقليب الدنيا بالآخرة؛ فيصل يدُه إلى الذرة وإلى الشمس، فلا تتصاغر الذرةُ مختفيةً عن تصرفه، ولا يتكبر كبرُ الشمس على قدرته.. إذ هوالذي إذا عرفتَه انقلبت لك الآلامُ لذائذَ، وبدونه تُنتج العلومُ أوهاما.. والحِكَمُ أسقاما.. بل هي هي.

نعم، وبدون نوره تبكي الوجودات لك إعداما، والأنوار ظلماتٍ، والأحياء أمواتا، واللذائذ آلاما وآثاما، ويصيرُ الأودّاءُ بل الأشياءُ أعداء، وما البقاء بدونه إلّا بلاءٌ، والكمال هباءٌ، والعمر هواءٌ، والحياة عذاب، والعقل عقاب، وتبكي الآمالُ آلاما.

مَن كان لله تعالى كان له كل شيء، ومَن لم يكن له كان عليه كل شيء، والكون له بترك الكل له والإذعان بأن الكلّ مالُه.. وهوالذي فطرك بصورة أحاطت بك دوائرُ متداخلة من الحاجات وجهّزك في أصغرها التي نصف قطرها مدُّ يدك باقتدار واختيار. وجهّزك في البواقي التي وسعت بعضُها كما بين الأزل والأبد والفرش والعرش بالدعاء فقط.. وفي التنـزيل: ﴿قُلْ مَا يَعْبَؤُ۬ا بِكُمْ رَبّي لَوْلَا دُعَٓاؤُ۬كُمْ (الفرقان:77) فالصبي ينادي أبويه فيما لا يصل يدهُ إليه؛ فالعبد يدعوربَّه فيما عجز عنه.

اعلم أن كمالَ صنعة كل شيء وإتقانَها، ما هوإلاّ من سر الوحدة. ولولا الوحدة بلا توزيع وبلا تجزؤ وبلا تزاحم لتفَاوَتَت المصنوعات. كوحدة الشمس ووجودها بالتجلي في كل ما مسَّه ضياؤها.. من ذرةٍ شفافة إلى وجه البحر، ولا يشغلها شيء عن شيء. فهذا السر تشاهده في هذه الشمس الممكنة المسكينة المقيدة المحدودة الجامدة الميتة التي هي قطرة متلمعةٌ بتجلي شعلةٍ من اسم النور الحق. فكيف شمسُ الأزل والسلطان الأبد والقيومُ السرمد الواجبُ الوجود الواحد الأحد الحي القدير الصمد جل جلاله؟ –﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى– فوحدة الضياء المحيط تشير إلى الواحدية، ووجود الشمس بخاصيتها بالتجلي في كل جزء وذرة من ذلك الضياء المحيط يرمز إلى الأحدية. فتأمل!

اعلم أن مِن أصدق شواهد الأحدية:

«الوحدةُ في كل شيء» من ذرات حجيرة من عينك، إلى وحدة العالم.

و«الإتقانُ الأكمل في كل شيء» بما تَسَعه لياقة قابليته المجعولة بقلم القضاء وقالب القدر.

و«السهولةُ المطلقة في إنشاء كل شيء وإيجاده». وأن السهولة المطلقة تدل على أن وجود الصانع ليس من جنس وجود المصنوع، بل لابد أن يكون أثبتَ وأرسخَ منه بما لا يتناهى.

اعلم أن الأرضَ تعطيكم وتبيعكم متاعَها والمالَ الذي في يدها، رخيصا بنهاية الرخيصية. فلوكان المتاع مالَها أونسجَ الأسباب الإمكانية، لمَا اشتريتم رمانةً فردةً بجميع ما تصرفون، لاستحصال جميع ما تأخذونه من جميع الأرض بأيادي أشجارها ومزارعها؛ إذ يُرى في كل حبةٍ أن صانعها اهتم بها وأتقن فيها بنهاية الإتقان وغاية التزيين، وجَمعَ فيها ما جمع بشعور تام، ومهارة حكيمة، وجهّزها بلطائف اللّون والطعم والرائحة لجلب أنظار المشترين. فلولم تكن هي مصنوعةَ مَن لا كُلفةَ ولا معالجةَ ولا مباشرة في صُنعه وإيجاده حتى تتساوى بالنسبة إلى قدرته الحبةُ والحديقةُ والفردةُ الفذةُ وكلُّ النوعِ والذرةُ والشمس.. لمَا كان هذا هكذا بلا ريب وبالبداهة وبالحدس القطعي؛ إذ لابد أن يكون صانعُ هذه الحبّات العِنَبية والرمانية المصنوعة ظاهرا لتطمين ذوقٍ موقت وهوس جزئي لبعض الحشرات والحيوانات، إما مسلوبَ الشعور ومفقودَ الحسّ وعديمَ الإرادة بلا علم وبلا اختيار وبلا كمال، ليكون هذا هكذا رخيصا تافها مبذولا؛ والحال أن الصنعة الشعورية المتقنة الحكيمة المختارة تكذّب هذا الفرضَ أشدَّ تكذيب.. وإما واجبَ الوجود: قدير، مريد، عليم، حكيم، بيده ملكوت كل شيء: ﴿اِنَّمَٓا اَمْرُهُٓ اِذَٓا اَرَادَ شَيْـًٔا اَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (يس:82) ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ اِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ (لقمان:28) بالنسبة إليه، وله في كل مصنوع حِكَمٌ وغايات تنظر إلى تجليات أسمائه وإلى أسرارٍ له في الفعالية الشؤونية، غيرُ ما يعود إلى المستهلكين من الفوائد الجزئية. فلا يمكن أن يكون منشأُ هذا الفيض العام قوّةً عمياء تسيل منها هذه الثمرات كالسيل، ثم تلعب بها يد التصادفات والاتفاقيات؛ إذ تشخصاتها المنتظَمة الحكيمة وخصوصياتها المتقنة الشعورية تردّ يد التصادف الأعمى والاتفاقية العوراء ردا قطعيا يقينا. فبالضرورة تدل هذه الرخيصية المبذولة والسهولة نوعا وكمّا، والإتقان والاقتصاد فردا وشخصا وكيفا، وتشهد على الجود المطلق من الجواد المطلق والحكيمِ المطلق والقدير المطلق جلّ جلالُه وعمّ نوالُه وشمل إحسانه.

فسبحان مَن جَمع نهايةَ الجود المطلق مع نهاية الحكمة المقتصدة، وأدرج الفيض المطلق الغير المحدود في ظروف النظام التام والميزان الحساس والعدل العادل.. الحساسة -تلك الثالثة- بدرجة تُجبر الفيلَ لمدافعة الذباب العاض على ذرة من جسمه الجسيم، وتُقلق هذا الإنسانَ المتكبر، الذي يحكّ بيافوخه كتفَ السماء بطعن البعوض «رُميحته» فيتشمر لمقاتلته: ﴿ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ (الحج:73).. ويسكن غضبُ البحر ويسكت غيظُ العاصفات وتسكن حدةُ البرودة بدعاءٍ خفي من قلبٍ منكسر لصبيّ نجا على لوح منكسر في البحر اللجيّ.. ﴿اَمَّنْ يُجيبُ الْمُضْطَرَّ اِذَا دَعَاهُ﴾ (النمل:62) يجيبُه مَن يسمع هواجس القلب والسر، ويحكم على حركات الشمس والقمر، جلّ سلطانه..

اعلم يا أيها المبتلى بالأسباب، إن خلق السبب وتقدير سببيته وتجهيزه بلوازمِ إنشاء المسبَّب، ليس بأسهل وأولى وأكمل وأعلى من خلق المسبَّب عند السبب بأمر «كن» ممن يتساوى بالنسبة إليه الذراتُ والشموسُ..

اعلم يا قلبي أن ما يُرى ملء الدنيا من آلام الأعدام، إنما هي تجدّد الأمثال، ففي الفراق مع وجود الإيمان توجد لذةُ التجدد دون ألم الزوال. فآمِن تُؤمَن، وأسْلِم تسلَم.

اعلم أن العصبيةَ العنصريةَ الجاهلية، ما هي إلّا الغفلةُ المتساندة المتصالبة، وإلّا الضلالةُ والرياء والظلم المتجاوبة المتعاونة.. فيصير الخلقُ وملّته كمعبودِه -العياذ بالله- وأما الحمية الإسلامية، فهي النور المهتز المنعكس من ضياء الإيمان.

اعلم يا من يشتغل بالمناظرة مع الملحدين والمتشككين والمقلدين للزنادقة الأوروبائيين! إنك على خطر عظيم إن كانت نفسُك غيرَ مزكاة، لأجل التحاق نفسك سرا وتدريجا من حيث لا تشعر بخصمائك.. على أن المناظرة بالإنصاف المسمى بالتركي «بي طَرَفَانَه مُحَاكَمَه» أشدُّ خطرا على ذي النفس الأمارة؛ إذ بكثرة تكرار فرض المنصف نفسَه في موقع الخصم يقيمُ في ذهنه خصما خياليا فيتولد منه في دماغه «لُمّةُ تنقيدٍ» تصيرُ وكيلَ خصمه داخلا، فيتعشش الشيطانُ في تلك اللمة. لكن لا تيأس إن كانت نيتُك خالصة. فإذا أحسَستَ بهذا الحال فاصرف عنان الجهاد إلى عدوك الأكبر الداخلي، وعليك بكثرة التضرع والاستغفار.

اعلم أن الآلات الجامدة والحيوانات وجهَلةَ العَمَلة المستخدمة في بناء قصر عجيب لسلطان عظيم، وترسيمِ نقوشه، يعلم كلُّ مَن رآها أنها «لا تعمل بحساب أنفسها بل بحساب مَن يستخدمها» في مقاصده العالية الواسعة وأغراضِه الرقيقة التي تتقاصر عن إدراكها أفكارُ خواص العلماء، فكيف بجَهلَة العوام وبهيمةِ الأنعام وجامدات الأقلام.. كذلك من أمعن في جلوات الأزاهير وتودداتها وتحبباتها إلى أنظار ذوي الحياة تيقَّن أن الأزاهير موظفون -من جانبِ حكيمٍ كريمٍ- بالخدمة والتودد لضِيفَان ذلك الكريم النازلين بإذنه في أرضه، وكذلك الحيوانات.

نعم، أين حس الزهرة وشعور البهيمة، وأين دَرْكُ غايات نقوش الحِكَم ولطائف محاسن الكرم المودَعة في جلوات الأزاهير بتزييناتها، وتطورات الأنعام بمنافعها؟ فما هذه الحالات إلا تعرُّفُ ربٍ كريم وتودُده وتحبّبه إلى عباده وضيوفه جلّ جلاله وعمَّ نوالُه وشمل إحسانُه.

اعلمي! أيتها النفس المشؤومة! إنك تطلبين كلَّ لوازمات المراتب المختلفة في كل مرتبةٍ، وحاجاتِ كل الحواس في حاجة كل حسٍّ، وأذواق كل اللطائف في درجةِ كل لطيفةٍ، وشعاعات كل الأسماء الحسنى في كلِّ اسمٍ، وعظمةَ المؤثر خلفَ كل أثرٍ ومصنوعٍ، وخواصَ المعنى الخارجي في المدلول الظلي، بل في الدال. فاطلبي من كلٍّ ما يليق به وما يَسَعه لئلا تستهوي بك الأوهامُ.

اعلم أنه لابد إذا رأيت نفسَك بعظمتها أن تنظر إلى ما هوأعظمُ منك من السماوات وغيرها، وإذا رأيت ما هوأصغر منك من الهوام والحشرات فانظر إلى حُجيرات جسدك وادخل مع نظرك في حُجيرة منها، ثم انظر إليها حتى ترى البعوضةَ فما فوقها أكبرَ منك، لئلا يسقطَ في عينك أهمية الحِكمة والرحمة والنعمة وإتقان الصنعة فيك. وإذا رأيت الغيرَ الغيرَ المحدود المماثلين لك في النِعم، فانظر إلى احتياجك وعَجز نفسك وحكمة النعمة، لئلا تهونَ عندك قيمةُ نعمتك.

نعم، هل يخفّف احتياجَك إلى العين وجودُ العين في عموم الحيوان؟. أم هل يُنقِص الشمولُ أثر القصد والإنعام الخاص؟ كلا، بل يشدّه ويزيده.

اعلم أن الحياة في كل ذي حياة لها غايات لا تعد ولا تحصى، يعود إلى الحي واحدٌ وإلى المحيي بمقدار مالكيته الغير المتناهية؛ ولا حق للكبير أن يتكبر على الصغير في الخلقة، ولا عبثية في الواقع، وإنما هي في نظر البشر النفسي الغَرور الذي يزعم ويرى أن الأشياءَ كلَّها لأجل منافعه وهوساته. ويحسب أن لا غاية لها غير ما يعود إليه..

نعم، هذه الضيافة المفروشة على ظهر الأرض إكرامٌ للبشر بسرّ الخلافة وبشرط استحصال لياقة الكرامة.. لا لَهُ ولاستفادته فقط.

اعلم أنه إذا قال لك الموسوِس: ما أنت إلّا حيوان مما لا يحد من الحيوانات، والنمل أخوك والنحلة أختك، فأين أنت وأين مَن يَطوي السّماء ﴿كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ (الأنبياء: 104) ﴿وَالْاَرْضُ جَميعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيٰمَةِ وَالسَّمٰوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمينِه (الزمر:67)؟

فقل له: إن عدم تناهي عجزي وفقري وذلّي، مع علمي الإذعانيّ به يصيرُ مرآةً لعدم تناهي قدرته وغَنائه وعزته. فهذا السر رقّاني من مرتبة إخواني الحيوانات. وإن من لوازم كمال عظمته وإحاطة قدرته أن يسمعَ ندائي ويرى حاجاتي ولا يُشغله تدبيرُ الأرض والسماوات عن تدبير شؤوني الحقيرة.

وأما تباعد الإنسان والممكن بدرجة عظمته عن الاشتغال بجزئيات الأمور وخسائسها، فليس من عظمته.. بل إنّما ينشأ من عجزه ونقصه وضعفه. أفلا تشاهد كلَّ حَبابٍ بل كل رشاشةٍ من القطرات والذرات الزجاجية، تشتمل على تمثال الشمس، لوتكلّمت تلك لقالت كلٌّ منها: الشمس لي وعندي وفيّ ومعي.. وما يزاحم تلك الذراتِ في المناسبة مع الشمس لا عيونُ السيارات ولا خدودُ البحور ولا عظمةُ الشمس. بل بدرجة علمنا بعدم تناهي فقرنا وحقارتنا تتزايد القربة -والمناسبة بعدم المناسبة- فما ألطفَ مناسبةَ من لا يتناهى في فقره وعجزه، مع من لا نهاية لغناه وقدرته وعزته وعظمته!

فسبحان مَن أدرج نهايةَ اللطف في نهاية العظمة، وغايةَ الرأفة في غاية الجبروت، وجَمعَ نهاية القُرب مع غاية البُعد. وآخى بين الذرات والشموس، فأظهر قدرته بجمع الأضداد!

فانظر كيف لا تُشغلهُ حشمةُ تدبير الأرض والسماوات عن لطافة تربية الهوام والحشرات، ولا يعوقُه تدبيرُ البر والبحر عن إيجاد أصغر النحل والطير وعن إحياء صغار السماك في أعماق البحور، ولا تزاحمه شدةُ عاصفات البر وحدّة غضب البحر عن كمال لطفه وإحسانه إلى أخفى وأضعفِ وأعجزِ وأصغرِ حيوان ساكنٍ في أخفى مكان، متوكلا تحت ظلمات كثافة البحر وغياهب أمواجه وتفاقم ارتجاجاته، وظلمةِ الليل وظلمات سحابه..

فتبسُمُ الرحمة في خلال غضب البحر وخلف وجهه العبوس القمطرير؛ إذ ينادي هذا البحر بنغماته الواسعة: يا عظيم، يا جليل، يا كبير، يا الله.. سبحانك ما أعظم كبرياءك. فيقابله ذلك الحيوان الصغير بترنّماته الخفية: يا لطيف، يا كريم، يا رزاق، يا رحيم، يا الله.. سبحانك ما ألطفَ إحسانَك. ففي اقتران هذين الذِكرين، وامتزاج هذين التسبيحين حِشمةٌ لطيفة ولطافة محتشَمة وعبودية عالية للواحد الأحد الصمد جلّ جلاله وعمّ نواله..

اعلم أن الأهم الألزم بعد علوم الإيمان، إنما هوالعمل الصالح؛ إذ القرآن الحكيم يقول على الدوام: ﴿الَّذينَ اٰمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ .

نعم، هذا العمر القصير لا يكفي إلّا لما هوأهمّ.. وأما العلوم الكونية المأخوذة من الأجانب فمضرة؛ إلا للضرورة وللحاجات وللصنعة واستراحة البشر.

اَللَّهُمَّ يَا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، ارْحَمْ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ،
وَنَوِّرْ قُلُوبَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِنُورِ اْلإيمَانِ وَالْقُرْآنِ،
وَنَوِّرْ بُرْهَانَ الْقُرْآنِ، وَعَظِّمْ شَرِيعَةَ اْلإسْلَامِ، آمِينَ.

* * *