المناظرات

وصفة طبية

لقارة شاسعة عظيمة الجانب… رديئة الطالع

ولدولة مشهورة عريقة المجد… سيئة الحظ

ولأمة عزيزة جليلة القدر… بلا رائد


مقدمة المترجم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه.

وبعد: فقد أعلن السلطان عبد الحميد الثاني «المشروطيةَ» في 23/تموز/1908م، وهي تعنى تأسيس النظام البرلماني في الدولة العثمانية التي أصبحت بموجبها الوزارة مسؤولة تجاه البرلمان وليس تجاه السلطان، كما أن صلاحية تشريع القوانين غدت من اختصاص البرلمان، وأطلقت على أثرها حرية العمل السياسي وحرية الصحافة وغيرها..

كانت وجهات نظر الناس عامة والمثقفين خاصة متباينة حول «المشروطية»، إذ بدأت الفئـات المختلفة تفسّر «الحرية» بالشكل الذي يروق لها، فبينما اندفعت فئة في تأييد المشروطية ومناصرتها بشدةٍ بغيةَ جرّها لأغراض سياسية واجتماعية وصـولًا إلى مآربهم في تقويض الدولة العثمانية، إذا بآخريـن يتوجسون خيفةً من هذا الانقلاب الـذي حـدث في نـظـام الدولة، وفي الـوقـت نفسـه وقـف آخـرون مبهوتـيـن لا يـتـقدمـون خطوة ولا يتـأخرون، بينما صفق لها غيرهم من المفتونين بحضارة أوروبا المبهورين ببريقها.. وهكذا اختلفت الآراء..

أما بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ فقد سلك مسلك الاعتدال، مسترشدًا بالنهج الإسلامي السالم من التعصب الذميم الذي يعيق كل تجدد، والمبرأِ عن اللهاث وراء الغرب وتقليده تقليدًا أعمى. فناصر مفهوم «الحرية» و«الشورى» ضمن ما هو واضح في الإسلام، ودافع عن «المشروطية» المحددة بحدود الشرع، فكتب مقالات عديدة في الصحف المحلية آنذاك، وألقى كثيرًا من الخطب في الاجتماعات التي عقدت في الميادين العامة والجوامع، مبيِّنًا مفهوم الحرية والشورى في ضوء الإسلام، ومحذِّرًا من التعصب المقيت والتقليد المشين، إذ شعر بمحاولات خبيثة تعمل في الخفاء لاستغلال «المشروطية» وتوجيهها لمصلحةِ مغرضين مناهضين للإسلام. وحينما كان يبذل وسعه في هذا الميدان لم ينسَ السياسيين والمفكرين والصحفيين، فأجرى معهم لقاءات عديدة ناصحًا ومرشدًا وموضحًا المنهجَ الإسلامي الصحيح الذي فيه خير البلاد وصلاح العباد. ولما أدرك أنه أفرغ جهده في مركز الخلافة (إسطنبول) توجّه إلى شرقي الأناضول سنة 1910م وبدأ بجولة واسعة بين مختلف العشائر الكردية والتركية، وعقد معهم اجتماعات وندوات يُجري فيها مناقشات حول أمور اجتماعية وسياسية، وبين لهم صلاحية «المشروطية» بالمفهوم الإسلامي. واختار معهم أسلوب الحوار السهل المستساغ والقريب إلى الأذهان، على الرغم من أنه قد أَورد جملًا أشبه ما يكون بالشفرات، ولفّع قِسمًا من العبارات بالتشبيهات والمجازات، ووجّه الخطاب أحيانًا إلى الأجيال المقبلة.

كان جلّ اهتمامه منصبًا في تحطيم قيود اليأس وكسرِ أغلال القنوط التي كبّلت الناس، وكان يحاول جهده أن يُشعل بصيص الأمل وبريق الرجاء في نفوسهم. فضلًا عن وضعه لهم موازين شرعية ومنطقية لوزن الأحداث المستحدثة، بعقلية متوازنة إيمانية هادئة، بعيدة قدر الإمكان عن الانفعالات وردود الفعل.

دوّن الأستاذ النُّورْسِيّ هذه المحاورات بالتركية في رسالة طبعها في مطبعة «أبو الضياء» بإسطنبول سنة 1913م، ونَشَرها تحت اسم «بديع الزمانك مناظراتي» (مناظرات بديع الزمان) ثم ترجمها إلى العربية بنفسه ونشرها تحت عنوان «رجتة العوام» أي الوصفة الطبية للعوام. وجاءت هذه الترجمة مبهمة مغلقة العبارات، فاضطر الأستاذ أن يكتب في مقدمتها «معذرة طويلة الأذيال» جاء فيها قوله:

«إن هذه الرسالة العربية ترجمتُها من التركية، التي ترجمتها من الكردية، التي ارتجلتها لأسئلة الأكراد القرويين. فالمترجَم من المترجَم من المرتجل، من أمي (يقصد نفسه) لقرويين، لا يتملّس ولا يخلص من خشونة في المعنى واللفظ».

ولم تتح للأستاذ النُّورْسِيّ أن يعيد النظر في رسالته هذه إلّا بعد خمس وأربعين سنة من تأليفه لها، إذ عصَفتْ أعاصير مدمرة بالأمة الإسلامية عامة والتركية خاصة بعد دخول الدولة العثمانية الحربَ العالمية الأولى ودخولِ الأجانب في البلاد ثم الحروبِ الدامية في طردهم منها، حتى انتهى الأمر إلى إعلان الجمهورية وإلغاء الخلافة، وأعقب ذلك عداءٌ سافرٌ للدين، دام طوال ربع قرن من الزمان بل أكثر. وعانى الأستاذ النُّورْسِيّ في تلك الأيام الحالكة أشد الظلم والعنت، إذ ما كان يَحِل في منفى الّا ويُنفى إلى غيره، ولا يبرَّأ من محكمة إلّا ويدخل أخرى، وهكذا إلى ما بعد سنة 1950م حيث تمكن من إعادة النظر في الرسالة، فشذبها وعلّق عليها بهوامش وحذف ما يقرب من ثلثها من بداية الرسالة وما كان قاصرًا على فترة معينة، أو ما يمكن أن يُساء فهمه. وعندما أُريد نشرُها في سنة 1959 أعاد المؤلف فيها النظر بدقة وأجرى بعض التنقيحات والتعديلات من حذف وإضافة، ونحن بدورنا قمنا بترجمة هذه الطبعة المنقحة.

هذا وقد كتب الأستاذ النُّورْسِيّ إلى طلابه رسالة خاصة بعثها لهم من منفاه «قسطموني» يبين فيها رأيه في مؤلفاتِ «سعيد القديم» عامة وفي هذه الرسالة خاصة، ثم أعقبها برسالة أخرى بعثها لهم من منفاه «أميرداغ». كلتا الرسالتين ذات أهمية في فهم مضامينِ مؤلفات سعيد القديم، وقد ألحقنا رسالة قسطموني بهذه المقدمة ونحيل القارئ الكريم إلى «الملاحق» للاطلاع على الرسالة الأخرى قبل مطالعته مؤلفاتِ سعيد القديم الاجتماعية.

أما عملي في الترجمة والتحقيق، فقد اقتصر على الخطوات الآتية:

1- اعتبار النص التركي الموسوم بـ«Münazarat» المطبوع بدار سوزلر بإسطنبول طبعات عديدة جدًا والذي أقره المؤلف نفسه هو الأساس.

2- مقابلة هذا النص بالطبعة الأولى من الرسالة المطبوعة في سنة 1913م في مطبعة «أبو الضياء» بإسطنبول.

3- مقابلته أيضًا بالترجمة العربية التي قام بها المؤلف نفسه، وهي المنشورة ضمن كتاب «الصيقل الإسلامي» المطبوع بمطبعة النور بأنقرة سنة 1958م.

4- مقابلته أيضًا بنسخة الترجمة العربية المحفوظة في المكتبة الوطنية بإزمير تحت رقم 2262/288/20 دون ذكر اسم المطبعة وسنة الطبع.

5- الاحتفاظ بالعبارات والفقرات العربية الواردة في النص التركي كما هي ووضعها بين قوسين مركنين [ ]. فكل ما بين هذين القوسين هو من عبارات المؤلف نفسه.

6- كتابة هوامشَ لشرحِ ما كان معروفًا آنذاك ويحتاج إليه القارئ اليوم، سواء من الأحداث التاريخية أو مواقع جغرافية أو تعابير سياسية.

7- ثم عزوت الآيات الكريمة التي فيها إلى مواضعها من السور، وكذا خرّجت الأحاديث الشريفة من مظانها من أمهات كتب الحديث الموثوقة.

والله نسأل أن يوفقنا إلى حسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل. وصلّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

إحسان قاسم الصالحي

* * *

 

رأي المؤلف في مؤلفاته القديمة

نص الرسالة التي بعثها الأستاذ النُّورْسِيّ لطلابه من منفاه (قسطموني) يبيّن فيها رأيه في الأسباب الموجبة لتنقيحه «المناظرات» وعدوله عن شيء مما ذكره فيها من آراء:

لقد ألقيتُ نظرة إلى رسالة «المناظرات»، وذلك بعد مرور خمس وثلاثين سنة على تأليفها فرأيت فيها وفي أمثالها من مؤلفات «سعيد القديم» أخطاءً وهفوات؛ إذ ألّف تلك الآثار في حالة روحية ولّدها الانقلاب السياسي([1]) وأنشأتها مؤثرات خارجية وعوامل محيطة به.

إنني أستغفر الله بكل حولي وقوتي من تلك التقصيرات راجيًا من رحمته تعالى أن يغفر تلك الخطايا التي ارتكبتها بنية حسنة وبقصد جميل، لدفع اليأس المخيِّم على المؤمنين.

إن أساسين مهمين يهيمنان على آثار «سعيد القديم» -كهذه الرسالة -، والأساسان ذوا حقيقة، ولكن كما تحتاج كشفيات الأولياء إلى تأويل، والرؤى الصادقة إلى تعبير، فإن ما أَحس به «سعيد القديم» بإحساس مسبق (أي قبل وقوع الأمر) بحاجة كذلك إلى تعبير، بل إلى تعبير دقيق، إلّا أن إخباره عما تَوقع حدوثه وبيانه تَلكما الحقيقتين بلا تأويل ولا تعبير، أدّى إلى ظهور شيء من النقص والقصور وخلاف الواقع فيما أخبر عنه.

الأساس الأول: هو ما زفّه من بشرى سارة للمؤمنين بظهور نورٍ في المستقبل، زَفّ هذه البشرى ليزيل بها يأسهم ويرفع عنهم القنوط، فلقد أحسّ بإحساس مسبق أن «رسائل النور» ستنقذ إيمانَ كثير من المؤمنين، وستشد أزرهم في زمان عصيب عاصف. إلّا أنه نظر إلى هذا النور، من خلال الأحداث السياسية التي واكبت الانقلاب وحاول تطبيق ما رآه من نور على واقع الحال من دون تعبير ولا تأويل، فوقع في ظنه أن ذلك النور سيظهر في عالَم السياسة وفي مجال القوة وفي ميدان فسيح… فقد أحسّ إحساسًا صادقًا إلّا أنه لم يوفّق في التعبير عن بُشراه توفيقًا كاملًا.

 الأساس الثاني: لقد أحس «سعيد القديم» ما أحسّ به عدد من دهاة السياسة وفطاحل الأدباء؛ بأن استبدادًا مريعًا مقبلٌ على الأمة، فتصدوا له، ولكن هذا الإحساس المسبَق كان بحاجة إلى تأويل وتعبير، إذ هاجموا ما رأوه من ظل ضعيف([2]) لاستبدادات تأتي بعد مدة مديدة وألقت في نفوسهم الرعب، فحسبوا ظل استبدادٍ -ليس له إلّا الاسم- استبدادًا أصيلًا، فهاجموه. فالغاية صحيحة إلّا أن الهدف خطأ.

وهكذا فلقد أحسّ «سعيد القديم» أيضًا بمثل هذا الاستبداد المخيف فيما مضى. وفي بعض آثاره توضيحات بالهجوم عليه، وكان يرى أن المشروطية الشرعية وسيلة نجاةٍ من تلك الاستبدادات المرعبة. لذا سعى في تأييدها بالحرية الشرعية والشورى ضمن نطاق أحكام القرآن، آملًا أن تَدفعا تلك المصيبة.

نعم، لقد أظهر الزمان أن دولة تسمى داعية الحرية، قد كبّلت بثلاثمائة من موظفيها المستبدين ثلاثمائة مليون من الهنود، منذ ثلاثمائة سنة، وسيطرت عليهم كأنهم ثلاثمائة رجل لا غير، حتى لم تتركهم يحركون ساكنًا، ونفذت قانونها الجائر عليهم بأقسى صورة من صور الظلم، آخذةً آلاف الأبرياء بجريرةِ مجرم واحد. وأعطت لقانونها الجائر هذا اسم العدالة والانضباط. فخدعت العالمَ ودفعته إلى نار الظلم. هذه الدولة غدت مقتدَى ذلك الاستبدادِ القادم في المستقبل.

وفي رسالة «المناظرات» هوامش قصيرة، وملاحظات وردت على صورةِ طُرف ولطائفَ، فهي من قبيل الملاطفة مع قسم من طلابه الظرفاء في تأليفه القديم ذاك، إذ قد وضّح لهم الأمور بأسلوب الدرس والإرشاد.

ثم إن زبدة هذه الرسالة (المناظرات) وروحَها وأساسها، هي ما في خاتمتها من حقيقةِ إقامة «مدرسة الزهراء»، وما هي إلّا المهد الذي سيشهد ظهور «رسائل النور» في المستقبل. فكان يُساق إلى تأسيسها دون إرادة منه، ويتحرى -بحس مسبق- عن تلك الحقيقة النورانية في صورة مادية حتى بدت جهتُها المادية أيضًا، إذ مَنح السلطان رشاد تسع عشرة ألف ليرة ذهبية لتأسيس تلك المدرسة، وأرسيت قواعدها فعلًا، إلّا أن اندلاع الحرب العالمية الأولى حال دون إكمال المشروع.

ثم بعد حوالي ست سنوات ذهبتُ إلى أنقرة، وسعيت في إنجاز تلك الحقيقة، وفعلًا وافق مائة وثلاثة وستون نائبًا في مجلس الأمة من بين مائتي عضو على تخصيص خمسة عشر ألف ليرة ورقية لبناء مدرستنا، ولكن يا للأسف -ألف ألف مرة- سُدَّت جميع المدارس الدينية، ولم أستطع أن أنسجم معهم فتأخر المشروع أيضًا.

بيد أن المولى القدير أسس برحمته الواسعة الخصائصَ المعنوية لتلك المدرسة وهويتها في «إسبارطة» فأظهر «رسائل النور» للوجود. وسيوفق -إن شاء الله- طلابُ النور إلى تأسيس الجهة المادية لتلك الحقيقة أيضًا.

إن سعيدًا القديم على الرغم من معارضته الشديدة لمنظمة «الاتحاد والترقي»([3]) فإنه مال إلى حكومتها ولاسيما إلى الجيش، حيث وقف منهم موقفَ تقديرٍ وإعجاب والتزام وطاعة. وما ذاك إلّا بما كان يحس به من إحساس مسبق من أن تلك الجماعات العسكرية والجمعية الملية سيظهر منهم بعد سبع سنوات مليون من الشهداء الذين هم بمرتبة الأولياء. فمال إليهم طوال أربع سنوات دون اختيار منه، وبما يخالف مشربه. ولكن بحلول الحرب العالمية وخضّها لهم أُفرز الدهن المبارك من اللبن، فتحول إلى مخيض لا قيمة له. فعاد «سعيد الجديد» إلى الاستمرار في جهاده وخالف سعيدًا القديم.

* * *


[1] المقصود إعلان المشروطية.

[2] المقصود: أن الاستبداد الذي كان يمارَس في عهد السلطان عبد الحميد يعدّ ظلًا ضعيفًا للاستبدادات التي حصلت بعد عهده وبعد سقوط الخلافة.

[3] جمعية الاتحاد والترقي: وهي جمعية تشكلت سنة 1888م، كان شعارها «الاتحاد، المساواة، والأخوة» نادت بعزل السلطان عبد الحميد وإقامة حياة برلمانية في البلاد. اتصل بعض أعضائها بالمحافل الماسونية وبالدول الأجنبية، ونجحت أخيرًا في عزل السلطان. وعندما وصلت إلى الحكم أسست حكمًا دكتاتوريًا قاسيًا، ثم ورطت الدولة العثمانية في أتون الحرب العالمية الأولى (بجانب ألمانيا) وبعد أن تمزقت أوصال الدولة العثمانية هرب زعماؤها إلى الخارج.