دعوة إلى إنشاء مجلس شورى للاجتهاد([1])

قال تعالى:

﴿وَاَمْرُهُمْ شُورٰى بَيْنَهُمْ (الشورى:38) ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْاَمْرِ (آل عمران:159)

يرينا التاريخ أنه: متى ما كان المسلمون متمسكين بدينهم فقد ترقوا بقدر تمسكهم بدينهم، بينما تدنوا كلما بدأ ضعف الدين يدب فيهم. بخلاف ما يحدث لأصحاب الأديان الأخرى؛ إذ متى ما تمسكوا بدينهم فقد أصبحوا كالوحوش الكاسرة ومتى ما ضعف لديهم الدين ترقوا في مضمار الحضارة.

إن ظهور جمهور الأنبياء في الشرق رمزٌ من القدر الإلهي إلى أن المهيمن على شعور الشرقيين هو الدين؛ فما نراه في الوقت الحاضر من مظاهر اليقظة في أنحاء العالم الإسلامي تُثبت لنا أن الذي ينبه العالم الإسلامي وينقذه من الذل والهوان هو الشعور الديني ليس إلّا.

وقد ثبت أيضًا أن الذي حافظ على هذه الدولة المسلمة (العثمانية) هو ذلك الشعور رغم جميع الثورات والمصادمات الدامية التي نشبت في أرجائها.. فنحن نتميز بهذه الخاصية عن الغرب، ولا نقاس بهم.

إن السلطنة والخلافة متحدتان بالذات ومتلازمتان لا تنفكان وإن كانت وجهةُ كل منهما مغايِرةً للأخرى.. وبناء على هذا فسلطاننا هو سلطان وهو خليفة في الوقت نفسه يمثل رمز العالم الإسلامي. فمن حيث السلطنة يشرف على ثلاثين مليونًا، ومن حيث الخلافة ينبغي أن يكون ركيزةَ ثلاثمائة مليون من المسلمين الذين تربطهم رابطة نورانية، وأن يكون موضع إمدادهم وعونهم.

فالوزارة تمثل السلطنة، أما المشيخة الإسلامية فهي تمثل الخلافة. فبينا نرى الوزارة تستند -أصلًا- إلى ثلاثة مجالسِ شورى -وقد لا تفي هذه المجالس بحاجاتها الكثيرة- نجد أن المشيخة قد أُودعت إلى اجتهاد شخص واحد، في وقتٍ تعقّدت فيه العلاقات وتشابكت حتى في أدق الأمور، فضلا عن الفوضى الرهيبة في الآراء الاجتهادية، وعلاوة على تشتت الأفكار وتدني الأخلاق المريع الناشئ من تسرب المدنية الزائفة فينا.

من المعلوم أن مقاومة الفرد تكون ضعيفة أمام المؤثرات الخارجية، فلقد ضُحي بكثير من أحكام الدين مسايرة للمؤثرات الخارجية.

وبينما كانت الأمور بسيطة والتسليمُ للعلماء وتقليدُهم جاريًا كانت المشيخة مودَعة إلى مجلس شورى -ولو بصورة غير منتظمة- ويتركب من شخصيات مرموقة، أما الآن وقد تعقدت الأمور ولم تعد بسيطة وارتخى عنان تقليد العلماء واتّباعِهم.. أقول كيف -يا ترى- يكون بمقدورِ شخصٍ واحد القيامُ بكل الأعباء؟

ولقد أظهر الزمان أن هذه المشيخة الإسلامية -التي تمثل الخلافة- ليست خاصة لأهل إسطنبول أو للدولة العثمانية، وإنما هي مؤسسة جليلة تعود للمسلمين عامة. فوضعها الحالي المنطفئ لا يؤهلها للقيام بأعباء إرشاد إسطنبول وحدها ناهيك عن إرشاد العالم الإسلامي!

لذا ينبغي أن تَؤُول هذه المشيخة إلى درجةٍ ومنزلة تتمكن بها من كسب ثقة العالم الإسلامي فتكون كالمرآة العاكسة لمشاكل المسلمين، وتغدو منبعًا فياضًا للاجتهادات والأفكار. وعندها تكون قد أدت مهمتها حق الأداء تجاه العالم الإسلامي.

لسنا في الزمان الغابر، حيث كان الحاكم شخصا واحدا، ومفتيه ربما شخص واحد أيضًا، يصحح رأيه ويصوبه. فالزمان الآن زمان الجماعة والحاكم شخص معنوي ينبثق من روح الجماعة. فمجالس الشورى تملك تلك الشخصية، فالذي يفتي لمثل هذا الحاكم ينبغي أن يكون متجانسًا معه، أي ينبغي أن يكون شخصًا معنويا نابعا من مجلسِ شورى عالٍ، كي يتمكن من أن يُسمِع صوتَه للآخرين، ويَسُوقَ ذلك الحاكمَ إلى الصراط السوي في أمور الدين، وإلا فسيبقى صوته كطنين الذباب أمام الشخص المعنوي الناشئ من الجماعة، حتى لو كان فردًا فذًا عظيما. فهذا الموقع الحساس يُعَرِّض قوة المسلمين الحيوية إلى الخطر مادام باقيًا على وضعه المنكفئ هذا، حتى يصحُّ لنا أن نقول:

إن الضعف الذي نراه في الدين، والإهمالَ الذي نشاهده في الشعائر الإسلامية، والفوضى التي ضربت أطنابها في الاجتهادات قد تفشت نتيجة ضعف المشيخة وانطفاء نورها، حيث إن الشخص الموجود خارج المشيخة يمكنه أن يحتفظ برأيه إزاء المشيخة المستندة إلى شخص واحد. بينما كلام شيخ الإسلام المستند إلى مجلس شورى المسلمين يجعل أكبرَ داهية يتخلى عن رأيه أو يحصر اجتهاده في نفسه في الأقل.

نعم، إن كل من يجد في نفسه كفاءة واستعدادا للاجتهاد يمكنه أن يجتهد، ولكن لا يكون هذا الاجتهاد موضع عمل إلاّ عندما يقترن بتصديقِ نوعٍ من إجماع الجمهور. فمثل هذا الشيخ -أي شيخ الإسلام المستند إلى مجلس شورى- يكون قد نال هذا السر. فكما نرى في كتب الشريعة أن مدار الفتوى: الإجماع، ورأيُ الجمهور، يلزم الآن ذلك أيضًا ليكون فيصلًا قاطعًا لدابر الفوضى الناشبة في الآراء.

إن الوزارة والمشيخة جناحا هذه الدولة المسلمة، فإن لم يكونا جناحين متساويين متكافئين فلا يدوم لها المضي، وإن مضت المشيخة على وضعها الحاضر فسوف تنسلخ عن كثير من المقدسات الدينية أمام اجتياح المدنية الفاسدة.

«الحاجة أستاذ لكل أمر». هذه قاعدة، فالحاجة شديدة لمثل هذا المجلس الشورى الشرعي، فإن لم يؤسَّس في مركز الخلافة فسيؤسس بالضرورة في مكان آخر.

وعلى الرغم من أن القيام ببعض المقدمات يناسب أن يَسبق تأسيسَ هذا المجلس -كمؤسسة الجماعات الإسلامية وإلحاق الأوقاف بالمشيخة وأمثالها من الأمور- فإن الشروع بتأسيس المجلس مباشرة ثم تهيئة المقدمات له يحقق الغرض أيضًا. فالدوائر الانتخابية -للأعيان والنواب- رغم محدوديتها واختلاط وظائفها قد تكون لها تأثير بالواسطة، رغم أن الوضع يستوجب تأسيس مجلس شورى إسلامي خالص كي يتمكن كفالة المهمة السامية.

إن استخدام أي شيء في غير موضعه يكون مآله التعطل، ولا يبين أثره المرجو منه؛ فدار الحكمة الإسلامية التي أنشئت لغاية عظيمة، إذا خرجت من طورها الحالي وأشركت في الشورى مع رؤساء الدوائر الأخرى في المشيخة وعُدّت من أعضائها، واستُدعي لها نحوٌ من عشرين من العلماء الأجلاء الموثوقين من أنحاء العالم الإسلامي كافة، عندها يمكن أن يكون هناك أساس لهذه المسألة الجسيمة.

لا ينبغي أن نكون مترددين ومتخوفين، فلا نعطي الدنية والرشوة من ديننا بالتخوف والتردد. وتلعينُ المدنية الزائفة بما سببت من ضعف الدين، مما يشجع الخوف ويزيد الضعف ويقوي التأثيرات الخارجية.. فالمصلحة المرجحة المحققة لا تضحَّى لأجل مَضرة موهومة.

* * *


[1] لقد طالبتُ بهذه الفكرة أعضاءَ «تركيا الفتاة» إبان إعلان الدستور، فلم يوافقوا عليها، وبعد مضي اثنتي عشرة سنة طالبتُهم بها أيضًا فقبلوها ولكن المجلس النيابي كان قد حل. والآن أعرضها مرة أخرى على نقطة تمركز العالم الإسلامي. (المؤلف).