الفصل الخامس في سجن أسكي شهر

(المدرسة اليوسفية الأولى)

25/4/1935 – 27/3/1936

إن أعداء الإسلام الذين يتربصون الدوائر بكل حركة تمدّ الإيمان وتخدم القرآن ما إن شعروا أن رسائل النور تنتشر والإيمان يترسخ في قلوب الناس، حتى دبّروا مكيدة لإلقاء القبض على الأستاذ النُّورْسِيّ وطلاب النور واتهامهم بتشكيل جمعية سرية، والقيام بأعمال ضد النظام الحاكم وما يهدم أسسه.. وأمثالها من التهم. وعلى إثر هذا أُخذ الأستاذ النُّورْسِيّ وطلابه في 25/4/1935 وسيقوا مكبلي الأيدي إلى «أسكي شهر» لمحاكمتهم.. كان رئيس المفرزة السيد «روحي» مشفقاً على الأستاذ فأمر بفك أغلاله. حتى إنه أصبح صَديقاً له ولطلاب النور بعد ما أدرك الحقيقة.

وقد أتى وزير الداخلية بنفسه ورئيس الجندرمة في 27/4/1935 مع ثلة من مفارز عسكرية مسلحة إلى «إسبارطة»، وأقاموا على طريق «إسبارطة-أفيون» قوة عسكرية من الجنود الفرسان ووضعوا ولاية «إسبارطة» وما حولها تحت السيطرة العسكرية.

ومن جهة أخرى بدأ رئيس الحكومة آنذاك «عصمت إينونو» بزيارة تفقدية في مناطق شرقي الأناضول خشية قيام ثورة فيها لاعتقال الأستاذ النُّورْسِيّ. حيث أشاع أعداء الدين المتسترون أن بديع الزمان وطلابه سيُعدَمون، بغية إلقاء الرعب والخوف في قلوب الناس. علماً أن بديع الزمان لم يتحرك حركة منافية للنظام والأمن طوال حياته بل كان رائده دوماً الحركة الإيجابية البناءة قائلاً: لا يجوز الإضرار بمئات من الناس بجريرة أفراد قلائل. ولهذا لم تحدث حادثة ولو واحدة رغم جميع المظالم التي نزلت به وبطلابه. بل كان يحث دوماً طلابه على الصبر والثبات والاستمرار في العمل للإيمان وعدم القيام بأي عمل تخريبي، إذ إن مثل تلك الأعمال التخريبية لا يفيد منها سوى اللادينيين.

وهكذا اقتيد الأستاذ النُّورْسِيّ ومائة وعشرون من طلابه إلى سجن أسكي شهر ووضعوا في السجن الانفرادي والتجريد المطلق، وبدأت عمليات التعذيب الرهيب تنهال عليهم. لكن الأستاذ رغم الظروف الشاقة استمر في الإرشاد والتوجيه، فتحوّل كثير من المسجونين إلى ذوي صلاح وتقوى.

وعلى الرغم من جمع رسائل النور من بيوت الطلاب وإجراء التحريات الدقيقة فإن المحكمة لم تعثر على مادة للاتهام، ولكن مع هذا حكمت بمقتضى قناعة الحاكم الشخصية على الأستاذ النُّورْسِيّ بالسجن أحد عشر شهراً، وعلى خمسة عشر من طلاب النور بستة شهور وأُطلق سراح البقية وهم مائة وخمسة طلاب. علماً أن الاتهامات لو كانت حقيقية لكانت عقوبتها الإعدام أو الأشغال الشاقة في الأقل. ولأجل هذا فقد اعترض الأستاذ النُّورْسِيّ على قرار المحكمة الجائر الاعتباطي موضحاً أن هذه العقوبة إنما تنـزل على سارق بغل أو مختطف بنت، فطالب المحكمة بالبراءة أو الإعدام أو مائة سنة من السجن.

دفاع الأستاذ النُّورْسِيّ

في محكمة «أسكي شهر»

جوابي في المحكمة

بدهي أن لا يَعلم ولا يَقدر على رعاية الأصول الرسمية والقوانين من انزوى في الحياة مدة ثلاث عشرة سنة. لذا أرجو أن تستمعوا إلى إفادتي هذه بدلاً عن تلك الأسئلة والأجوبة الرسمية، فإني قد استُجوبت ثلاث مرات في إسبارطة رسمياً، ولن تترككم إفادتي الطويلة الجديدة هذه حيارى، بل تنير درب تحقيقاتكم بشأني وتجعلها صائبة حقاً، وتنجيكم من التحقيق والتفتيش عما في الكتب الثلاثين التي هي بين أيديكم الآن.

إن هذه هي الحقيقة نفسها، المعروضة على هيئة حكام المحكمة ووزير الداخلية ورئاسة مجلس المبعوثان (البرلمان)، وهي «طلب استدعاء» و«عرض حال» يتعلق بالحياة الأبدية لكثير من الناس.

أيتها الهيئة الحاكمة المحترمة! لقد اتهموني ببضع مواد فأوقَفوني:

المادة الأولى: وقوع إخبار بوجود النية بالسعي للإخلال بالأمن العام عن طريق استغلال الدين بقصد إرجاع الشريعة (الرجعية).

الجواب:

 أولا: الإمكان شيء والوقوع شيء آخر؛ فمن الممكن أن يقتل أي إنسان أناساً كثيرين. فهل يحاكَم أحد بتهمة «إمكان القتل»؟ ومن الممكن أن يحرق عود الكبريت بيتاً كاملاً. فهل يمحى وجود الكبريت بناء على هذا الممكن؟

ثانياً: حاش لله ألف مرة! إن العلوم الإيمانية التي هي شغلنا الشاغل تأبى أن تُستغل لشيء سوى رضا الله. نعم، لن يكون الإيمان الذي هو المفتاح النوراني والقدسي للحياة الأبدية وشمس الحياة الأخروية، آلة بيد الحياة الاجتماعية السياسية الدنيوية، مثلما لا يمكن أن تتبع الشمس آثار القمر!. نعم، فلا توجد مسألة كونية تزيد أهميتها على مسألة سر الإيمان الذي هو أعظم مسألة في هذا الكون وأكبر سر في خلقة العالم، حتى تستغل هذه المسألة (سر الإيمان) آلةً من أجلها! حاش لله!

أيتها الهيئة الحاكمة! صدِّقوني إذ أقول: «لو كان توقيفي المعذِّب هذا يتعلق بحياتي الدنيوية وبشخصي فقط، لأدمت سكوتي كما أنا ساكت منذ عشر سنين، لكن لتعلق توقيفي بالسعادة الأبدية لكثير من الناس وبـرسائل النور التي تفسِّر وتكشِف طلسم الكائنات العظيم، فلن أتخلى عن هذا السر العظيم، حتى إنه لو كان لي مائة رأس ويقطع منها كل يوم رأس. فلئن نجوت منكم، فلا منجى من قبضة الأجل».

أنا رجل عجوز على حافة القبر. انظروا إلى مسألة سر الإيمان المتعلق بالأجل والقبر الذي لا ينجو منهما أحد، وهي مسألة من مئات المسائل العائدة لهذا الطلسم الذي تفسره رسائل النور تلك الرسائل التي تفسر -كرأي العين- الكشف المعظم للقرآن الحكيم الذي هو كشاف طلسم الكائنات.

فيا عجبي! هل تَكْبُر في عين رجل آمن بالأجل والموت كلُّ مسائل الدنيا السياسية العظيمة أكثر منهما، حتى يجعل منهما آلة استغلال لبلوغ مآربه؟.. علماً أن الأجل الذي يقطع الرقاب في كل لحظةٍ وقتُه غير معلوم.. فإما أنه إعدام أبدي، أو تسريح وتذكرة لرحلة إلى عالم أجمل. والقبر الذي لا يُغلق أبداً، إما باب حفرة للعدم والظلمات الأبدية، أو باب لدنيا أنور وأبقى وخيراً مكثاً.

فإن رسائل النور تبدي للعيان بفيض القرآن بدرجة قطعية -مثلما حاصل ضرب اثنين في اثنين يساوي أربعا- أن هناك حلاً يقينياً وقطعياً، لتحويل الأجل من الإعدام الأبدي إلى وثيقة ترخيص، ولتحويل القبر من حفرة للعدم لا قرار لها إلى بابٍ للجنان. ألا إني أفدي بلا إحجام سلطنة الدنيا كلها لو ملّكوني إياها، لبلوغ هذا الحل. نعم، هذا ما يفعله كل ذي عقل.

فيا أيها السادة! أي إنصاف يسمح بأن ينظر إلى رسائل النور التي تكشف وتوضح مئات المسائل الإيمانية كهذه المسألة، على أنها كتب مُغرضة تُستغل للتيارات السياسية، وكأنها نشريات فاسدة مضرة، حاشاها مائة ألف مرة عن ذلك؟ وأي عقل يرضاه؟ وأي قانون يستلزمه؟

ألا يسأل الجيلُ الآتي مستقبلاً وأهلُ الآخرة التي هي المستقبل الحقيقي وحاكم الآخرة ذو الجلال والإكرام هذا السؤال من هؤلاء المسببين؟ نعم، يلزم لحكام هذه الأمة المتدينة فطرةً في هذا الوطن المبارك أن ينحازوا إلى جانب الدين ويشجعوا التدين من جهة وظيفة الحكم. ثم إنهم إن حافظوا على حيادهم إزاء اللادينيين باسم الجمهورية العلمانية ومبادئها ولم يمسوهم بسوء، فلا ينبغي بداهة أن يتذرعوا بذرائع ليمسوا المتدينين بسوء.

ثالثاً: قبل اثنتي عشرة سنة، دعاني رؤساء أنقرة إليها، تقديراً لجهادي ضد الإنكليز في مؤلَّفي المسمى «الخطوات الست»، فذهبت. لكن لم تنسجم أحاسيس الشيخوخة عندي مع أحوالهم وأطوارهم.

قالوا: «اعمل معنا». قلت: «إن سعيداً الجديد يريد أن يعمل للآخرة، ولن يعمل معكم، لكنه لا يتعقبكم أيضاً».

نعم، لم أتعقب أعمالهم، ناهيكم عن اشتراكي مع من يتعقبهم أو الميل إليهم، بل أسفت لهم، لأن ذلك صار وسيلة -مع الأسف- لتحويل دهاء عسكري عجيب -كان بالإمكان استعماله لصالح أعراف الملة الإسلامية- إلى نقيض هذه الأعراف إلى حد ما. نعم.. لقد أحسست في رؤساء أنقرة، وفي رئيس الجمهورية خاصة، دهاء عنيداً وكبيراً. فقلت: لا يجوز تحويل هذا الدهاء ضد الأعراف بإثارة شبهاته. فسعيت -لذلك- أن أسحب نفسي من دنياهم ما وسعني الجهد، ولم أخض فيها. فانسحبتُ من السياسة منذ ثلاث عشرة سنة. وقد مر علي عشرون عيداً أمضيته -عدا عيداً أو عيدين- عموماً في هذه الغربة، وحيداً كالسجين في غرفتي، لئلا يتوهم أحد أني أخوض في السياسة.

والدلائل التي تدل على عدم تعقبي لأعمال الحكومة وعدم رغبتي في الخوض فيها هي:

الدليل الأول: يعلم أخلائي في قرية «بارلا» التي كنت فيها لمدة تسع سنين، وفي «إسبارطة» التي كنت فيها لمدة تسعة أشهر، أني لم أقرأ منذ ثلاث عشرة سنة الجرائد التي هي لسان حال السياسة. عدا ما طرق سمعي مرة بغير رغبتي، أثناء حجزي في إسبارطة، فقرة من تهجم صحفي على طلبة رسائل النور بعيد جداً عن الإنصاف وبشكلٍ ينُمّ عن كفر.

الدليل الثاني: لم يبد علينا أي إشارة أو علامة على اهتمامنا بالسياسة مذ كنت في ولاية إسبارطة طوال ثلاث عشرة سنة خلال التحولات العالمية الكثيرة.

الدليل الثالث: هو اعتراف دائرة الولاية ودائرة الشرطة بعدم وجود شيء في كتبي يتعقب سياسة الحكومة، بعد أن دُوهِم محل إقامتي وأُجرِيَ التحري الدقيق على حين غرة وبغير توقع. وأخذوا كتبي وأكثر أوراقي الخصوصية المتراكمة منذ عشر سنوات. أليس عجيبا أن تكشف أشد الأوراق خصوصية لرجل -مثلي أنا- تعرض ولو لمدة عشرة أشهر -وليس عشر سنوات- للنفي والتغريب بلا سبب والظلم بلا رحمة والترصد والتضييق المعذب، ثم لا تظهر في هذه الأوراق عشر مواد تذرّ في وجوه الظالمين؟

فإن قيل: قد كشفنا أكثر من عشرين رسالة لك.

أقول: أتستكثرون علي عَشْر رسائل أو عشرين أو مائة، مرسلة إلى عشرة أخلاء خلال عشر سنوات؟ ألا إنها ليست جريمة وإن كانت ألف رسالة ما دام التراسل مسموحاً به وما دامت لا تتعقب دنياكم؟

الدليل الرابع: إنكم ترون أن كتبي المُصادَرة كلها قد ولّت ظهرها عن السياسة وتوجهت بقوتها كلها إلى الإيمان والقرآن والآخرة، ما عدا رسالتين أو ثلاث رسائل ترك فيها سعيد القديم سكوته، واحتد على تعذيب نفر من الموظفين الغادرين. فاعترض على أولئك الموظفين الذين يسيئون استعمال وظيفتهم وليس على الحكومة، فكتب مشتكياً الظلم. ومع ذلك، اعتبرتُ تلك الرسائل خصوصية ولم آذن بنشرها. فانحصرتْ عند عدد من أخلائي.

إن الحكومة تهتم بالعمل وتترقب الظاهر، ولا يحق لها النظر في القلب والأمور الخفية الخاصة. لذلك يستطيع كل إنسان أن يفعل ما يشاء في قلبه وفي بيته، ويستطيع أن يذم الحكام ولا يرضى عنهم.

فمثلا: كتبت رسالة قصيرة قبل سبع سنوات ومن قبل إحداث الأذان الجديد- أي بالتركية- إزاء تدخل نفر من الموظفين في عمامتي وعبادتي الخاصة وفقاً للمذهب الشافعي. ثم استحدث الأذان بالتركية بعد مدة فقلتُ: إن تلك الرسالة خصوصية ومَنعتُ نشرها.

ومثلاً: كتبت جواباً عندما كنت في «دار الحكمة الإسلامية» عن اعتراض صدر من أوروبا ضد آية الحجاب. وقد سجل الجواب -المسمى رسالة «الحجاب»- قبل أكثر من سنة، مستلاً من رسائلي القديمة، كمسالة من مسائل «اللمعة السابعة عشرة»، ثم سُميت «اللمعة الرابعة والعشرون».. ولقد حجبت رسالة «الحجاب» حتى لا تمسّ القوانين اللاحقة الجديدة.. ولا أدري كيف حصل خطأ فأُرسلتْ إلى جهة ما. ثم إن هذه الرسالة جواب علميّ ومفحم عن اعتراض المدنية على آية كريمة في القرآن، وإن حرية العلم هذه لا يمكن أن تقيد في عصر الجمهورية.!

الدليل الخامس: هو اختياري العزلة والانزواء في قرية بإرادتي منذ تسع سنوات، والانسلاخ عن الحياة الاجتماعية والسياسية، وعدم مراجعتي إطلاقاً خلال عشر سنوات الدوائر الرسمية متحملاً أنواع العذاب المصبوب عليّ مرات عديدة مثل هذه المرة، كل ذلك لأجل عدم الخوض في السياسة الدنيوية. ولو أني راجعت لكنت أُقيم في إسطنبول بدلاً عن «بارلا» مثلما فعل غيري. وربما سببُ توقيفي الغادر هذه المرة، هو إثارة والي إسبارطة ونفر من موظفي الحكومة الشكوك لدى وزارة الداخلية، لسخطهم عليّ وثلم عزتهم بعدم مراجعتي إياهم، فجعلوا من الحبة قبةً لحقدهم وعجزهم.

الحاصل: يعلم جميع أخلائي الذين يعرفونني عن كثب، بأن الخوض في السياسة، أو التعلق بها، بل حتى التفكير فيها يخالف مقصدي الأساس وأحوالي النفسية وخدمتي القدسية الإيمانية. لقد مُنحتُ نوراً لا صولجان سياسة. إن حكمةً من حِكَم حالي هذه هي أنني أعتقد أن الله تعالى جعل في قلبي نفوراً شديداً من السياسة وكرهاً لها، حتى لا يقع كثير من الداخلين في مسلك الوظيفة والمشتاقين جداً إلى الحقائق الإيمانية، في النظر إلى هذه الحقائق بقلق أو بعين منتقصة، وحتى لا يحرموا منها.

المادة الثانية: التي عليها مدار اتهامي: التواقيع المشاهدة في أواخر رسالة «المعجزات الأحمدية» ورسالة «بقاء الروح والحشر الأعظم». كأنها تواقيع لأفراد جمعية أو دراويش طريقة!

الجواب: إني أطمئنكم بكل قوتي، أن لا ذنب لأصحاب تلك التواقيع في هذا العمل. إن كان ذنباً فهو ذنبي أنا. ترى هل هو ذنبٌ أن يوقّع للذكرى رجلٌ استحسن كرامة رآها رأي العين لبحث «المعجزات الأحمدية»، وعرف التوافقات العجيبة لأحرف «الألِف» في «الكلمة التاسعة والعشرين» إمضاءً غيبياً لحقانيتها؟ أو رجلٌ زارني ونادراً ما يستطيع زيارتي؟ وهل تسمى «جمعية» التواقيع التي يوقع في دفاتر الذكرى لدور الضيافة أو الأسماء التي تكتب في دفاتر البقالين؟ وهل يعقل عاقل أن يكون أصحاب هذه التواقيع التي ظلت معلقة مثل لوحة -ويمكن أن تقع في يد من يشاء- مدة ثلاث سنوات أو أربع في غرفتي في «بارلا»، أفراداً منتمين إلى جمعية سرية؟ إن أكثر أصحاب التواقيع هم من ضيوفي الذين زاروني. ومنهم من لا علاقة له بالسياسة من إخوة الآخرة. فلا تؤذونا -نحن أصحاب التواقيع- كثيراً. فإن أحد إخوتنا الأطهار غاية الطهارة والمستقيم غاية الاستقامة المقدّم المتقاعد المرحوم السيد عاصم قد استجوب في دائرة استجوابِ إسبارطة. فعلم إن صَدَق يلحق ضررٌ بأستاذه، وإن كذبَ يلحق عبء ثقيل بشرفة العسكري الطويل المستقيم والنظيف. فدعا ربه: «يا رب اقبض روحي». فتقبل الله دعاءه وقُبضت روحه لساعته. فمات شهيدَ الاستقامة، وذهب ضحية الغلط القبيح لمن توهم الخطأ في تعاونٍ على الخير وتصديقٍ لا يمكن أن يعدّه أي قانون في الدنيا ذنباً.

نعم، إن من اقتبس درساً من رسائل النور، يعب شراب الأجل -الذي يعده مذكرة تسريح- بسهولة مثلما يشرب الماء. ولولا أني أفكر في تألم إخوتي الذين يبقون في الدنيا، لدعوت: «يارب، اقبض روحي» مثلما دعا أخي الكريم الشهم السيد عاصم… فلله الأمر!

المادة الثالثة، التي هي سبب اتهامي هو أن رسائل النور تقف في القابل سداً أمام مبدأ التحرر للحكومة، وتخل بالأمن العام، بسبب انتشارها بغير إذن حكومي، وتقويتها للمشاعر الإيمانية.

الجواب: إن رسائل النور نور، ولا يتولد ضرر من النور. وقد ألقت بصولجان السياسة جانباً منذ ثلاث عشرة سنة، وتُرسّخ الحقائق القدسية التي هي أسس الحياتين -الدنيا والآخرة- لهذا الشعب وهذا الوطن. وأُشهد جميع الذين قرؤوا أجزاءها على نفعها -من غير أي ضرر تسببه- لتسعة وتسعين في المائة من هذه الملة المباركة. فليخرج واحد وليدّع أنه رأى فيها ضرراً!

ثانياً: أنا لا أملك مطبعة ولا عندي كتّاب عديدون، وقد أجد بصعوبة كاتباً واحداً يكتب لي. وليس عندي خط حسن، فإني نصف أمي، ولا أطيق الكتابة أكثر من صفحة في الساعة الواحدة بخطي الناقص الرديء.

وقد ساعدني ذواتٌ محترمون مثل المرحوم السيد عاصم بخطهم الجميل، فكتبوا مذكراتي الحزينة جداً في غربتي كذكرى لي. ثم طلب قراءةَ هذه الأنوار الإيمانية آخرون وجدوا فيها دواء شافياً لدائهم، فقرؤوها، فرأوا بحق اليقين أنها ترياق شاف لحياتهم الأبدية، واستنسخوها لأنفسهم. فهل هناك قانون يمنع ذلك؟

إن رسالة «الفهرست» التي وقعتْ في أيديكم ووضعتْ تحت نظر التفتيش، تدل على أن كل جزء من رسائل النور تفسّر حقيقة لآية قرآنية. ولاسيما الآيات المتعلقة بالأركان الإيمانية فتفسرها تفسيراً جلياً إلى درجة تفسد خطط الهجوم على القرآن التي أعدها فلاسفة الغرب منذ ألف سنة ويبدد أسسها. ففي الرجاء الحادي عشر من «رسالة الشيوخ» -التي هي بين أيديكم الآن- برهان واحد من آلاف البراهين الإيمانية والتوحيدية. انظروا إليه كأنموذج، وأنعموا النظر، فستفهمون إن كانت دعواي صحيحة أو خطأ. وأيضاً، كأنموذج على مدى نفعها للوطن والشعب، لا أظن أحداً ينظر بإنصاف إلى «رسالة الاقتصاد» من أجزاء رسائل النور، والرسالة المشحونة بخمسة وعشرين دواء نابعاً من الإيمان «للمرضى» والرسالة المشحونة بستة وعشرين رجاء وسلوى نابعاً من الإيمان للشيوخ، إلا ويرى فيها خزينة ثروة ثمينة للغاية وترياقاً شافياً وضياءً نافعاً لطائفة الفقراء والمرضى والشيوخ الذين هم أزيد من نصف هذه الملة المباركة.

ثم أقول لمساعدتكم في مهمة التحقيق. إن «رسالة الفهرست» فهرست لقسم من الرسائل التي عمرها عشرون عاماً. أصل بعض رسائلها يبدأ من «دار الحكمة الإسلامية» وأيضاً الأرقام التي في «الفهرست» ليست على ترتيب التأليف؛ فمثلاً كُتِبَتْ «الكلمة الثانية والعشرون» قبل «الكلمة الأولى» و«المكتوب الثاني والعشرون» قبل «المكتوب الأول» وأمثالها كثير.

ثالثاً: إن أجزاء رسائل النور التي ليست سوى علوم إيمانية تؤسس الأمن والنظام، ذلك لأن الإيمان الذي هو منبع الخُلُق الحسن والخصال الحميدة ومنشؤها، لن يخلّ بالأمن بل يحققه ويضمنه. أما ما يخل بالأمن فهو عدم الإيمان بسوء خُلُقه وسجيته.

واعلموا أن وزير المستعمرات البريطاني قال قبل ما يقرب من ثلاثين عاماً: «إننا لن نستطيع أن نحكم المسلمين حقاً مادام هذا القرآن في أيديهم، فينبغي أن نسعى لرفعه وتضييعه». إن كلام هذا الكافر العنيد حوّل نظري منذ ثلاثين سنة إلى فلاسفة أوروبا، فأنا أجاهدهم بعد جهاد نفسي، ولا ألتفت إلى ما في الداخل، إذ أرى النقص والتقصير في الداخل هو نتيجة ضلال أوروبا وإفسادها، لذا أحتدّ على فلاسفة أوروبا وألطمهم لطمات تأديب. فلله الحمد، إن رسائل النور خيبت آمال أولئك الكفار العنيدين، مثلما أسكتت تماماً الفلاسفة الماديين والطبيعيين. ولا توجد حكومة في الدنيا -مهما كان شكلها- تمنع محصولاً مباركاً لوطنها ومنجماً عظيماً لقوتها المعنوية مثل هذه الرسائل، تَدِينُ ناشرها. إن الحرية التي يتمتع بها الرهبان في أوروبا ترينا أن أي قانون كان لا يتابع تاركي الدنيا والعاملين بقواهم الذاتية للآخرة والإيمان.

الحاصل: أجزم أنه لا قانون في الدنيا يقول بمنع، أو يَقدر أن يمنع، كتابة الخواطر العلمية بشأن الإيمان الذي هو مفتاح السعادة الأبدية لرجل عجوز، محكوم عليه بالتغريب لمدة عشر سنوات، وممنوع عن الاختلاط بالناس والمراسلة. وإنّ عدم تعرض هذه الخواطر إلى الجرح والانتقاد من قبل أي عالم كان، يثبت أنها عين الحق ومحض الحقيقة.

المادة الرابعة: لبيان سبب اتهامي وتوقيفي هو: وقوع إخبار عني أنني أدرّس الطريقة التي منعتها الدولة.

الجواب:

أولاً: كتبي التي في أيديكم كلها تشهد أني منشغل بالحقائق الإيمانية. ولقد كتبت مرات عديدة في رسائلي «أن هذا الزمان ليس زمان الطريقة، بل زمان إنقاذ الإيمان. وكثيرون جداً يدخلون الجنة بغير طريقة، ولكن لا أحد يدخلها بغير إيمان. لذلك ينبغي العمل للإيمان».

ثانياً: أنا موجود في ولاية إسبارطة منذ عشر سنين. فليدّع إنسان واحد أني علّمته درساً في الطريقة. نعم.. قد درّست بعض الخواص من إخوة الآخرة دروساً في العلوم الإيمانية والحقائق العالية باعتباري عالماً. إن هذا ليس تعليم طريقة، بل تدريس حقيقة. ثمّ شيء أُنبه إليه: أنا شافعي المذهب، وتسبيحاتي بعد الصلاة تختلف قليلاً عن تسبيحات الأحناف. وأيضاً، أنشغل في خلوة مع نفسي للاستغفار عن ذنوبي وتلاوة آيات كريمة وما شابه ذلك، ولا أستقبل في أثنائها أحداً من بعد صلاة المغرب إلى صلاة العشاء وقبل الفجر. ولا أظن أن أي قانون في الدنيا يمنع هذه الحال.

لمناسبة مسألة الطريقة هذه، يسألني موظف الحكومة والمحكمة: «بمَ تعيش؟»

الجواب: يعلم أخلائي الذين يتصلون بي أنى أعيش -بمشاهدة أهل «بارلا» التي أقيم فيها منذ تسع سنوات- بأربعين بارة يومياً غالب أيامي أو بمصروف أقل من ذلك، ببركات شدة الاقتصاد وبخزينة القناعة التامة. حتى إني استكفيت بسبع ليرات ورقية في سبع سنوات لحاجات مثل الملبوسات والنعال. ثم يعلم أخلائي الذين يخدمونني وبشهادة سيرة حياتي التي في أيديكم، أني تعففت طوال عمري عن قبول الهدايا والصدقات من الناس، وجرحت شعور أصدق خلاني برفض هداياهم. فإن اضطررت إلى قبول هدية فقد أخذتها بشرط الرد بمثلها. ولقد صرفت أكثر مرتّباتي التي أخذتها في «دار الحكمة الإسلامية» في طبع الكتب التي صنّفتها في ذلك الوقت، وادخرت القليل منها بقصد الحج. إن تلك النقود القليلة كفتني عشر سنوات ببركات الاقتصاد والقناعة وحفظت ماء وجهي، وعندي حتى الآن بقية من ذلك المال المبارك.

أيتها الهيئة الحاكمة!

لا ينبغي أن تملوا من سماع إفادتي الطويلة هذه، لأن ما يقرب من ثلاثين من الكتب قد أدخلت ضمن أوراق مذكرة التوقيف، فهذه الإفادة الطويلة تعد قصيرة للغاية قياساً بأوراق اتهامي. أنا أجهل القوانين بسبب انعزالي عن سياسة الدنيا منذ ثلاث عشرة سنة. وتشهد سيرة حياتي أني ترفّعت عن الخداع في الدفاع عن نفسي. لقد بينتُ حقيقة الحال كما هي. وأنتم لكم وجدانكم، وتعلمون وجه إنفاذ القوانين بغير غدر. فاحكموا بشأني.

واعلموا أن بعض الموظفين غير الكفوئين، نظروا في شأني بالنظارات المكبرة وجعلوا من الحبة قبة ضمن ألاعيبِ إعداد الأرضية لإنفاذ قوانين التحرر الجديدة، بسبب عدم كفاءتهم، أو أوهامهم، أو من قبيل إظهار ذريعة الذئب للحَمَل، أو الحصول على الرتب، أو التزلف للحكومة. وألحقوا بنا أضراراً تبلغ آلاف الليرات. وأملنا فيكم هو: أن تروا أن ما ظنوه قبة إنما هو حبة بقدرتكم وكفاءتكم. أعنى أن تقلبوا النظارات المكبرة وتنظروا من طرفها الآخر.

ثم لي رجاء: إن قيمة كتبي التي صودرت تزيد على ألف ليرة عندي، فأعيدوها إليّ. لقد أعلن مدير مكتبة أنقرة في الصحف بفخر وشكر عن قبول قسم مهم منها في المكتبة قبل اثنتي عشرة سنة. وأريد -بموافقة هيئتكم التي تتحكم في حياتي الآن- أن تعطوا صورة من إفادتي هذه إلى المدعي العام لغرض إقامة الدعوى على من تسببوا في إيقاع الأذى والضرر بي، وصورة إلى وزارة الداخلية وصورة إلى مجلس المبعوثان (البرلمان).