الرسالة التاسعة([1])

 شَمَّة

من نسيم هداية القرآن


في (ط1)

إفادة المرام

اعلم أيها الناظر! إني أسمع من الناس شكايةً عن الغموض في آثاري، فاستمع مني ثمانية كلام:

فأولا: لا تعجل لعتابي لأجل الإشكالات، إذ مخاطبي نفسي الدساسة، وهي تفهم بسرعةٍ أجوبةَ أسئلتِها المخطئة ولوبالرمز.

وثانيا: إن كل مسألة افتتحت بـ«اعلم» سلاحٌ قاطع، ودواءٌ نافعٌ، أُعطِيتُه من حيث لم أحتسب، في وقت شدة احتياجي وكثرة جروحي. فليس لي في الكتاب مالٌ إلّا ما ليس في الكتاب من الألم والجرح والداء المستتر في الضمير. وأما المذكور في الكتاب من الدواء والسلاح وذوق الحق، فليس مني، ولا مما مضغه فكري، بل من فيض القرآن الكريم.

وثالثا: إني لا أبالي بتنقيد الناس؛ إذ لله الحمد إني لا أعرف الآن لنفسي غيرَ القصور والعجز وما تستحق من الذم. فإذا أردتُ التمدحَ والافتخار بأثري لا أرى إلّا ما أخجل به وأفتضح، إلّا أن الله ستّارُ العيوب. فكما لا قيمة لنفسي حتى أبتهجَ متصنعا بما يُظَن محاسنَ وهي في الحقيقة مساوئ، كذلك لا أقيم لنفس غيري المتكدرة بالأنانية أيضا وزنا، حتى أتصنّعَ له بالرياء الكلاميّ والتصلف في العبارة. إلّا أنه يليق أن تُلبَس الحقايقُ ما يليق بها.. ولكن هيهات أنا عاجز وأعجمي وخام لا أطيق أن أنسج غيرَ ما ترونه من أساليبي المشوشة، فأعترف وأنادي بأعلى صوتي: بأني عاجز، قاصر في الإفهام. لكن أقول تحديثا بالنعمة وأداءً للأمانة بأني لا أخدعكم، إنما أكتب ما أشاهد أوأتيقن عين اليقين أوعلم اليقين.

ورابعا: لا تحسبنَّ أن ما أكتبه شيء مضغَتْه الأفكارُ والعقول. كلا! بل فيضٌ أُفيض على روحٍ مجروح وقلب مقروح، بالاستمداد من القرآن الكريم، ولا تظنه أيضا شيئا سيالا تذوقه القلوب وهويزول. كلا! بل أنوارٌ من حقائقَ ثابتةٍ انعكست على عقلٍ عليلٍ وقلبٍ مريضٍ ونفسٍ عمي.

وخامسا: إني ما أدري كيف صار عقلي ممزوجا بقلبي، فصرت خارجا عن طريق أهل العقل من علماء السلف وعن سبيل أهل القلب من الصالحين، فإن وافقتُهما «فبها ونعمت»، وإن خالفتُ في كلامي أيّ السبيلين منهما فهومردود عليّ.

وسادسا: لا تطلب في آثاري انتظاما وانسجاما ووضوحا، لأنها تقيِّد وتلخّصُ مشاهداتي في تحولات غريبة ومجرَّبات نفسية مختلفة، مع أمور أخرى، لواطّلعتَ عليها لعذّرتني.

وسابعا: لا تقل: إذا لم أدرِ الكلَّ، لا أُريد الكلَّ.. فإذا كنتَ في بستان أتترك كل الثمرات إن لم تأكل كلها.

وثامنا: إن ما يصادفك في المسائل من صورة البرهان والاستدلال ليس برهانا حتى يقالَ: فيه نظر! بل مبادئ حدسية قُيّدت وعُقدت واستُحفظت بأنوار اليقين المُفاضة من القرآن الكريم.


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين على رحمته على العالمين برسالة سَيد المرسلين محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

اعلم أن العالمَ بجميع أنواعه من طبقات الغيب والشهادة يشهد بأنه: «لا إله إلَّا هو» إذ التساند بينها هكذا يقتضي.. وبجميع أركان جميع أنواعها من المنظومة الشمسية وغيرها تشهد بأنه: «لَا رَبَّ إلَّا هو» إذ التشابه مع التناظر هكذا يقتضي.. وبجميع أعضاء جميع أركانها من أرضنا وغيرِها تشهد بأنه: «لا مَالِكَ إلَّا هو» إذ التماثل مع اتحاد السكة هكذا يقتضي.. وبجميع أجزاء جميع أعضائها من طوائف النباتات وقبائل الحيوانات تشهد بأنه: «لا مُدبِّر إلَّا هو» إذ التعاون مع الاشتباك هكذا يقتضي.

وبجميع جزئيات جميع أجزائها تشهد بأنه: «لا مُربّيَ إلَّا هو» إذ توافق الأفراد في أساسات الأعضاء يصرّح باتحاد القلم وبأن المربّي واحدٌ، وتمايزُها في الصور المنتظمة ينصّ على أن الكاتب مختارٌ حكيم.. وبجميع حُجيرات جميع جزئياتها تشهد بأنه: «لا مُتَصَرف في الحقيقةِ إلَّا هو» ولا تصرفَ إلّا تحت أمره التكويني؛ إذ لولم يتحد لَلَزم وجود متصرِّفين غير متناهين، مع أنها أضدادٌ أمثال ومع أنها مستقلين أُسراءُ، ومع أنها مطلقين مقيَّدين مع محالات أُخر كثيرة.. وبجميع ذرّات جميع حُجيراتها تشهد: بأنه: «لَا نَاظِمَ إلَّا هو» إذ اتحّاد الخيط بين الجواهر الفردة هكذا يقتضي.. وبعموم أثير ذَراتها تشهد بأنه: «لا إلهَ إلَّا هو» إذ بساطةُ الأثير وسكوته وانتظاره وسرعة امتثاله لأوامر الخالق هكذا يقتضي.

اعلم أنّه لا حقَّ لأحدٍ في التشكي والاعتراض على صانع العالم؛ إذ في إرضاء الفرد المشتكي إغضابُ أُلوفِ حِكَمٍ متدلية في نظام مقتضٍ لكسر هوس ذلك الفرد ﴿وَلَو اتَّبَعَ الْحَقُّ اَهوٓاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمٰوَاتُ وَالْاَرْضُ﴾ (المؤمنون:71).

فيا أيها المشتكي! مَن أنت حتى تعترض وتصيّر هوسَك الجزئي مهندسَ كليّات الكائنات، وتجعل ذوقَك الفاسد مقياسَ درجات النِعم؟ وما يدريك لعلّ ما تراه نِقما عينُ النِعَمِ؟ ومَن أنت حتى يُغيَّرَ حركةُ دواليب العالم و«جرخ الفلك» لتسكين هوسِك الذي لا يوازي جناح البعوضة، ولا يملأ نواةَ التينة؟ لكن لك أن تشتكي إليه، لا منه؛ إذ لك منك حَبَّة من صُبرة، والمملوك لا يملك. فاعرف حدَّك ولا تجاوز طورَك.

اعلم أن مَن يتصرف في حُجيرة من عضومن جسد، لابد أن يتصورَ الجسدَ أولا، ثم يتصرّفَ لنظر نسَب الجزء إلى نقوش الكلّ ووضعيته. فالتصرف في الحجيرة تحت أمر خالق الكل البتة.

اعلم أن من يحفظ بيضات الهوام والسمك، وبذورَ الحشرات والنباتات، حفظا رحيما نظيما حكيما، كيف يليق بحفيظيته وحكمته أن يهمل ولا يحفظ أعمالَك التي هي نواتات لأشجارٍ مثمرة في الآخرة، وأنت حاملُ الأمانة وخليفةُ الأرض؟ مع أن شدّة حسّ حفظ الحياة في كل حي، وشدّةَ حسّ التأليف للبقاء والإدامة بين المتباينات المجتمعة يدلان بالحدس الصادق على أن الوجود ينجرّ إلى البقاء الأبدي بتجلي اسم «الحي الحفيظ الباقي».. وأيضا رمزٌ من القدَر الإلهي إلى أن في الفاني ما يبقى.

اعلم أن من يحفظ بذر التينة مثلا في الأطوار ويحميه في الأدوار ويصونه عن الانحلال ويحفظ في تلك البذيرة لوازمات شجرة التينة بكمال الاهتمام والمحافظة، وهكذا سائر النباتات والحيوانات.. لا يهمل -ذلك الحفيظ- البتةَ أعمالَ البشر خليفة الأرض بالضرورة وبالحدس الصادق.

اعلم أن المعنى يبقى واللفظ يتبدل، واللب يبقى والقشر يتمزق، والجسد يبقى واللباس يتخرّق، والروح يبقى والجسد يتفرق، و«أنا» يشبّ والجسد يشيب، والواحد يبقى والكثير يبلى، والوحدة تدوم والكثرة تتمزق، والنور يبقى والمادة تتحلل. فالمعنى الذي يبقى من أول العمر إلى الآخر، مع تبديله لأجسادٍ، وانتقالِه في أطوار، وتدحرجِه على أدوار مع محافظة وحدانيته، يدل على أنَّه يتخطى على الموت أيضا وينسلّ من كلاليبه، متشققَ الجسد، عريان الروح، سالما في طريق الأبد. وشدّة دستور الحفظ والمحافظة في الماديات التي الأصلُ فيها الفناء، تدل بالحدس القطعي وبالطريق الأَولى على جريان ذلك القانون الباقي في المعنى والنور والروح الواحد البسيط، التي الأصلُ فيها البقاء.

اعلم أن عظمة الألوهيّة وعزّتَها واستقلالَها تستلزم دخولَ كلِّ شيء -مطلقا: عظيما أوحقيرا، أعظمَ الأشياء وأخَسَّها- تحت تصرفها. فخستُك وحقارةُ أحوالك لا تستلزم خروجَك. إذ بُعدُك لا يستلزم بعدَه، وحقارة صفتك لا تستلزم حقارةَ وجودك. وتلوث وجه المُلك فيك، لا يستلزم تلوثَ ملكوتك.. وكذا لا تستلزم عظمةُ الخالق خروجَ الحقير عن تصرفه، إذ العظمةُ الحقيقية تستلزم الإحاطةَ، والانفرادَ في الإيجاد.

اعلم أن المادي الكثيف كلّما تعاظم تباعدَ عن الدقائق والخفايا وتقاصر يدُه عنها. وأما النور فكلّما تعاظم وتعالى كان أتمَّ نفوذا في الخفايا والدقائق. وكلما كان النور ألطفَ كان أكشفَ لباطن الشيء كشعاع «رونتكن». فإذا كان هذا هكذا في الممكن المسكين والكثرة المشوشة، فكيف بنور الأنوار من طرف الوجوب والوحدة العالِمِ بالأسرار ومدبّر الليل والنهار؟ فعظمتُه تستلزم الإحاطةَ والنفوذ والشمول.

اعلم وانظر إلى كمال مراعاة القرآن ومماشاته وتأنيسه لأفهام جمهور العوام الذين هم الأكثر المطلق؛ إذ يَذكر في المسألة ذاتِ الدرجات الدرجةَ القريبةَ إليهم، والصحيفةَ الواضحة لنظرهم، وإلّا لزم أن يكون الدليل أخفى من النتيجة. فالقرآن يذكر الأشياء الكونية للاستدلال على صفات الخالق جلّ جلاله. فكلما كان أظهرَ لفهم الجمهور كان أوفق للإرشاد.

مثلا: يقول:

﴿وَمِنْ اٰيَاتِه خَلْقُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ وَاخْتِلَافُ اَلْسِنَتِكُمْ وَاَلْوَانِكُمْ﴾ (الروم:22) مع أن خلفَ طبقة الألوان مسافاتِ تعيّناتِ الوجهِ كما أُشير إليها في «ذرّة» ويقول: ﴿اِنَّ في خَلْقِ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَاٰيَاتٍ﴾ (آل عمران:190) مع أن تحت صحيفة الليل والنهار المقروءة بأول النظر عجائبَ نقوشِ تحريكِ الأرض على نفسها وتدويرها حول الشمس. ويقول: ﴿وَالْجِبَالَ اَوْتَادًا﴾ (النبأ:7) مع أن تحت ما يُرى من صورة سفينة الأرض وخيمتها المرساة المربوطة بالعمد والأوتاد تسكينَ غضب الأرض التي ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ﴾ (الملك:8) بسبب الهرج والمرج في بطنها وإسكات غضبها بخلق الجبال فتتنفس الأرضُ من منافذها، فتهتز بالزّلزلة فقط، بدل التمزق لولا الجبال، وتحت هذه الصحيفة أيضا جعل الجبال مخازنَ الماء ومشّاطةَ الهواء وحاميةَ التراب من استيلاء البحر والتوحل. وهذه العناصر أوتادُ حياة الحيوان، الذي الناطق منه «وتد» الدنيا. فقس على هذه أمثالها.

ومن هذا السر ترى الشريعةَ تعتبر رؤيةَ الطلوع والغروب، دون الحساب الحقيقي.. ومن هذا السر أيضا التردادُ للتثبيت، والتكريرُ للتقرير في القرآن الحكيم.

اعلم أن حقائق الآيات أوسع بمراتبَ من خيالات الأشعار، فتنـزّهتْ عن الشعرية. والمتكلمُ خلف الآيات يبحث عن شأنه وفعله، وفي الشعر فضوليٌّ يبحث عن غيره. والقرآن الباحث عن العاديّات في الجملة خارقٌ للعادة، والشعر الباحث عن خوارق العادات في الأكثر عادي.

اعلم أن مرايا وحدة الخالق وصحائفَ شواهدِها متعدّدةٌ متنوعة متداخلة متحدة المركز غيرُ محدودة؛ فتنوُّر واحدٍ في النظر المتبصر يستلزم تنوّرَ الكل، وبفتح واحدٍ يمكن بالدّخول فتحُ الكل، دون العكس؛ إذ انسدادُ واحد لاسيما الأدنى لا يستلزم انسداد الكل. مع أن النفسَ الأمارة بتعليم الشيطان تكذِّب الأصلَ الصادق وتصدّق بالعكس الكاذب.

اعلم أنه كما لا يمكن أن يكون كاتبُ الكلمة غيرَ كاتب الحرف، وكاتب السطر غيرَ كاتب الصحيفة، وكاتُبها غيرَ كاتب الكتاب.. كذلك لا يمكن أن يكون خالقُ النملة غيرَ خالق جنس الحيوان، وخالقُه غيرَ خالق الأرض، وخالقُها غيرَ رب العالمين.

ومن إشارات الربوبية المطلقة العامة كتابةُ كلمةٍ أوكلام أوكتاب في حرف كبير، لرمز عمومِ الشعور والإحاطة كخلق السمك في حرف البحر، وخلق دابة الأرضة في سطر الشجر، وخلقِ الحيوان في نقطة الأرض، والنملِ في كل موضع يُظَن أنه جامد مهمل متروك، حتى إن بعض المصنوعات كصورة «يس» كتبت فيها سورة «يس».

اعلم أن هذه النجومَ والشموس متماثلة متساوية في الجملة، فليس ربُّها منها بالضرورة، وربُّ واحدِها ربُّ كلِّها وربُّ كل شيء.

……

اعلم أن الفردَ الإنسان جماعةٌ من المكلَّفين، ولكل فردٍ من حواسه -ظاهرا وباطنا- عبادةٌ تخصُّه، وضلالةٌ تفسِّقُه. فكما أن سجدةَ الرأس لغير الله ضلالة، كذلك سجدةُ خيال الشعراء بالحيرة المفرطة والمحبة الوالهة في مدح غير الله -لا بحساب الله- أيضا ضلالةٌ يَفْسُق بها الخيالُ. وقس على الخيال إخوانَه.

اعلم أن من أَعمّ أسباب ضلالة فكر البشر؛ ظَنَّ المألوفِ معلوما، مع أن الألفةَ تتضمّن الجهلَ المركب، فبحُكمِ الألفة لا يتأملون في العادّيات المستمرة مع أنها كلَّها خوارقُ معجزاتِ القدرة، وما يمُعنون النظر إلا في ما فوق العاديّات من نوع التجليات السيالة، كمَن لا ينظر من مجموع البحر -مع ما في بطنه من الحيوانات- إلّا إلى تموّجاته بالهواء وتلألئه بشعاعات الشمس، فيستدل بهذين الحالتين فقط على عظمة مالك البحر وصانعه جلّ جلاله.

اعلم أن أكثر معلومات البشر الأرضية ومسلّماته، بل بدهياته مبنية على الألفة، وهي مفروشة على الجهل المركب. ففي الأساس فسادٌ أي فساد. فلهذا السر توجِّه الآياتُ أنظارَ البشر إلى العاديات المألوفة، وتثقب نجومُ القرآن حجابَ الألفة، ويأخذ بأُذُن البشر ويُميل رأسه، ويريه ما تحت الألفة من خوارق العادات في عين العاديات.

اعلم أن المناسبة حتى المكالمة لا تستلزم التساوي ولا التداني ولا التشابه؛ فقطرة المطر وزهرة الثمر لهما مناسبة ومعاملة مع الشمس. فيا أيها الإنسان! لا تحسبن أن حقارتَك تسترك عن نظر عناية خلاق الكون.

اعلم أن ما اشتهر من وقوع بسط الزّمان وطيّهِ لبعض الأولياء كما وقع للشعراني في مطالعته للفتوحات المكية، في يوم واحد مرتين ونصفا، كما في آخر «اليواقيت والجواهر» لا ينبغي أن يُستغرَب فيُستَنكر؛ إذ فيما تراه له نظائر تقرّبه إلى الفهم؛ ألا ترى أنك ترى في الرؤيا كأن مرَّ عليك سنة في ليلة بل في ساعة. ولوقرأتَ القرآن بَدَلَ ما جرى عليك، وما شاهدتَه من الأقاويل والأفاعيل لقرأت ختماتٍ في تلك الساعة. ففي انكشاف هذه الحالة لأهل الكشف في اليقظة ينبسط الزمان، ويطول العمر، ويتقرب إلى دائرة الروح التي لا يقيّدها الزمان. ولوصُوّرت «ساعة» لها أميالٌ متداخلة لأجل أن تكون ميزانا تشير إلى درجات سرعة الحركات الموجودة في مصنوعات الله، لا سيما لبيان درجات سرعة الصوت، والضياء، و«الألكتريق»، والخيال، ونور العقل، والملَك، والروح. فمِيلٌ يعدّ الساعات وميلٌ الدقائقَ، وميل الثوانيَ إلى الميل الذي يعدّ العاشرات، مع محافظة النسبة بين كلّ آنين من معدودِ أول الأميال إلى آخرها. ففي تلك الساعة مدارُ الميل العادّ للساعات المشيرِ إلى أبطأ الحركات، لوكان مثل دائرة ساعتك هذه، لكان مدارُ الميل العادّ للعاشرات المشيرة لأسرع الحركات مثل مدار زُحل بل أوسع، فافرض أحدا ركب ميلَ الساعات وواحدا امتطى ظهر ميل العاشرات، فانظر كَم بين ما رأَيَا وقَطَعا، فقد انطوى لهذا ما انبسط لذاك بدرجةٍ تكون ثانيةُ ذا سنةَ هذا. ولأن الحركةَ كجسم الزمان أوالزمان كلونِها، فما يجري فيها، يجري فيه أيضا. فلِمَ لا يجوز للولي الغالبِ روحُه على جسمانيّته أن يُصدر أفاعيلَه على مقياس سرعة الروح والخيال؟

اعلم أنه قد يستعظم المرءُ النتيجةَ وهي التوحيد المحض الخالص، ولا يسعها ذهنُه الكاسد، أولا يتحملها خيالُه الفاسد. فيشرع يردّ براهينَها الصحيحة القاطعة، ويتعلل بأن نتيجةً بهذه العظمة لا يمكن أن يقبَلها ويقيمَها هذا البرهان ولوكان في غاية القوة. فالمسكين لا يعرف أن قيّومَ النتيجة الإيمانُ، وما البرهان إلّا مَنفَذٌ ينظر إليها.. أومكنسة يطهّر الأوهامَ عنها. مع أن البرهان ليس واحدا، بل لها براهين عدد رمال الدهناء، وبمقدار حصى البطحاء وقطرات الأمطار وأمواج البحار.

اعلم أن من هيّأ البطيخَ والتفاح لأكلك، لا بد أن يكون أعلمَ بأكلك منك، وخبيرا بذوقك الوجداني الذي لا يدريه غيرُك. فأين العروق والأغصان الجامدة الميتة من هذا العلم؟ فما الأسبابُ والأغصان إلاّ موازيبُ الرحمة ومَسيلاتُ النعمة.

* * *


[1] طبعت هذه الرسالة لأول مرة بمطبعة «أوقاف» بإستانبول سنة 1340هـ (1922)م