ذيل القطرة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحَمْدُ لله رَبّ العَالمين، والصَلاةُ والسّلامُ على سيدنا مُحمّدٍ وعلى آله وصَحبهِ أجمَعين.

رمز

اعلم أن الصلاة في أول الوقت، والنظر إلى الكعبة خيالا مندوبٌ إليهما، ليرى المصلي حول بيت الله صفوفا كالدوائر المتداخلة المتّحدة المركز، فكما أحاط الصفُ الأقربُ بالبيت، أحاط الأبعدُ بعالم الإسلام، فيشتاق إلى الانسلاك في سلكهم، وبعد الانسلاك يصير له إجماعُ تلك الجماعة العظمى وتواترُهم حجةً وبرهانا قاطعا على كل حُكمٍ ودعوى تتضمنّها الصلاة.

مثلا: إذا قال المصلّي «الحمد لله» كأنه يقول كلُّ المؤمنين المأمومين في مسجد الأرض: نعم صَدَقتَ. فيتضاءل ويضمحل تكذيبُ الأوهام ووسوسة الشياطين. وكذا يستفيض كلٌّ من الحواس واللطائف حصةً وذوقا وإيمانا، ولا يعوقها لِمَ؟ وكيف؟ ففي أول الوقت تنعقد الجماعةُ العظمى «للمتقين»، ولاتفاق الصلوات الخمس في الأقوال والأركان لا يخلّ اختلافُ المطالع بخيال المصلي.. ولينظر المصلي وهوفي مكانه إلى الكعبة وهي في مكانها لا يجذبها إليه ولا يذهب إليها ليتظاهر الصفوف، لا يشتغل بها قصدا، بل يكفي شعورٌ تَبَعي. وما يُدريك لعل القَدر الذي لا يُهملُ شيئا من الأشياء يكتب بأشكال هذه الصفوف المباركة المنتظمة في حركاتها سطورا على صحائف عالَم المثال الذي من شأنه حفظ ما فيه دائما..

رمز

اعلم أنّي شاهدتُ في سيري في الظلمات السُّنَن السَّنية نجوما ومصابيح، كلُّ سُنَّةٍ، وكلُّ حَدٍ شرعي يتلمّع بين ما لا يُحصر من الطرق المظلمة المضلّة. وبالانحراف عن السُّنة يصير المرء لعبةَ الشياطين، ومركَبَ الأوهام، ومَعرضَ الأهوال، ومطيةَ الأثقال -أمثالِ الجبال- التي تحملها السُنةُ عنه لواتّبعها.

وشاهدتُ السُننَ كالحبالِ المتدلّية من السماء، من استمسك ولوبجزئي استَصعد واستسعد. ورأيتُ مَن خالَفَها واعتمدَ على العقل الدائر بين الناس، كمَن يريد أن يبلُغَ أسباب السماوات بالوسائل الأرضية فيتحمّق كما تَحمّقَ فرعونُ بـ ﴿يَا هَامَانُ ابْنِ لي صَرْحًا﴾ (غافر:36).

رمز

اعلم أن في النفس عقدة مغلقةً مدهشةً تُصيّرُ الضدَّ مولِّدَ الضّدِ، وترى ما عليها كأنه لها.

مثلا: إن الشمس تصل يدُها إليك تمسحُ أوتضربُ وجهكَ، ولا تصل يدُك إليها ولا يؤثر «كيفُك» فيها. فهي قريبةٌ إليك، بعيدة منك! فكما أنّ جعلَ وجهِ البُعديّة دليلا على عدم تأثيرها فيك، ووجه القُربية دليلا على تأثّرها منك، جهلٌ.. كذلك نظرُ النفس -بعين الهوى والأنانية- إلى خالقها القريب إليها، البعيدِ منها سببُ ضلالتها.

وكذا ترى النفسُ عظمةَ المكافأة، فمن شدة الحرص تقول: ليت، وأنّى، وهيهات. وتسمع دهشة المجازاة، فمن شدة الخوف تتسلى بالتعامي والإنكار.

فيا أيتها النقطة السوداء الحمقاء إن أفعالَه تعالى إنما تليق به وتنظر إليه تعالى، لا بكَ ولا إلى حَوصلتِكَ الضيقة، ولا بنَى هندسةَ الكائنات على هوسِك، ولا أشهَدَك خَلقها. ولقد صدقَ الإمام الرباني في قوله: «لا يحمل عطايا المَلِك إلّا مطاياه».

رمز

اعلم أن مَن يُزَيِّن رأسكَ ويُحسنه، ويعلّق به زينةَ البصر أبصرُ بك منك. فالصانعُ الذي زيّن رأسك بفصّي العينين، وصَدَفي الأُذنين، وعلّق مرجانَ اللسان في مغارة وجهك -يتلقلق- لهوأبصرُ بك منك، وأقربُ إليك منك، وأشفَقُ عليك منك، وأسمعُ لك منك..

رمز

اعلم أنَّ الدعاء لاسيما من المضطرين، له تأثيرٌ عظيم، يسخَّر بسببه أقوى الأشياء وأعظمُها لأضعفِ الأشياء وأصغرِها، كسكوتِ غضب البحر لأجل معصومٍ على لوحٍ منكسر دعا بقلبٍ منكسر؛ فيدلّ على أن المجيبَ يحكم على الكلِّ فهوربُّ الكل.

رمز

اعلم أن من أهم مرض ضلالة النفس؛ طلبُ شوكةِ الكلِّ من الجزء، وحِشمةِ السلطان من نَفَر، فإذا لم تجدْه فيه تَردُّه. مثلا: تطلب تمامَ تجليات الشمس في تمثالها المرتسِم في حَباب، فإذا لم تجد بالتمام تُنكرُ أنه منها.

أيتها النفس! وحدةُ الشمس لا تستلزم وحدة التجليات، وإن الدلالة لا تستلزم التضمن، وإن ما يصفُ لا يلزم أن يتَّصف؛ فالذرةُ الشفافة تصفُ الشمسَ، والنحلة تصف الصانعَ الحكيم.

رمز

اعلم أن الذهاب في طريق الكفر كالذهاب في الجَمَد بل تحت التراب بل الحديد، مع دفع الدافعة، مشكلٌ عسير على مَن توجَّه إليه قصدا وبالذات. وهذا الإشكال يستتر تحت النظر التَبعي.

وفي سبيل الإيمان كالذهاب في الماء بل الهواء بل الضياء، مع جذبة الجاذبة، سهلٌ يسير للمُوفَّق.

مثلا: تريد أن تقابل الشمسُ جهاتك الستة، فإما أن تتحول أنت بلا كُلفة فيحصل المقصود، وإما أن تُكلِّفَ الشمسَ قطع مسافةٍ مدهشةٍ لمقصد جزئي. فالأول: مثال التوحيد سهولةً. والثاني: مثال الشرك إشكالا. هكذا شاهدتُ. وبرهان هذا الرمز في «قطرة».

فإن قلت: فكيف يُقبَل الكفرُ مع هذا الإشكال ويُترَك الإيمانُ مع هذه السهولة؟..

قيل لك: إن الكفر لا يُقبَل قصدا، بل يُزلَق بسوء الهوى ويُسقَط فيه ويُتلوث به. وأما الإيمان فيُقصَد فيقبَل ويُوضع في القلب.

رمز

اعلم أنه كما أن الكلمة الفردةَ مسموعةٌ لألوفٍ من المخاطَبين كواحدٍ لا فرقَ بين الواحد والملايين، كذلك نسبةُ الأشياء إلى القدرة الأزلية، لا فرق بين الفرد والنوع..

رمز

اعلم أن جامعيةَ القرآن ووسعته، ومراعاته لحسيات طبقات المخاطَبين، لاسيما: تَنزّلاته لتأنيس العوام-الذين هم الأكثر المطلق والمخاطَبون أولا وبالذات- مع أنها سببٌ لكماله. فالنفس المريضة تضلّ بها؛ إذ تتحرى في أدنى طرزِ تفهيمِه المناسبِ للمقام أعلى وأزينَ صور الإفادة، وتصيّر الأسلوبَ -الذي هوميزانٌ ومَعكِسٌ لحسّ المخاطب وفهمهِ- ميزانا ومرصادا تنظُرُ منه إلى المتكلم، فتضل ضلالا بعيدا!

رمز

كيف السكون إلى الدنيا بالوجه الثالث والفرح بها؟.. إن الدنيا لها وجوه ثلاثة:

وجه: ينظر إلى أسماء الله.

ووجه: هومزرعة الآخرة.. فهذان الوجهان حَسَنان.

والوجه الثالث: الدنيا في ذاتها بالمعنى الاسمي، مدار للهوسات الإنسانية ومطالب الحياة الفانية.

أنا رُكِّبتُ نقطةً ميتة، وتركَبُني جيفةٌ ميتة. ويومي تابوتي، بين أمسِ وغدٍ قبرَي أبي وابنه. فأنا بين تضييق ميتتين وضغطة القبرين. إلاّ أن الدنيا من جهة أنها مزرعة الآخرة والنظر إليها بنور الإيمان تصير كجنةٍ معنوية.

رمز

اعلم أن وجودك كالبندقة الميرية أوالفرس الميري في يد عسكر. كما أن العسكر مكلّف بتعهد بندقته وفرسِه السلطانيَين، كذلك أنت مكلّف بحفظ أمانتك وتعهدها..

اعلم أن السائق لهذا القول، أنى رأيت نفسي مغرورةً بمحاسنها. فقلتُ: لا تملكين شيئا! فقالت: فإذن لا أهتم بما ليس لي من البدن.. فقلت: لابد أن لا تكوني أقلَّ من الذباب.. فإن شئتِ شاهدا فانظري إلى هذا الذباب، كيفَ ينظِّفُ جناحَيهِ برجليهِ ويمسحُ عينيه ورأسَه بيديه! سبحان من ألهَمَه هذا، وصيّره أستاذا لي وأفحمَ به نفسي!

رمز

اعلم أن من المزالق للأقدام: خلطَ أحكام الاسم «الباطن» بأحكام الاسم «الظاهر» وسؤالَها منه.. ولوازمِ «القدرة» بلوازم «الحكمة» وطلبَ رؤيتها فيها..ومقتضياتِ دائرة «الأسباب» بمقتضيات دائرة «الاعتقاد والتوحيد» وطلبَها منها.. وتعلّقاتِ «القدرة» بجلوات «الوجود» أوتجليات سائر الصفات، وملاحظةَ نواميسها وحِكمها فيها.. مثلا: وجودُك هنا تدريجي، ووجودك في المرايا البرزخية دفعيّ آني؛ لتمايز الصفات الإلهية في التعلقات.. وللفرق بين الإيجاد والتجلي.

رمز

اعلم أن الإسلامية رحمةٌ عامة، حتى إن الكفار سعادةُ حياتهم الدنيوية وعدمُ انقلاب لذائذهم إلى الآلام الأليمة، سببُها الإسلامية! إذ الإسلاميةُ قَلَبت الجحودَ والكفر المطلق، والإنكار المحض المتضمنين لليأس الأليم والألم الشديد إلى الشك والتردد. فالكافر بسبب تولُّد احتمال الحياة الأبدية في ذهنه بصيحةِ القرآن يستريحُ من الألم المنغِّص، وبعدم اليقين يستريح من الكلفة اللازمة للديانة. فهوكالنعامة (إبل الطير) إذا قيل له: طِرْ يقول: أنا إبل.. إذا قيل له: احمل الحمل. يقول: أنا طير! فهذه الدسيسة الشيطانية هي التي صيَّرت الكافر والفاسقَ مسعودَين ظاهرا في الحياة الدنيوية بالنسبة إلى الكافر المطلق والمؤمن الخالص..

رمز

اعلم أن النفسَ لا تريد أن تعترفَ وتتصور صدور ما هوأصغر أوأقلُ قيمةً منها من يدِ قدرةِ الخالق، لتحافظ على دائرة ربوبية نفسها، فتعطي للخالق ما فوقَها، وتتغافل عما تحتها. فما دامت لم تر نفسَها أصغرَ الأشياء أولا شيء، لا تخلص من ميل نوعِ تعطيلٍ أوشرك خفي.

رمز

اعلم أن النفس بسبب تكاسلها في وظيفتها، تريد أن لا يكون عليها رقيب، فتحبُّ التستر. فتلاحظ عدمَ المالك مكررا، فتعتقد حريتَها؛ فأولا تتمنى، ثم تترجى، ثم تلاحظ، ثم تتصور، ثم تعتقد العدَم. ثم تمرُق من الدين! ولواستشعَرتْ بما تحت الحرية والراحة وعدم المسؤولية من الأهوال المدهشة المحرقة واليُتم الحزين الأليم؛ لما مالتْ أدنى ميلٍ، بل لفرّتْ وتبرأت وتابت أوماتت.

رمز

اعلم أن الأشياء تتفاوت بتفاوت مدار الاستناد؛ مثلا: إن النفر المستند بسلطانٍ عظيم يفعل ما لا يَقتدِر عليه «شاه» عظيم، فالنفر يزيد بسبعِ مراتب على من زاد عليه بسبعين مراتب؛ فالبعوضة المأمورة من طرف القدرة الأزلية تغلب نمرودَ النماريد المتمرّدة. فالنواة المأذونة من طرف فالق الحَبّ والنوى، تتضمن وتَسَعُ كلَّ ما تحتاج إليه النخلةُ الباسقة، ولا تسعُهُ «فابريقات» تسَع قريةً..

اعلم أن الفرق بين طريقي في «قطرة» المستفادة من القرآن؛ وطريق أهل النظر والفلاسفة، هوأني أحفر أينما كنتُ، فيخرج الماءُ، وهم تشبثوا بوضعِ ميازيبَ وأنابيب لمجيء الماء من طرفِ العالَم ويُسلسِلونَ سلاسلَ وسلالمَ إلى ما فوق العَرش لجلب ماء الحياة، فيلزم عليهم بسبب قبول السبب وضعُ ملايين من حفظة البراهين في تلك الطريق الطويلة لحفظها من تخريب شياطين الأوهام. وأما ما علَّمَنا القرآنُ فما هوإلّا أن أُعطينا مثلَ «عصا موسى» أينما كنتُ -ولوعلى الصخرة- أَضربُ عصاي فينفجر ماءُ الحياة، ولا أحتاج إلى السفر الطويل إلى خارج العالم، وتعهُّدِ الأنابيب الطويلة من الانثلام والانكسار..

رمز

(أي واه) وا اسفا! إن وجودَ النفس عمىً في عينها، بل عينُ عَماها، ولوبقي من الوجود مقدارُ جناحِ الذباب يصيرُ حجابا يمنع رؤيتَها شمسَ الحقيقة. فقد شاهدتُ أن النفسَ بسبب الوجود تَرى على صخرةٍ صغيرةٍ في قلعة عظيمةٍ مرصوصةٍ من البراهين القاطعة ضعفا ورخاوةً، فتنكر وجودَ القلعة بتمامها. فقس من هنا درجةَ جهلها الناشئ من رؤيتها لوجودها..

رمز

اعلم يا «أنا» قد علمتَ أنه ما في يدك منك من الأُلوف، إلّا جزءٌ مشكوك؛ فابنِ على ذلك الجزء الاختياري الضعيف ما يطيق حملَه، ولا تحمل على الشعرة الشعورية الصخورَ العظيمة، ولا تحمل على ما ليس إليك، إلّا بإذن مالِكهِ. فإذا تكلمتَ بحسابكَ -بالغفلة – فلا تتجاوز عن حدِّك، وميدان جولانك شعرة فقط.

وإذا تكلمتَ بحساب مالك الملك فاحمل ما ترى كيفما أمر، وكيفما يشاء لا كيفما تشاء وإذنُ المالكِ ومشيئتُه تُعرَف من شريعته.

رمز

يا من يطلب الشهرة المسماة في العرف بـ«شان وشرف»! اسمع مني. فقد شاهدتُ الشهرةَ عينَ الرياء وموتَ القلب، فلا تطلبها لئلا تصير عبدَ الناس، فإن أُعطيتَها فقل: ﴿اِنَّا لِلّٰهِ وَاِنَّٓا اِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ (البقرة:156).

* * *