أشراط الساعة

إن مسائل «سدّ ذي القرنين» و«يأجوج ومأجوج» وسائر «أشراط الساعة» الأخرى قد بحثناها في كتابنا المطبوع: المحاكمات» المؤلَّف قبل ثلاثين سنة (المقصود سنة 1911) وقد وضعنا عشرين مسألة تدور حول تلك المباحث لتكون تتمةً لهاكتب قسم من مسودتها قبل ثلاث عشرة سنةإلّا أنها بُيّضت نـزولا عند رغبة صديقٍ عزيز وصارت «الشعاع الخامس».

تنبيه: لتُقرأ أولا المسائل التي تلي المقدمة، كي يُفهم القصدُ من المقدمة.


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

لقد كُتبت نكتةٌ لطيفة من نكات الآية الكريمة: ﴿فَقَدْ جَٓاءَ اَشْرَاطُهَا﴾ (محمد:18) في الوقت الحاضر وذلك حفاظا على عقيدة عوام المؤمنين، وصيانةً لها من ورود الشبهات.

وحيث إن قسما من الأحاديث النبوية التي تخبر عن حوادث ستقع في آخر الزمان تحمل معاني عميقة جدا، كـ«المتشابهات» القرآنية؛ فلا تفسّر كـ«المحكَمات»، ولا يتمكن كل واحد من معرفتها، بل ربما يؤوّلها العلماءُ بدلا من تفسيرها. وإن تأويلاتِها تُفهم بعد وقوع الحادثة، ويُعرف عندئذ المراد منها، بمضمون الآية الكريمة ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْويلَهُٓ اِلَّا اللّٰهُۢ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾
(آل عمران:7) ويبين تلك الحقائق الراسخون في العلم ويقولون:  ﴿اٰمَنَّا بِه كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾.

إن لهذا «الشعاع الخامس» مقدمة وثلاثا وعشرين مسألة.

المقدمة

عبارة عن خمس نقاط

النقطة الأولى

إن الإيمان والتكليف امتحانٌ واختبار ومسابقة ضمن دائرة الاختيار، فلا تكون مسائلُه النظريةُ المبهَمة وغيرُ الصريحة والعميقة والتي هي بحاجة إلى الاختبار وإنعامِ النظر فيها واضحةً وضوحَ البديهة؛ بحيث يصدّقها كل أحد سواء أراد أم لم يرد… وذلك ليتميز إيمانُ أبي بكر عن كفر أبى جهل، فيسموَ المؤمنون إلى أعلى عليين ويتردى الكفار إلى أسفل سافلين، إذ لا تكليفَ بلا اختيار. ولأجل هذه الحكمة تأتى المعجزاتُ متفرقةً وبشكل نادر.

ثم إن في دار التكليف والامتحان تكون علاماتُ القيامة وأشراطُ الساعة التي يمكن مشاهدتُها بالعين مبهمةً وغيرَ صريحة ومحتملة التأويل -كبعض المتشابهات القرآنية- عدا «علامة طلوع الشمس من مغربها» فهي واضحة وضوحَ البديهة، حتى إنها تدفع الجميعَ إلى الإيمان من دون اختيار، ولذلك ينغلق بابُ التوبة عندئذ، فلا قيمةَ للإيمان ولا جدوى من التوبة. حيث يتساوى في التصديق من يملك إيمانا كأبي بكر مع أعتى الكفرة كأبي جهل. بل حتى إن نـزول عيسى عليه السلام، ومعرفةَ كونه هو عيسى عليه السلام لا غيرَه، إنما يُعرف بنور الإيمان النافذ، ولا يستطيع كل واحد معرفتَه. بل حتى «الدجال» و«السفياني» من الأشخاص المرعبين الذين سيظهرون مع أشراط الساعة، لا يَعرفان نفسيهما أنهما «الدجال» و«السفياني» بادئ الأمر.

النقطة الثانية

إن الأمور الغيبية التي عُلّمَها الرسولُ الكريم ﷺ ليست سواء؛ فقسم منها عُلّمَها تفصيلا، فلا تصرّف ولا تدخّل له قط في هذا القسم، كالقرآن الكريم ومُحكمات الأحاديث القدسية.. والقسم الآخر قد عُلّمَها إجمالا، وتُرك أمرُ تصويرها وتفصيلها إلى اجتهاده ﷺ كالأحاديث التي تدور حول الحوادث الكونية والأحداث المستقبلية التي هي ليست من أُسس الإيمان. فالرسول ﷺ هو الذي يصوّر ويفصل ببلاغته -بأساليب التشبيه والتمثيل- تلك الأمورَ بما يوافق حكمة التكليف.

فمثلا: سُمع دويّ في مجلس الرسول ﷺ فقال: إن هذا صوتُ حجر ظل يتدحرج إلى جهنم منذ سبعين سنة، الآن وصل إلى قعرها. وبعد مرور بضع دقائق على هذا الحدث المثير أتى أحدهم وأخبر رسول الله ﷺ: أن المنافق الفلاني وهو يناهز السبعين من عمره قد مات وولّى إلى جهنم وبئس المصير. فأظهر تأويلَ البلاغة الفائقة لكلام الرسول ﷺ.

تنبيه: لا يعير نظرُ النبوة اهتماما لحوادث المستقبل الجزئية التي لا تدخل ضمن الحقائق الإيمانية.

النقطة الثالثة: وهي عبارة عن نكتتين:

أولاهما: أن قسما من الأحاديث المروية على صورةِ تشبيهات وتمثيلات تَلَقّاه العوامُ بمرور الزمن حقائقَ ماديةً، لذا لا يبدو في نظرهم مطابقا لواقع الحال، على الرغم من أنه حقيقة ثابتة.

مثلا: إن المَلَكين اللذين هما من حَمَلة الأرض -كما للعرش حملتُه- اللذين على صورة «الثور» و«الحوت» وسُمّيا باسمهما قد تَصورَهما العوام ثورا ضخما حقيقيا وحوتا هائلا حقيقيا!

ثانيتهما: أن قسما من الأحاديث قد ورد من حيث كثرة المسلمين في تلك المنطقة، أو من حيث وجود الحكومة الإسلامية هناك، أو من حيث مركز الخلافة الإسلامية، لكنه ظُنَّ أنه شاملٌ لجميع المسلمين، ولجميع أنحاء العالم، وعلى الرغم أنه خاص من جهة، إلّا أنه تُلقِّي كليا وعاما.

فمثلا: ورد في الحديث الشريف: «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله.. الله» أي ستُغلق أبوابُ أماكن الذكر، وسيُنادى بالأذان وبإقامة الصلاة بالتركية.

النقطة الرابعة

مثلما حُجبت أمورٌ غيبية كالأجل والموت لحِكَم ومصالحَ شتى، فإن القيامة -التي هي سكراتُ موتِ الدنيا وأجلُ البشرية وموت الحيوان- قد أُخفيت كذلك لمصالح كثيرة. إذ لو كان الأجل معينا وقتُه، لاختلّت الموازنةُ بين الخوف والرجاء، تلك الموازنة المبنية على مصالحَ وحكَمٍ؛ إذ كان نصفُ العمر يمضي في غفلة مطبقة، يعقبه خوفٌ رهيب كمن يُساق خطوة خطوة نحو المشنقة.

وأجل الدنيا وسكراتُها أي القيامة يشبه هذا تماما، إذ لو كان وقتُها معينا، لكانت القرون الأولى والوسطى غير متأثرة بفكرة الآخرة إلّا قليلا ولا تنفعل بها إلّا جزئيا، أما القرون الأخرى فكانت تعيش في رعب مستديم. وما كانت لتبقى -حينئذٍ- للحياة متعة وقيمة، ولا للعبادة -التي هي طاعة الفرد باختياره ضمن الخوف والرجاء- أهمية وحكمة.

ثم، لو كان وقت القيامة معينا، لدخل قسم من الحقائق الإيمانية ضمن البدهيات، أي يصدّق بها الجميع سواء أرادوا أم لم يريدوا، ولاختلّ عندئذ سرُّ التكليف وحكمةُ الإيمان المرتبطان بإرادة الإنسان واختياره.

وهكذا أُخفيت الأمور الغيبية لأجل مصالح كثيرة أمثالِ هذه، فصار الإنسان يتوقع مجيء أجَله كل دقيقة مثلما يتوقع بقاءه في الدنيا، ويفكر فيهما معا، ويسعى بجد للدنيا سعيَه للآخرة، ومثلما يَتوقع قيام الساعة في كل عصر يتوقع دوام الدنيا فيه أيضا. ومن هنا غدا الإنسان متمكنا من العمل للحياة الأبدية وهو ينظر إلى فناء الدنيا، ويعمل في الوقت نفسه لعمارة الدنيا، وكأنه يعيش أبدا.

ثم إنه لو كان وقت المصائب والبلايا معينا، لتجرع الإنسان أذىً وألما معنويين من جراء انتظاره وقوع المصيبة ونـزول البلاء أضعاف أضعاف ألم المصيبة نفسها. لذا سترت الحكمةُ الإلهية ورحمتُها الواسعة المصائبَ، فظلت مخفية عن الإنسان ومستورة عنه، فلا يتأذى بمثل ذلك الألم المعنوي.

وحيث إن أغلب الحوادث الكونية الغيبية تتضمن أمثال هذه الحكم، فقد مُنع الإخبار عن الغيب. وحتى الذين يخبرون عنه بإذنٍ ربانيّ، فقد أَخبروا عنه إخبارا على صورةِ إشارات فقط، مع شيء من الإبهام دون الصراحة المكشوفة، فيما عدا الحقائق الإيمانية وما هو مدار التكليف، وذلك لئلا يكون هناك قلةُ توقير وعدمُ امتثالٍ كامل للدستور الإلهي:
﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ الْغَيْبَ اِلَّا اللّٰهُ﴾ (النمل:65)

بل حتى البشارات التي وردت في حق رسولنا الكريم ﷺ في التوراة والإنجيل والزبور، قد جاءت بشيء من الإبهام وعدم التصريح، مما حدا بأناس من أهل تلك الكتب أن يؤوّلوا تلك الإشارات فلم ينعَموا بالإيمان بالرسول الكريم ﷺ.

أما المسائل التي هي ضمن العقائد الإيمانية فبمقتضى حكمة التكليف بحاجة إلى تبليغ أمين ووضوح تام وصراحة كاملة وتكرار، لذا فصَّل القرآن الكريم ومبلّغه الأمين ﷺ وبيّنا بيانا وافيا أمورَ الآخرة، في حين أنهما ذكرا الحوادث الدنيوية المستقبلية ذكرا مجملا.

النقطة الخامسة

لقد رُويت الأمور الخارقة -فوق المعتادة- التي تخص عصر «الدجالَين» -أي دجال المسلمين والدجال الأكبر- مقرونةً بذكرهما، فتُوهمت كأنها ستصدر من شخصَيهما بالذات وفُهمت هكذا. لذا أصبحت تلك الروايات من المتشابهات، لاحتجاب المعنى.

فمثلا: تجوّله بالطائرة والقطار..

ومثلا: قد اشتهر: أن الشيطان الذي يخدم دجال المسلمين سيصيح حين موته عند «ديكيلى طاش» في إستانبول صيحةً يسمعها الناس كلهم بـ«أنه مات»، أي سيُعلن عنه بالراديو، إعلانا عجيبا تتحير منه الشياطين أنفسُهم.

ثم إن الأحوال الرهيبة والإجراءات المدهشة التي تخص حُكم الدجال ونظامه ومنظماته وحكومته، قد رويت مقرونة مع شخصه، وكأنها ذات علاقة معه بالذات، لذا خَفِيَ المعنى واستتر.

فمثلا: هنالك رواية بهذا المعنى: أنه يملك من القوة والدوام ما لا يمكن أن يقتله إلّا سيدُنا عيسى عليه السلام وإلّا فلا سبيل لقتله. وهذا يعني: أن الذي يدمّر منهجَه ونظامه الشرس الرهيب ويقضي عليه قضاءً نهائيا ليس إلّا دينا سماويا رفيعا يظهر في العيسويين، فيقتدي بحقائق القرآن، ويتّحد معها، فهذا الدين العيسوي هو الذي يمحو بنـزول عيسى عليه السلام ذلك المنهجَ الإلحادي فيقضي عليه قضاءً تاما. وإلّا فإن شخص ذلك الدجال يمكن أن يُقتَل بجرثومة أو بمرض بسيط كالزكام.

ثم إن قسما من تفسير بعض الرواة وحُكمهم -النابع من اجتهاداتهم الشخصية التي تحتمل الخطأ- قد اختلط مع متن الحديث النبوي، فيُشتبه أنه منه، وعند ذاك يحتجب المعنى ويختفي، إذ لا تظهر مطابقةُ الحديث مع الواقع، فيدخل ضمن حكم المتشابه.

ثم إن الشخص المعنوي للجماعة وللمجتمع لم يكن واضحا في السابق كما هو في الوقت الحاضر، إذ كان الفكر الانفرادي والاهتمام بالفرد هو الغالب؛ لذا أُسندت الإجراءاتُ الضخمة للجماعة وصفاتُها العظيمة إلى الذين يترأسون تلك الجماعة، ومن هنا صُوّر أولئك الرؤساء تصويرا عجيبا بأنهم يملكون صفاتٍ كليةً خارقة، وأجساما ضخمة هائلة تفوق مائة ضعف عما هم عليه، وأنَّ لهم قوة وقدرة خارقتين، لكي تلائم تلك الإجراءاتِ المهولة. والحال أن هذا التصوير لا يطابق الواقع. لذا أصبحت تلك الرواية متشابهة.

ثم إنه على الرغم من التباين بين صفات «الدجالَين» واختلاف حالتيهما، يلتبس الأمر في تلك الروايات التي وردت بصورتها المطلقة، فيُظن هذا ذاك.

ثم إن أحوال «المهدي الكبير» لا تطابق أحوال المهديين السابقين له، في الروايات التي تشير إليهم، فتصبح تلك الروايات في حكم المتشابه.

إن الإمام عليا رضي الله عنه يذكر «دجال المسلمين» فقط.

انتهت المقدمة.. فنبدأ بالمسائل.