﴿وَعَلَّمَ اٰدَمَ الْاَسْمَٓاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلٰٓئِكَةِ فَقَالَ اَنْبِؤُ۫ني بِاَسْمَٓاءِ هٰٓؤُلَٓاءِ اِنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ ﴿31﴾ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيمُ ﴿32﴾ قَالَ يَٓا اٰدَمُ اَنْبِئْهُمْ بِاَسْمَٓائِهِمْ فَلَمَّٓا اَنْبَاَهُمْ بِاَسْمَٓائِهِمْ قَالَ اَلَمْ اَقُلْ لَكُمْ اِنّٓي اَعْلَمُ غَيْبَ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ وَاَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴿33﴾﴾

مقدمة

اعلم أن هذه معجزة آدم تُحُدِّيت بها الملائكةُ، بل معجزةُ نوع البشر في دعوى الخلافة. إن في القصَصَ لعِبراً.

ثم إني نظراً إلى ﴿وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ اِلَّا في كِتَابٍ مُبينٍ﴾ (الأنعام:59) ومستنداً إلى أن التنـزيل كما يفيدك بدلالاته ونصوصه كذلك يعلّمك بإشارته ورموزه، لَأفهمُ من إشاراتِ([1]) أستاذيةِ إعجازِ القرآن في قَصَص الأنبياء ومعجزاتهم التشويقَ والتشجيعَ للبشر على التوسل للوصول إلى أشباهها؛ كأن القرآن بتلك القصص يضع إصبعه على الخطوط الأساسية ونظائرِ نتائج نهايات مساعي البشر للترقي في الاستقبال الذي يُبنى على مؤسسات الماضي الذي هو مرآة المستقبل، وكأن القرآن يمسح ظهرَ البشر بيد التشويق والتشجيع قائلا له: اسعَ واجتهد في الوسائل التي توصلك إلى بعض تلك الخوارق! أفلا ترى أن الساعة والسفينة أولُ ما أهدتْهما للبشر يدُ المعجزة.

وإن شئت فانظر إلى ﴿وَعَلَّمَ اٰدَمَ الْاَسْمَٓاءَ كُلَّهَا﴾، وإلى ﴿وَلَقَدْ اٰتَيْنَا دَاوُ۫دَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ اَوِّبي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَاَلَنَّا لَهُ الْحَديدَ﴾ (سبأ:10)، وإلى ﴿وَلِسُلَيْمٰنَ الرّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَاَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ﴾ (سبأ:12) «أي النحاس»، وإلى ﴿اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا﴾ (البقرة:60)، وإلى ﴿وَتُبْرِئُ الْاَكْمَهَ وَالْاَبْرَصَ بِاِذْني﴾ (المائدة:110)! ثم تأمل فيما مخّضه تلاحقُ أفكارِ البشر واستنبَطه من ألوفِ فنونٍ، ناطقٌ كلٌّ منها بخواصِّ وصفاتِ وأسماء نوعٍ من أنواع الكائنات، حتى صار البشر مظهرَ ﴿وَعَلَّمَ اٰدَمَ الْاَسْمَٓاءَ كُلَّهَا﴾.. ثم فيما استخرجه فكرُ البشر من عجائب الصنعة من السكّة الحديدية والآلة البرقية وغيرهما بواسطة تليين الحديد وإذابةِ النحاس حتى صار مظهرَ ﴿وَاَلَنَّا لَهُ الْحَديدَ﴾ الذي هو أُمّ صنائعه.. وفيما أفرخه أذهانُ البشر من الطيّارات التي تسير في يوم شهراً حتى كاد أن يصير مظهرَ ﴿غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾.. وفيما ترقَّى إليه سعيُ البشر من اختراع الآلات والعصِيِّ التي تضرب في الأرض الرملة اليابسة فتفور منها عينٌ نضّاخة وتصير الرملة روضةً حتى أوشك أن يصير مظهرَ ﴿اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ﴾.. وفيما أنتجه تجارب البشر من خوارق الطب التي طفق أن تبرئ الأكمه والأبرص والمزمن بإذن الله.. ترَ مناســـبة تامة تصحح لك أن تقول: تلك مقائسها، وذكرُها يشــير إليها ويشجع عليها.

وكذا انظر إلى قوله تعالى: ﴿يَا نَارُ كُوني بَرْدًا وَسَلَامًا﴾ (الأنبياء:69) وإلى ﴿لَوْلَٓا اَنْ رَاٰ بُرْهَانَ رَبِّه﴾ (يوسف:24) أي صورةَ يعقوب عاضاً على إصبعه في روايةٍ، وإلى ﴿اِنّي لَاَجِدُ ريحَ يُوسُفَ﴾ (يوسف:94) وإلى ﴿يَا جِبَالُ اَوِّبي مَعَهُ﴾ وإلى ﴿عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ﴾ (النمل:16) وإلى ﴿اَنَا اٰتيكَ بِه قَبْلَ اَنْ يَرْتَدَّ اِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ (النمل:40) وأمثالِها، ثم تأمل فيما كشفه البشر من مرتبة النار التي لا تحرق ومن الوسائط التي تمنع الإِحراق، وفيما اخترعه من الوسائل التي تجلب الصور والأصوات من مسافات بعيدة وتُحضرها إليك قبل أن يرتدَّ إليك طرفُك، وفيما أبدعه فكرُ البشر من الآلات الناطقة بما تتكلم، وفي استخدامه لأنواع الطيور والحمامات، وقس عليها، لترى بين هذين القسمين ملاءمةً يحق بها أن يقال: في هذه رموز إلى تلك.

وكذا تأمل في خاصية المعجزة الكبرى التي هي خاصية الناطقية؛ التي هي خاصية الإنسانية، وهي الأدب والبلاغة. ثم تدبّر في أن أعلى ما يربِّي روحَ البشر، وألطف ما يصفِّي وجدانَه، وأحسن ما يزيِّن فكره، وأبسط ما يوسِع قلبه إنما هو نوع من الأدبيات. ولأمرٍ مّا ترى هذا النوع أبسط الفنون وأوسعَها مجالاً وأنفذها وأشدها تأثيراً وألصقها بقلوب البشر حتى كأنه سلطانها. فتأمل!

ثم إن لهذه الآية أيضاً الوجوه الثلاثة النظمية:

أما نظم مآلها بسابقتها فمن وجوه أربعة:

الأول: أن التنـزيل لما ذكر في الآية الأولى في بيان حكمة خلقة الإنسان ما هو أوّلُ الأجوبة وأَولاها وأعمُّها للكل وأيسرُها وأسهلُها إقناعاً وأجملُها إجمالاً وأوجزُها، بيّن بهذه الآية جواباً تفصيلياً يطمئن به العوام والخواص.

والثاني: أنه لمّا صرّح في تلك بمسألة الخلافة للبشر، برهن بهذه على تلك الدعوى بمعجزة ذلك النوع في مقابلة الملائكة.

والثالث: أنه لما أشار بتلك إلى ترجح البشر على الملَك رمز بهذه إلى لِمّيّة الرجحان.

والرابع: أنه لما لوّح بها إلى مظهرية هذا النوع للخلافة الكبرى في الأرض لمّح بهذه احتجاجاً عليها إلى أن الإنسان هو النسخة الجامعة والمظهر الأتمّ لكل التجليات لتنوع استعداداته وتكثّر طرق استفاداته وعلمه فيحيط بالكائنات بحواسه الخمس الظاهرة والباطنة لاسيما بوجدانه الذي لا قعر له. أفلا تراه يعلم أمثال حلاوة العسل بوجهين بل بوجوه خلاف المَلَك فتأمل!

أما نظم الجمل بعضها مع بعض ففطريّ في غاية السلاسة: فالأولى: تحقيق لمضمونِ ﴿اِنّٓي اَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ وتفصيلٌ لمَا أجمل فيها وتفسير لما أبهم.. وكذا إن خلافة الله تعالى في أرضه لإجراء أحكامه وتطبيق قوانينه تتوقف على علم تام.. وكذا إن انصباب الكلام في الآية الأولى ينجرّ إلى: «فخلقه وسوّاه ونفخ فيه من روحه وربّاه ثم علّم الأسماء وأعده للخلافة.. ثم لمّا اصطفاه على الملائكة وميّزه بعلم الأسماء في مسألة الرجحان واستحقاق الخلافة اقتضى مقامُ التحدِّي عرْضَ الأشياء عليهم وطلبَ المعارضة منهم.. ثم لمّا أحسّوا بالعجز من أنفسهم أَقرّوا بحكمته تعالى واطمأنوا». ولهذا قال: ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلٰٓئِكَةِ فَقَالَ اَنْبِؤُ۫ني بِاَسْمَٓاءِ هٰٓؤُلَٓاءِ اِنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ﴾.

﴿قَالُوا﴾ أي متبرئين مما دسّه في استفسارهم أَنانيةُ إبليس ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيمُ﴾. ثم لمّا ظهر عجزُهم لعدم جامعية استعدادهم اقتضى المقامُ بيانَ اقتدارِ آدم حتى يتم التحدِّي فقال: ﴿يَٓا اٰدَمُ اَنْبِئْهُمْ بِاَسْمَٓائِهِمْ﴾.. ثم لما امتثل وظهر سرُّ الحكمة فيه اقتضى المقامُ استحضارَ الجواب الإجمالي السابق وجعلَه كالنتيجة لهذا التفصيل فقال: ﴿اَلَمْ اَقُلْ لَكُمْ اِنّٓي اَعْلَمُ غَيْبَ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ وَاَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾.

واعلم أنه قد تَشفّ وتُحسّ صورةُ المقاولة عن تولّد أنانية إبليس فيما بين الملائكة وتُشعر بتداخل اعتراضِ طائفةٍ بين استفسارهم.

أما نظم هيئات جملة جملة:

فجملةُ ﴿وَعَلَّمَ اٰدَمَ الْاَسْمَٓاءَ كُلَّهَا﴾ أي صوَّره بفطرة تضمنت مبادئ أنواع الكمالات، وخلَقَه باستعدادٍ زرَع فيه أنواعَ المعالي، وجهّزه بالحواس العشر وبوجدان تتمثل فيه الموجودات، وأعدّه بهذه الثلاث لتعلُّم حقائق الأشياء بأنواعها، ثم علّمه الأسماء كلها. الواو فيها إشارة إلى الجمل المطوية تحت إيجازه كما مرَّ. و ﴿عَلَّمَ فيه إشارة إلى تنويه العلم ورفعة درجته وأنه هو المحور للخلافة.. وكذا رمز إلى أن الأسماء توقيفية. ويؤيده وجود المناسبة المرجحة للوضع -في الأغلب- بين الأسماء والمسمّيات.. وكذا إيماء إلى أن المعجزة فعلُ الله بلا واسطة خلافا للفلاسفة الذين يقولون: «إن الخوارق أفعال للأرواح الخارقة».

و﴿اٰدَمَ﴾ أي الشخص الأرضي الذي أراد الله تعالى خلافته وسمّاه آدم فالتصريح بالعلم لتنويهه وتشهيره وإحضاره بصورته.

و﴿الْاَسْمَٓاءَ﴾ سمات الأشياء من الصفات والخواص والأسماء، أو اللغات التي اقتسمها بنو آدم. وفيه إيماء بدليلِ ﴿عَرَضَهُمْ﴾ إلى أن الاسم عينُ المسمّى كما عليه أهل السنة.

و﴿كُلَّهَا﴾ تنصيص على منشأ التميز ومدار الإعجاز.

وجملةُ ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلٰٓئِكَةِ فَقَالَ اَنْبِؤُ۫ني بِاَسْمَٓاءِ هٰٓؤُلَٓاءِ اِنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ﴾ :

فـ ﴿ثُمَّ﴾ إشارة بسر التراخي واقتضاء المقام إلى «وقال: هو أكرم منكم وأحق بالخلافة».

وأما ﴿عَرَضَهُمْ﴾ أي أظهر أنواع الأشياء مبسوطة للبيع لأنظارهم كعرض المتاع على المشتري، وعرضِ الصفوف على الأمير. ففيه إشارة إلى أن الموجودات مالٌ للمُدْرِك يشتريها بالعلم، ويأخذها بالاسم، ويتملكها بتمثل الصورة.

وأما ﴿هُمْ﴾ الدالُّ على الذكور العقلاء فسِرُّ ما فيه من التغليبين والمجاز ما يرمز إليه لفظ العَرض. إذ يتخيل -مِن إرساله صور طوائفِ الموجودات مارةً صفاً صفاً على الأنظار- كونُها قبائل من العقلاء يجيئون إليهم.

وأما ﴿عَلَى﴾ فإيماء إلى أن ما يُعرض عليهم هي الصور المرتسمة في اللوح الأعلى.

تمت بوفاء


[1] فإن كنت في ريب فيما استخرجه من لطائف نظم التنزيل، فأقول:

قد استشرنا ابن الفارض تفاؤلاً فأجاب بـ:

كأن الكرام الكاتبين تنزّلوا         على قلبه وحياً بما في صحيفة (حبيب)