المقالة الأولى

عنصر الحقيقة

مقدمات ومسائل

إن من دساتير أهل العلم المحققين الاستنادَ إلى مقدمات، بلوغًا إلى الهدف والقصد. لذا ننصب سُلَّمًا ذا اثنتي عشرة مرتبة:

المقدمة الأولى

من الأصول المقررة: أنه إذا تعارض العقلُ والنقلُ، يعدّ العقلُ أصلًا ويؤوّل النقل، ولكن ينبغي لذلك العقل أن يكون عقلًا حقًا.([1])

ثم قد تحقق أيضًا: أن مقاصدَ القرآن الأساسية وعناصرَه الأصلية المنبثة في كل جهاته أربعةٌ: إثبات الصانع الواحد، والنبوة، والحشر الجسماني، والعدل.

أي إن القرآن هو وحدَه الكفيلُ بالإجابة عن الأسئلة التي تسألها الحكمةُ من الكائنات: من أين؟ وبأمرِ مَن تأتون؟ مَن سلطانُكم ودليلكم وخطيبكم؟ ما تصنعون؟ وإلى أين تصيرون؟

ولهذا فذِكرُ الكائنات في القرآن الكريم -مما سوى المقاصد- إنما هو ذكرٌ استطرادي لبيان طريق الاستدلال على الصانع الجليل بانتظام الصنعة.

نعم، الانتظام يشاهَد، بل يُظهر نفسَه بكل وضوح. فالصنعةُ المنتظمة تشهد على وجود الصانع وعلى قصده وإرادته شهادةً صادقة قاطعة، إذ تتراءى في كل جهة من جهات الكون وتتلألأ من كل جانب.. وتعرض جمال الخلق إلى أنظار الحكمة، حتى لكأن كلَّ مصنوع لسانٌ يسبّح بحكمةِ صانعه، كلُّ نوع يشهد مشيرًا بإصبعه إلى حكمة الصانع.

فمادام المقصد هو هذا، وما دمنا نتعلم من كتاب الكائنات الرموزَ والإشارات الدالة على الانتظام، وأن النتيجة الحاصلة واحدة، فكيفما كان تشكُّل الكائنات في ذاتها، فلا علينا، إذ لا تتعلق بنا.

ولكن كلّ فرد من أفراد الكائنات، الذي دخل ذلك المجلسَ القرآني الرفيع موظفٌ بأربع وظائف:

الأولى: إعلان عظمةِ الخالق الجليل بانتظامه واتفاقه مع غيره.

الثانية: إظهارُه أن الإسلامَ زبدةُ العلوم الحقيقية، حيث إن كلًا من الأفراد موضوعٌ وخلاصةٌ لعلم من العلوم الحقيقية.

الثالثة: إثبات تَطابُق الإسلام مع القوانين والنواميس الإلهية الجارية في العالم، وانطباقه عليها، لينمو الإسلام ويترعرع بإمدادِ تلك النواميس الفطرية، حيث إن كلَّ فرد من الكائنات نموذجٌ لنوع.

نعم، إن الإسلام، الدينَ المبين، يتميّز بهذه الخاصية عن سائر الأديان المترددة بين الهوى والهوَسات، لفقدانها الجذور العريقة الممدة لها؛ فتارة تضيء وأخرى تنطفئ، وتتغير بسرعة.

الرابعة: توجيه الأفكار إلى حقائق الأشياء والحثُّ عليها والتنبيه إليها، من حيث إن كل فرد منها نموذجٌ لحقيقة من الحقائق.

فمثلًا: إن القَسَم بالأجرام العلوية والسفلية في القرآن الكريم، إنما هو لتنبيه الغافلين دومًا وحثِّهم على التفكير. فالقَسَم القرآني قرعُ العصا لمن غطّ في نوم الغفلة.

فالذي تَحقق الآن هو الآتي:

إن القرآن الكريم الذي هو معجز، وفي أسمى بلاغة وأرفعِها، يسلك بلا ريب أوضحَ طرق الاستدلال وأصوبها وأقصرها وأوفقها لأساليب اللغة العربية، أي إنه يراعي حسيّات العوام لأجل إفهامهم وإرشادهم، أي يذكر الدليلَ -وهو انتظام الكون- بوجه يكون معروفًا لديهم وتأنَس به عقولُهم.. وبخلافه يكون الدليلُ أخفى من المدَّعَى مما ينافي طريق الإرشاد ومنهجَ البلاغة ومذهبَ الإعجاز.

فمثلًا: لو قال القرآن: أيها الناس! انظروا إلى الكرة الأرضية الطائرة في انجذاب ونَشوَة والسائرةِ في جو الفضاء، وتأملوا في الشمس المستقرة مع حركتها والأجرام العلوية المرتبط بعضُها ببعض بالجاذبة العامة، وتدبّروا في العناصر الكثيرة المرتبط بعضُها ببعض بأواصرَ كيماوية في شجرة الخلقة المنتشرة فروعُها في الفضاء غير المحدود.. لتتصوروا عظمةَ الصانع!! أو انظروا بمجهر عقولكم إلى قطرة ماء، التي تستوعب عالَمًا من الحيوانات، بأن الله على كل شيء قدير.!!

فلو قال القرآن هذا، أمَا كان الدليلُ أخفى وأغمضَ من المدَّعَى وأحوجَ إلى التوضيح؟ أما كان ذلك تنويرًا للحقيقة بشيء مظلم بالنسبة لهم! أو تكليفَهم بأمرٍ غير معقول هو مغالطة أنفسهم تجاه بداهة حسّهم!

إن إعجاز القرآن أجلّ وأطهر من أن يقع على ذيله الصافي اللامعِ غبارُ إخلال الأفهام. ولقد لوّح القرآنُ الكريم إلى المقصد الحقيقي في معاطف الآيات البينات وتلافيفها، كما جعل قسمًا من ظواهر الآيات منارًا ومرشدًا إلى المقصد، كالكناية عليه.

ومن الأصول المقررة أيضًا: أن الصدق والكذب، أو التصديق والتكذيب في الكنايات وأمثالها لا يرجعان إلى صورة المعنى، أي إلى «المعاني الأولى» كما يعبِّر عنها فنُّ البيان، بل يتوجهان إلى المقصد والغرض، أي إلى «المعاني الثانوية». فكما إذا قيل: «طويلُ النّجاد» فالحكم صحيح والكلام صدق إن كان الشخصُ طويلَ القامة وإن لم يكن له سيف. وكما تكون الكلمة الواحدة في كلامٍ قرينةَ المجاز([2]) للاستعارة، فإن طائفة من الآيات الكريمة، كأنها كلمة واحدة لكلام الله، تكون قرائن لحقائقِ وجواهر سائر أخواتها، وترجمان وأدلّاء على ما في ضمائر جاراتها من أسرار.

حاصل الكلام: من لم يضع هذه الحقيقة نصبَ العين، وعجزَ عن موازنة الآيات، ولم يتمكن من الحُكم بينها حكمًا عدلًا، يكون كالبكتاشي الذي قال لتسويغ تركه الصلاةَ: إن القرآن يقول: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلٰوةَ .. أما ما بعده فلستُ حافظًا للآية! ألَا يكون هذا موضع هزء في نظر الحقيقة؟!

المقدمة الثانية

قد يكون بديهيًا ما هو نظريٌ([3]) في الماضي. هكذا تحقق… ففي العالَم ميلٌ للاستكمال وبه يتبع العالمُ قانونَ التكامل. ولأن الإنسان من ثمرات العالَم وأجزائه ففيه كذلك ميلُ الترقي المستمد من الميل للاستكمال. وميلُ الترقي هذا ينمو ويترعرع مستمدًا من تلاحق الأفكار الذي ينبسط بتكمّل المبادئ واكتمالِ الوسائل، وتكملُ المبادئ يلقي -من صلب الخلقة- بذورَ علوم الأكوان ملقِّحًا رحمَ الزمان التي تُربّي تلك البذور وتنبتها، فتستوي بالتجارب المتعاقبة التدريجية.

وبناءً على هذا، فإن مسائلَ كثيرة في هذا الزمان قد أصبحت في عِداد البديهيات والعلوم المعتادة، بينما كانت في السابق أمورًا نظرية، شديدةَ الخفاء والغموض، ومحتاجة إلى سرد البراهين؛ إذ نرى كثيرًا من مسائل الجغرافية والفلك والكيمياء والهندسة العملية؛ يَعرفها حتى صبيانُ هذا الزمان، بل يلعبون بها لَعِبَهم بالملاعيب، وذلك بتكمُّل المبادئ وبرقيّ الوسائط وبكشفيات تلاحق الأفكار، علمًا أنها كانت نظريةً وخفية على «ابن سينا» وأمثالِه من الفلاسفة. مع أنه لو وزن «أبو الفلسفة» بمئات من فلاسفة هذا الزمان لرجَحهم في الذكاء وقوة الفكر وكمال الحكمة وسعة القريحة. فالنقصُ إذن ليس في «ابن سينا»، فهو ابن الزمان، بل في أبيه الزمان.

أليس بديهيًا أنه لو لم تُكتشف الدنيا الجديدة (أمريكا) -واشتهر به كولومبس- لاقتدرَ على اكتشافها وإلحاقها بهذه الدنيا القديمة أبسطُ الملاحين؟ إذ بدلًا من تبحُّر فكر المكتشف الأول واقتحامِه المهالك تكفي الآن سفينةٌ صغيرة وبوصلة.

ومع هذا يلزم أخذُ الحقيقة الآتية بنظر الاعتبار وهي أن المسائل قسمان:

قسم: يؤثر فيه تلاحقُ الأفكار، بل يتوقف عليه، كالتعاون في الماديات لرفع صخرة كبيرة.

والقسم الثاني: لا تأثير للتعاون وتلاحق الأفكار فيه من حيث الأساس؛ فالواحد والألف سواء. كالقفز في الخارج من مرتفع إلى آخر، أو المرور من موضع ضيق. فكلُّ فرد والكلُّ سواء، ولا يجدي التعاون.

فبناءً على هذا القياس: فإن قسمًا من العلوم هو كرفع الصخر، بحاجة إلى التعاون وتلاحق الأفكار. وأغلب هذا القسم هو من العلوم المادية.

أما القسم الثاني، وهو الشبيه بالمثال الثاني، فتكمُّله دفعي، أو شبيه الدفعي. وأغلب هذا القسم هو من المعنويات ومن العلوم الإلهية.

ولكن على الرغم من أن تلاحق الأفكار لا يغير ماهية هذا القسم الثاني ولا يكمله ولا يزيده، إلّا أنه يفيض وضوحًا وظهورًا وقوة في مسالك براهينه.

ويجب ملاحظة ما يأتي:

إن من توغل كثيرًا في شيء، أدّى به في الغالب إلى التغابي في غيره.

فبناء على هذا: من توغل في الماديات تبلّد في المعنويات وظل سطحيًا فيها.

فنظرًا إلى هذه النقطة لا يكون حكمُ الحاذق في الماديات حجةً في المعنويات بل غالبًا لا يستحق سماعه.

نعم، إذا ما راجع مريض مهندسًا بدلًا من طبيب، ظنًا منه أن الطب كالهندسة، وأخذ بوصفة المهندس، فقد أخذ لنفسه تقريرًا بنقله إلى مستشفى مقبرةِ الفناء، وعزَّى أقرباءه.

وكذلك مراجعة أحكام الماديين في المعنويات التي هي الحقائق المحضة والمجردات الصرفة، واستشارةُ آرائهم وأفكارهم، تعني الإعلان عن سكتة القلب الذي هو اللطيفة الربانية، وعن سكرات العقل الذي هو الجوهر النوراني.

نعم، إن الذين يبحثون عن كل شيء في الماديات عقولُهم في عيونهم، والعينُ عاجزة عن رؤية المعنويات.

المقدمة الثالثة

إن دخول طائفة من الإسرائيليات وقسمٍ من الفلسفة اليونانية ضمن دائرة الإسلام وظهورَها بزي الدين الجميل، شوّشت الأفكار.

وذلك: أن أولئك القوم، العربَ النجباء، كانوا أمة أميّة في الجاهلية. ولكن لمّا تجلّى الحقُّ فيهم وتيقظ استعدادُ حسياتهم بمشاهدة الدين المبين، وجّهوا رغباتِهم وميولَهم كلّها في معرفة الدين وحدَه. ولم يك نظرهم المتوجّه إلى الكون من نوع التفصيل الفلسفي بل نظرَ استطرادٍ للاستدلال ليس إلّا. وما كان يُلهِم ذوقَهم المرهف الطبيعي إلّا محيطُهم الواسع الرفيع المنسجم مع فطرتهم… والقرآنُ الكريم هو وحدَه المربي لفِطَرهم الأصيلة النقية ومعلّمُها.

ولكن الأمة العربية -بعد ذلك- أخذت تحتضن الأقوامَ الأخرى، فدخلت معلوماتُ سائر الملل وعلومُها أيضًا حظيرة الإسلام، ثم وجدت الإسرائيلياتُ المحرَّفة مَنفذًا إلى خزائن خيال العرب، فأسالَت مجرىً إلى تلك الخزائن بإسلام عدد من علماء أهل الكتاب كـ«وهب وكعب» فامتزجت الإسرائيلياتُ بالأفكار الصافية. فضلًا عن ذلك وجدت الاحترامَ والتقدير، لأن الذين اهتدوا من علماء أهل الكتاب قد تكامَلوا بشرف الإسلام ونالوا به مكانةً فائقة… لذا غدت معلوماتُهم الملفّقة كأنها مقبولةٌ ومسلّمٌ بها، فلم تُردّ، بل وجدت آذانًا صاغية لها من دون تنقيد، وذلك لعدم مصادمتها بأُصول الإسلام ولأنها كانت تُروى كحكايات لا أهمية لها.. ولكن يا للأسف! قُبلت تلك الحكايات بعد فترة من الزمن كأنها حقائقُ وأصبحت سببًا لكثير من الشبهات والشكوك.

إذ إن هذه الإسرائيليات قد تكون مرجعًا لبعض إيماءات الكتاب والسنة، ومصدرًا لبعض مفاهيمهما -بوجود علاقة- إلّا أنها لا تكون معنىً للآيات الكريمة والأحاديث الشريفة. بل لو صحّت ربما تكون أفرادًا من معاني ما يصدُق عليه مفهوم الآية والحديث. ولكن المفتونين بالظاهر([4]) الذين لم يجدوا -بسوء اختيارهم- مصدرًا غيرَه، ولم يتحرّوا عنه، فسّروا قسمًا من الآيات والأحاديث بتطبيق الإسرائيليات عليهما. والحال أن الذي يفسّر القرآن ليس إلاّ القرآن والحديث الصحيح، وإلاّ فلا يُفسَّر القرآن بالإنجيل والتوراة المنسوخةِ أحكامُهما والمحرفةِ قصصُهما.

نعم، إن المعنى شيءٌ وما يصدُق عليه المعنى شيءٌ آخر. غير أنه أُقيم ما يمكن أن يكون مصداقًا لشيءٍ مقامَ المعنى، فاختلط كثيرٌ من الإمكانات والاحتمالات مع الوقائع.

ثم لمّا تُرجمت الفلسفة اليونانية في عصر المأمون، لضمّها إلى الفكر الإسلامي، تلك الفلسفة الناشئة من منبع كثير من الأساطير والخرافات، حملَت معها شيئًا من العفونات، وتداخلت في أفكار العرب الصافية، فشوّشت الأفكار إلى حدٍ ما، وفتحت طريقًا من التحقيق إلى التقليد، كما أنها صرفَتهم عن الاستنباط -بقرائحهم الفطرية من معدِن ماءِ حياةِ الإسلام- إلى الافتقار بالتتلمذ على تلك الفلسفة المانعة للكمال.

نعم، فكما أن العلماء المحققين دوّنوا قواعدَ علوم العربية، عندما فسدت -باختلاط الأعاجم- حفاظًا على سلامة مَلَكة الكلام المُضَرى؛ كذلك حاول قسمٌ من علماء الإسلام الناقدين فرزَ الفلسفة وتمييزَ الإسرائيليات لمّا دخلتا دائرة الإسلام.

ولكن يا للأسف! لم يوفَّقوا كليًا، فلم يبق الأمرُ عند حدّه، إذ لما صُرفت الهمةُ إلى تفسير القرآن الكريم، طبّق عددٌ من الظاهريين منقولَه على بعض الإسرائيليات، ووَفّقوا بين قسم من معقولِه والفلسفةِ المذكورة، لِمَا رأوا من شموله على المنقول والمعقول. وكذا الحديث النبوي، فبدلًا من أن تُستخرج المقاصد من عين الكتاب والسنة استنبط طائفةٌ مطابقةً وعلاقةً بين بعض نقلياتهما الصادقة وبعض الإسرائيليات المحرّفة، وبين عقلياتهما الحقيقية وهذه الفلسفةِ الموهومة المموَّهة، ظنًا منهم أن هذه المطابقةَ والمشابهة تفسيرٌ لمعاني الكتاب والسنة وبيانٌ لمقاصدهما!

كلا.. ثم كلا! لأن مصداق الكتاب المبين إعجازهُ. والقرآن يفسّر بعضُه بعضًا، ومعناه فيه، وصَدَفُه دُرٌّ مثلُه لا قشر. وحتى لو فُرض أن القصدَ من إظهار هذه المطابقة هو تزكيةُ ذلك الشاهد الصادق، فهو عبثٌ أيضًا، إذ القرآن المبين أسمى وأغنى من أن يَفتقر إلى تزكية العقل والنقل اللذين ألقَيا إليه المقاليد، لأنه إن لم يزكّهما فشهادتُهما لا تُسمع.

نعم، يجب البحث عن الثريا في السماء لا في الأرض. فابحث عن معاني القرآن في أصدافه، لا في جيبك الحاوي على أخلاط، فإنك لن تجدَ شيئًا، وحتى لو وجدتَ فالقرآن يرفضُه، إذ لا يحمل طغراءَ البلاغة.

ومن المقرر: أن المعنى هو ما صبّته الألفاظُ في الصماخ نافذًا في الذهن، منتشرًا منه إلى الوجدان، مفتّحًا منه أزاهيرُ الأفكار. وإلّا فليس هو ما تسرّب في خيالك من احتمالاتٍ لكثرة توغل أمور أخرى، أو ما سرَقتَه وملأتَ جيبك من أباطيل الفلسفة وأساطير الحكايات، ثم أخفيتَه في معاطف الآيات والأحاديث ثم أظهرتَه ممسكًا به في يدك تبرزه وتنادي: «هذا هو المعنى، هلموا لأخذه» فيأتيك الجواب: يا هذا! إن المعنى الذي استخرجتَه مزيّف، عليه علامةُ التقليد، يردُّه نقاّد الحقيقة، وسلطانُ الإعجاز يطرد من ضرَب سكّتَه، وحكيمُ البلاغة يسجن وهمَك في خيالك بشكوى الآية عليك، لِما تعرضتَ إلى نظامها ونظام الحديث. وطالبُ الحقيقة لا يقبله منك حتمًا، إذ يقول لك: إن معنى الآية درّ وهذا مَدَر ومفهومَ الحديث مُهَج وهذا همَج.

مَثل للتنوير: من أمثال الأكراد الأدبية أن رجلًا اسمه «علَو» كان يسرق العسل، فأُشير عليه بأن ستظهر سرقتُك وينكشف أمرُك. فجمع الزنابير في كوارة، لأجل الخداع والتمويه، فكان يسرق العسل ويدّخره في الكوارة، وإذا ما سأله أحد يقول: هذا العسل صنعتْه نحلي، مهندسةُ العسل. ثم يحدّث الزنابير بلغة مشتركة بينهما «فِزْ فِزْ ﮊِ وَه هِنْكِفِينْ ﮊِ مِنْ» أي عليكم الدوي والطنين ومني العسل!

فيا أيها المؤوِّل بالتشهي والهوى، لا تتسلّ بهذا التشبيه، فهذا ضربٌ للمثل. إذ المعنى الذي أوردتَه ليس عسلًا بل سمًّا، فإن تلك الألفاظ -القرآنية والنبوية- ليست نحلًا بل كالملائكة توحي أرواح الحقائق إلى القلب والوجدان لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد.. إن الحديث النبوي معدن الحياة، ومُلهم الحقائق.

نحصل مما سبق: أن الإفراط والتفريط كلاهما مضران، وربما التفريط أكثر ضررًا إلّا أن الإفراط أكثر ذنبًا، لأنه يسبب التفريط.

نعم، لقد فُتح بابُ السماح بالإفراط، فاختلطت الأشياءُ المزيفة بتلك الحقائق الرفيعة. ولما شاهد أهلُ التفريط والنقد غيرُ المنصفين هذه المزيّفات بين تلك الحقائق التي لا تقدَّر بثمن، ذعروا واشمأزوا، وظنوها كلّها مزيفة تافهة ملوثة، ظلمًا وإجحافًا.. كلا وحاش لله…

تُرى لو وجدت نقودٌ مزيّفة في كنز، أُدخلت إليه من الخارج، أو لو شوهد تفاحٌ فاسد سقط إلى بستان من غيره، أمِن الحق والإنصاف عدُّ الكنز كلِّه مزيّفًا، أو البستانِ كلّه فاسدًا، ومن ثم تركهما لأنهما ملوثان معيوبان مشوبان؟!

خاتمة:

أقصد من هذه المقدمة: أن الأفكار العامة تريد تفسيرًا للقرآن الكريم.

نعم، إن لكل زمان حكمَه، والزمانُ كذلك مفسِّر. أما الأحوال والأحداث فهي كشافة. وإن الذي يستطيع أن يكون أستاذًا على الأفكار العامة هو الأفكار العلمية العامة أيضًا.

فبناءً على هذا واستنادًا إليه أُريد تشكيلَ مجلس شورى علمي، منتخَبٍ من العلماء المحققين، كل منهم متخصصٌ في علم، ليقوموا بتأليف تفسير للقرآن الكريم بالشورى بينهم، تحت رياسة الزمان الذي هو مفسّرٌ عظيم، ويجمعوا المحاسن المتفرقة في التفاسير، ويهذّبوها ويذهّبوها.

وهذا الأمر مشروط بأن تكون الشورى مهيمنة في كل شيء، والأفكار العامة مراقبة، وحجيةُ الإجماع حجة عليه.

المقدمة الرابعة

الشهرة تملّك الإنسانَ ما لا يملك.

إن من سجايا البشر إسنادَ الشيء الغريب أو الثمين إلى من اشتهر بجنسه، لإظهاره أصيلًا، أي لأجل أن يروِّجَ كلامَه ويزيّنه أو لئلا يكذَّب أو لأغراض أخرى يُحيل نتائج أفكار أمةٍ أو محاسن أطوارها إلى شخص ما -ظلمًا وعدوانًا- ويشاهد صدورَها عنه! بينما ذلك الشخص نفسه من شأنه ردّ تلك الهدية المهداة له ظلمًا وتعسفًا؛ إذ لو عُرض على شهير -في صنعة جميلة أو خصلة راقية- أمرٌ، وقيل له -بغير حق-: «إن هذا من صنع يدك» -مثلًا- فإنه يردّه حتمًا ويتبرأ منه ويشمئز، قائلًا حاشَ لله؛ ذلك لأن نظرَه النافذ في ما وراء الحُسن الظاهر يبصر إخلالَ ذلك الأمر بجمال تلك الصنعة الناشئ من تناسقها وانتظامها.

فبناءً على هذه السجية، واستنادًا إلى القاعدة المشهورة: «إذا ثبت الشيءُ ثبت بلوازمه» يضطر الناس إلى إسناد قوة عظيمة وعظمة فائقة وذكاء خارق.. وأمثالِها من لوازم خوارق العادات إلى ذلك الشخص الشهير، ليوائمَ ما في خيالهم، وليمكّن له أن يكون مرجعًا ومصدرًا لجميع ما ينسب إليه من أمور خارقة. فيتجسم ذلك الشخصُ في أذهانهم أعجوبةً من أعاجيب الخلق.

فإن شئت فانظر إلى صورة «رستم بن زال» المعنوية، الذي نما في خيال العجم، ترى العجب العجاب. فإنه لما اشتهر بالشجاعة اغتصبَ مفاخر الإيرانيين وأغار عليها بقوة الشهرة، وبحكم الاستبداد الذي لم يتخلص منه الإيرانيون قط. وهكذا ضُخّمت تلك الشخصية واستُعظمت في الخيالات.

ولما كان الكذب يردفه كذبٌ ويسوق إليه، استلزمت هذه الشجاعةُ الخارقة للعادة، عمرًا خارقًا، وقامة خارقة، وما يكتنفهما من لوازمهما!.. حتى تجسم ذلك الخيال في الذهن وهو يصرخ: «أنا نوع منحصر في شخص»، لا من أبناء البشر بل ككائن خرافي يدور في حكايات الناس ويتقدم الخرافات فاتحًا الطريق إلى أمثاله.

يا من يريد رؤية الحقيقة مجرّدةً! أنعِم النظر في هذه المقدمة؛ لأن بابَ الخرافات ينفتح من هذا الموضع، وبابَ التحقيق «العلمي» ينسدّ به، زد على ذلك ففي هذه الأرض القاحلة الجرداء يضيع على الإنسان أخذُ العبرة من القصة، ويفوتُه البناء على أسس المتقدمين كما يمليه الترقي، ولا يتجرأ على التصرف في ميراث الأسلاف ولا الزيادة عليه.

فإن شئت فقل للخواجة نصر الدين الشهير بـ«جحا الرومي»: «أهذه الأقوال الغريبة كلّها لك؟ فسيكون جوابه: «هذه الأقوال تملأ المجلدات، وتحتاج إلى عمر مديد.، وأقوالي كلها ليست من نوادر الكَلِم، فأنا عالم من العلماء تسعني زكاةُ ما نسَبوا إليّ من أقوال. أما الباقي فأرفضه وأردّه لأنها تقلب ظرافتي إلى التصنع».

فيا هذا! من هذا العِرق تنبت الخرافات والموضوعات، ومنه تتفرع، وهو الذي يزيل قوة الصدق.

خاتمة

إن إحسانًا يزيد على الإحسان الإلهي ليس بإحسان.

إن حبة من حقيقة تَفضل بيدرًا من الخيالات.

الاطمئنان والقناعة بالإحسان الإلهي في التوصيف فرض.

يجب ألّا يخل بنظام المجتمع مَن كان داخلًا فيه.

أصل الشيء تبيُّنه ثمرته. شرف الشيء في ذاته لا في نسله.

إذا اختلطت في بضاعة بضاعةٌ أخرى، فإنها تنقص من قيمة الأولى وإن كانت الثانية قيّمة ونفيسة، بل تسبب حجزها.

والآن، بناءً على هذه النقاط، أقول:

إن إسناد قسم من الأحاديث الموضوعة إلى «ابن عباس» رضي الله عنه وأمثالِه من الصحابة الكرام، لأجل الترغيب أو الترهيب، إثارةً للعوام وحضًا لهم، إنما هو جهل عظيم.

نعم، إن الحق مستغنٍ عن هذا، والحقيقة غنية عنه؛ فنورُهما كافيان لإنارة القلوب. تسعنا الأحاديث الصحيحة المفسِّرة الحقيقية للقرآن الكريم، ونثق بها ونطمئن إلى التواريخ الصحيحة الموزونة بميزان المنطق.


[1] وذلك إذا كان العقل قطعي الدلالة والنقل ظني الدلالة، فيؤول الظني ليوافق القطعي. أما إذا كانا قطعيين فلا تعارض أصلا. وأما إذا كانا ظنيين فالنظر الشرعي أولى بالاتباع حتى يثبت العقلي أو ينهار.(المحقق)

[2] أي الإشارة التي تخص المجاز، أي التي تجعل الكلمة مجازًا حتمًا وهي القيد الذي يحول الكلمة عن معناها الحقيقي.

[3] البديهي ما لا يحتاج إلى نظر واستدلال، والنظري هو ما يحتاج إلى نظر واستدلال.

[4] ترد في ثنايا الكتاب اصطلاحات مشابهة لهذا، فتارة: الظاهريون، وأخرى: أهل الظاهر، وأخرى: المغرمون بالظاهر.. الخ. والمقصود: أولئك الذين يولون أهمية لظاهر الشيء دون حقيقته، ولا يمكنهم درك حقيقة الشيء، أو لا يعرفونها معرفة جيدة، أو يتوقفون في ظاهر الشيء أو النص دون تأويله وتوجيهه.