[وفي كل شيء له آية]

إخوتي الصديقين المتفكرين الأعزاء!.

أولا: لقد حصلت لدي القناعة التامة -بناء على أمارات كثيرة- أن الملحدين المتسترين يغررون ببعض الموظفين الرسميين، فيبرزون لهم بإصرارٍ رسالةَ «مرشد الشباب» من بين رسائل ضخمة خاصة بالنور، ويتخذونها موضع اتهام. فيذيقني أولئك عنَتا ومضايقة منذ سنة ونصف السنة.

فلقد تيقنت أن سبب ذلك هو ما في تلك الرسالة من «نكتة توحيدية في لفظ هو» إذ إن هذا البحث قد كَشف سر التوحيد ووضَّحه توضيحا يقطع به دابر الكفر المطلق، ولا يدع مجالا لأية شبهة لدى قسم منهم. ولما لم يجد أولئك الملحدون المتسترون حيلة تجاه هذا البحث القيّم، دبّروا المكايد للحيلولة دون انتشار الرسالة، وحَجبها رسميا.

ولقد ألقيتُ قبل يوم درسا على أركان مدرسة الزهراء، حول نقاط من البحث المذكور، أبيّن لكم ثلاثا منها فقط:

النقطة الأولى: إن وظيفة سامية جليلة من وظائف الهواء، هي كونه وساطة انتشار الكلمات الطيبة، وأقوال الإيمان، ذات الحقائق والمغزى الحكيم، كما تتوضح بالآية الكريمة: ﴿اِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ (فاطر:10). وحتى يغدو الهواء صحيفة من صحائف القدرة الإلهية، تتبدل تلك الصحيفة باستنساخِ قلم القدر فيها وانتشارِ تلك الكلمات بإذن إلهي، وذلك لأجل إسماع الملائكة والروحانيات في كرة الهواء كلها حتى صعودها إلى العرش الأعظم.

فما دامت وظيفةُ الهواء المهمة السامية، وحكمةُ خلقه، تكمن في هذا.. وقد أَضحى سطحُ الأرض شبيها بمنـزل واحد، بوساطة الراديو -هذه النعمةِ الإلهية العظيمة التي أُسديت إلى البشرية- فلا شك أن البشرية ستُقدِّم شكرا شاملا عاما لربّها تجاه ما أنعم به عليها من نعمة كبرى، فتجعلُ تلك النعمة -نعمة الراديو- قبل كل شيء وسيلة لنقل الكلمات الطيبة، من قرآن كريم وحقائقه أولا، ومن دروس الإيمان والأخلاق الفاضلة، والكلام النافع الضروري للحياة البشرية.

إذ لولا هذا الشكر -أي إن لم تجد تلك النعمةُ شكرا مثلَ هذا- فستصبح تلك النعمة نقمةً للبشرية؛ إذ كما أن الإنسان محتاج للاستماع إلى الحقائق فهو محتاج أيضا إلى شيء من اللهو والترفيه، ولكن يجب أن تكون حصةُ هذا الترفيه المفرح الخُمْسَ مما ينقله الهواءُ. وبخلافه تقع منافاة لسر حكمة الهواء، حيث يؤدي إلى دفع الإنسان إلى أحضان الكسل وحبّ الراحة والخمول والسفه، ويسوقه إلى عدم إتمامه وظائف ضرورية له وتركها ناقصة غير كاملة.. وعندها ينقلب ما كان نعمةً عظمى إلى نقمةٍ عظمى، بما ثبّط من شوق الإنسان نحو العمل الضروري له.

تأملت في هذا الراديو الصغير الذي أمامي. وقد أتوا به إلى غرفتي لأستمع إلى القرآن الكريم. فإذا هو ماكنة صغيرة ضمن صندوق صغير، فرأيت أن هناك حصة واحدة فقط للكلام الطيب من بين عشر حصص للهو والترفيه، فعلمت أن هذا خطأ يرتكبه الإنسان. وسيُصلح بإذن الله خطأه هذا ويقوّمه في المستقبل. فيجعل الراديو مدرسة إيمانية، وذلك بجعله حصة الكلام الطيب أربعة أخماس جميع الحصص، شكرا عاما تجاه نعمة الراديو هذه، وتوجيه تلك النعمة لصالح حياة الإنسان الخالدة.

النقطة الثانية: لقد ذكر في رسائل النور:

إن من لا يقدر على خَلق الكون لن يقدر على خلق ذرة واحدة، وليس غيرُ خالق الكون الذي يقدر على خلق ذرة في موضعها المناسب ويسوقُها إلى وظيفتها بانتظام.

نذكر حجة جزئية من الحجج الكلية لهذه الجملة:

هذا الراديو بقُربي، هو محفظة لأنواع الكلمات.. وما فيه من جهاز قد لا يحوي إلّا جزءا قليلا من الهواء. لنتأمل في هذا الهواء القليل جدا، فيوضح لنا ما يأتي:

إنه حسب قائمة دار الإذاعة التي بين أيدينا، هناك ما يقرب من مئتي مركز إذاعي، هذه المراكز متفاوتة في القرب والبعد، فقد تبعد عنا ساعة أو سنة.

فلولا وجود قوةٍ لا حدّ لها في كل ذرة من ذرات الهواء، وإرادةٍ لا حصر لها، وعلمٍ تام محيط بلهجات المقرئين في تلك المراكز على الأرض كلها، ولولا وجود بصر حاد محيط يرى أولئك جميعهم، ولولا سمع يقدر على سماع كل شيء في آن واحد، دون أن يشغله شيء عن شيء.. لَمَا أمكن وصول كلمة قرآنية -الحمد لله مثلا- إلى آذاننا في الدقيقة نفسها التي تبث فيها من المركز، بحروفها الكاملة وبلهجتها ولغتها، بل بنبرات صوت المتكلم بها، دون أن يطرأ عليها تغيير. كل ذلك بوساطة تلك الذرات التي في حفنة هواء جهاز الراديو الصغير. فإيصال مختلف كلمات القرآن، بمختلف الأصداء والأصوات من دون تغير ولا خلل، إلى أسماعنا، إنما هو بتلك القدرة المطلقة والصفات المطلقة. ولولاها لمَا وجدتْ ولا ظهرت هذه المعجزة، معجزة القدرة.

أي إن ذرات الهواء، في هذا الجهاز الصغير، لا تنال القيام بتلك الأعمال المعجزة، ولا تُظهر معجزة القدرة، إلّا بقدرةِ مَن هو قدير مطلق، وبإرادته، ومن هو عليم سميع بصير محيط بكل شيء، ومن لا يصعب عليه شيء، بل أعظم شيء كأصغره أمام قدرته..

وبخلاف هذا فإن إسناد هذا الأمر المعجز إلى المصادفة العشواء والقوة العمياء والطبيعة الصماء -التي يُظن وجودُها في موجات الهواء- إنما هو جعلُ كل ذرة من ذرات الهواء، والهواءِ المحيط بالأرض حكيما مطلقا بصيرا بكل شيء، عليما لا يخفى عليه شيء، قادرا على كل شيء!. وما هذا إلّا خرافة ممجوجة ومحالٌ بل محالات بعيدة كل البعد عن منطق العقل..

ألاَ فليأت أهل الضلال، وليروا: ما أبعدَ مذهبهم عن العقل!

النقطة الثالثة: إن الهواء الضئيل جدا الموجودَ في جهاز الراديو الصغير، يؤدي مهمة السندانة لأزاهير الكلمات المعنوية الطيبة. فيظهر من معجزات القدرة الإلهية ما يبين أن كل ذرة منه تثبت وجود الله سبحانه وتعرّفه بذاته المقدسة وصفاته الجليلة.

فلقد ساح الحكماء الفلاسفة، والعلماء الأعلام في جنبات الكون خيالا، ووضعوا ما فيه نصب نظر العقل، ليثبتوا وجوده سبحانه و وحدانيته، بإيراد دلائل واسعة عظيمة، ومن بعد ذلك ينالون معرفة الله الحقة. بينما هناك حقيقة وهي: أن الشمس حالما تشرق، تبيّنها قطعة من زجاج مثلما يبينها سطح البحر، أي كلٌّ منها يشير إلى تلك الشمس. فبناء على هذه الحقيقة، فإن كل ذرة من ذرات هواء هذا الراديو تبيّن بذاتها تجلي التوحيد، وكمال صفاته تعالى. ولقد أثبتت رسائل النور -التي هي لمعة من لمعات الإعجاز المعنوي للقرآن الكريم- هذه الحقيقة بوضوح تام.

لذا لا يجد طالب النور المدققُ ضرورةً إلى قول: «لا موجود إلّا هو» ليحصل على الحضور القلبي الدائم ويتذكر المعرفة الإلهية دائما. كما أنه لا يحتاج أيضا إلى قولِ: «لا مشهود إلاّ هو» كما هو الحال لدى قسم من أهل الحقيقة، لينعم بالحضور القلبي الدائم.. بل تكفيه إطلالة من نافذة الحقيقة السامية:

وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ  تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ وَاحِدٌ

وتوضيح هذه العبارة باختصار هو: أن لكل أحد من هذا العالم عالما يخصّه، وكونا خاصا به، أي كأن هناك عوالم وأكوانا متداخلة بعدد ذوي الشعور.. وأن حياة كل أحد هي عمود لدنياه الخاصة به، كما لو كان بيد كل واحد مرآة ووجهها إلى قصر عظيم، فيكون كلٌّ منهم مالكا لذلك القصر في مرآته.

لذا يجد قسم من أهل الحقيقة المعرفة الإلهية ويحصلون على حضور القلب الدائم بإنكار دنياهم الخاصة بهم، وبترك ما سوى الله، فيقولون: «لا موجود إلا هو»..

وقسم آخر من أهل الحقيقة يقولون: «لا مشهود الا هو» بلوغا منهم إلى معرفة الله والحضور القلبي الدائمي. فيزجون دنياهم في سجن النسيان ويسدلون عليها ستار الفناء. فيحصلون على حضور القلب، ويجعلون عمرَهم في حكم نوع من العبادة.

أما في هذا الزمان فإن رسائل النور قد وضّحت بالإعجاز المعنوي للقرآن الحكيم سرّ العبارة الآتية:

وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ  تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ وَاحِدٌ

أي إن رسائل النور تبين أنه -ابتداء من الذرات وانتهاء إلى المجرات- هناك نافذة في كل منها تطل على التوحيد، وفي كل منها دلائل وإشارات تدل مباشرة على ذات الواحد الأحد بصفاته الجليلة.

فلقد أشارت إشارات مجملة «نكتة لفظ هو» إلى هذه الحقيقة السامية، حقيقة الإيمان وحضور القلب. بينما أثبتتها رسائل النور إثباتا قاطعا واضحا. في حين بيّنها أهل الحقيقة سابقا بيانا مجملا مختصرا.

بمعنى أن هذا الزمان الرهيب أشد حاجة من أي وقت آخر إلى هذه الحقيقة، حتى أنعم الله على الناس، بوساطة إعجاز القرآن الكريم، وفصّلتها رسائل النور وأصبحت إحدى ناشريها.

الباقي هو الباقي

أخوكم

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[المألوف المعجز]

باسمه سبحانه

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أبدا دائما

إخوتي الصديقين الأعزاء!

أولا: نهنئكم -ملء كياننا وأرواحنا- بالشهور الثلاثة المباركة التي تُكسب الإنسان ثمانين سنة من عمر معنوي خالد. ونبارك لياليكم الفاضلة، ليلة الرغائب، ليلة المعراج، ليلة البراءة، ليلة القدر راجين من رحمته تعالى أن تتقبل مكاسبَكم المعنوية وأدعيتَكم بحقّ إخوانكم، مباركين خدماتكم الطيبة وتوفيقكم في سبيل نشر النور.

ثانيا: إن مصيبة النسيان التام التي ألمّت بي من جراء التسميم، قد تحولت بفضل الله إلى نعمة ورحمة ومفتاح لكشف عدد من الحقائق. فأُعلمكم بهذا لئلا تتألموا كثيرا على حالي، رغم أني أرجو دعواتكم بكل ما أملك.

نعم، لقد قرأت الآن رسالة «المناجاة» التي هي في مستهل مجموعة «سراج النور» فلاحظت أن كثيرا من الحقائق تتستر تحت حجب الألفة والعادة والاطّراد.

وحيث إن الملحدين من أهل الغفلة وأهل الطبيعة والفلسفة خاصة، لا يرون كثيرا من معجزات القدرة الإلهية المحجوبة تحت حجاب قوانين الله ونواميسه الجارية في الكون، تراهم يسندون حقيقةً جليلة إلى سبب اعتيادي تافه، ويحملونها عليه، فيسدّون بهذا الطريق المؤدي إلى معرفة القدير سبحانه في كل شيء، بل يُعمُون أبصارهم عن النِعم التي وضعها المُنعم في كل شيء، فلا يرونها، ويسدّون أبواب الشكر والحمد.

فمثلا: إن القدرة الإلهية الجليلة مثلما تستنسخ كلمة واحدة مليون بل مليار مرة في آن واحد، وذلك بتجليها على صحيفة الهواء. فكلُّ كلمة طيبة أيضا تستنسخ برمز الآية الكريمة: ﴿اِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ (فاطر:10) في كرة الهواء المحيطة بالأرض، وفي آن واحد -في حكم بلا زمان- بقلم القدرة الإلهية. وقد تسترت معجزة عجيبة من معجزات القدرة في كُرة الهواء كأنها لوحةُ محوٍ وإثباتٍ للحقائق المقبولة المعنوية، تسترت بستار الألفة عن أنظار الغافلين منذ زمن آدم عليه السلام.

وقد أثبتت تلك المعجزة نفسها في الوقت الحاضر بوساطة جهاز سَمَّوهُ «الراديو» بحيث إن تجليا للقدرة الأزلية المطلقة التي يضم علما مطلقا وحكمة مطلقة وإرادة مطلقة، حاضرٌ وناظر في كل ذرة من ذرات الهواء. إذ إن الكلمات المختلفة التي لا حدود لها تدخل الأذن الصغيرة للذرة وتخرج من لسانها الدقيق، دون اختلاط أو التباس، لا خلل ولا تحير.

بمعنى أنه إن اجتمعت الأسباب كلها، لم تستطع بحال من الأحوال أن تظهر تجلي القدرة الأزلية في هذه الوظيفة الفطرية لذرة واحدة.. ولمّا كانت الأسباب لا دخل لها مطلقا في إظهار الصنعة البديعة المعجزة في آذان تلك الذرة الصغيرة التي لا تعد وفي ألسنتها الدقيقة التي لا تحصى، فإن أهل الضلال والغفلة يسترونها تحت ستار الألفة والعادة والقانون والاطراد، ويضعون عليها اسما اعتياديا يخدعون به أنفسهم موقتا.

فمثلا: مثلما ذُكر في حاشية ذيل الكلمة الرابعة عشرة، أنه: إذا صنع صَنّاع ماهر مائة أوقية من مختلف الأطعمة، ومائة ذراع من مختلف الأقمشة، من قطعة تافهة لا تتجاوز قلامة أظفر، ثم قال أحدهم: إن هذه الأعمال قد نتجت من تلك القطعة الخشبية التافهة مصادفةً، وبأمور طبيعية، تهوينا من قيمة خوارق صنعة ذلك الصناع الماهر.. كم يكون كلامه هذا هذيانا، وخرافة خرقاء وضلالة بعيدة؟.

كذلك الأمر في شجرة الصنوبر أو التين، وأمثالها من أُلوف بدائع صنع الله الحاوية على معجزات قدرته سبحانه، فتراهم يبرزون حبّة البذرة قائلين: إن هذه الأشجار الضخمة قد نشأت من هذه البذور.

وكذلك الأمر في هذا الجهاز الذي جعل الهواءَ المحيط بالكرة الأرضية ميدانَ محاضرة، وحوّل سطحَ الأرض إلى مدرسة وملتقى دروس المعرفة والعرفان. ويتضمن نعما لا حد لها، ينبغي الشكرَ غير المحدود عليها. وهو أنموذج معجّل لإحسانات إلهية، تُنعَم على البشر في حياته الأخروية الأبدية، وهو دليل لا ريب فيه وهدية رحمانية تُغدَق مباشرة من خزينة الرحمة الإلهية. فإطلاق اسم «الراديو» على هذه الهدية المهداة، وإطلاق اسم الكهرباء وموجاتِ الهواء.. إنما هو إسدال ستارِ الكفران على تلك النعم الإلهية التي تربو على مئات الألوف -كما هو في المثال السابق- بل هو بلاهة لا منتهى لها يقترفها الماديون والضالون، بحيث تفضي بهم إلى جناية غير متناهية، تعرّضهم إلى عقاب غير متناه يستحقونه.

فيا إخوتي:

لقد قرأت هذا اليوم -بنية التصحيح -رسالة «المناجاة» التي هي في مستهل مجموعة «سراج النور»، ولكن لما كانت قوةُ حافظتي قد وهنَت وضعفت نهائيا، فقد رأيتُني كأنني أتيت حديثا إلى الدنيا تجاه تلك الحقائق في «المناجاة» رغم أني في الثمانين من العمر، فلم تعُد تلك العاداتُ المعروفة ستارا وحجابا أمام تأملي، لذا قرأت تلك «المناجاة» بشوق كامل، واستفدت منها استفادة عظيمة بفضل الله، ووجدتُها خارقة حقا، وعلمت أن أعداءنا المتسترين يغررون ببعض الموظفين الرسميين في سبيل مصادرة «سراج النور»، محتجين بما في آخره -من بحث الدجال-، إلّا أن قناعتي أن سببَ ذلك هو رسالة «المناجاة» التي في مستهلها، كما كان سببُ هجوم الملحدين على «مرشد الشباب» بحثَ «نكتة توحيدية في لفظ هو».

ثالثا: نبشركم بكياننا كله يا إخوتي: أن الإخلاصَ التام الذي يتحلى به طلابُ النور والوفاءَ الحقيقي الجاد والتساند الذي لا يتزعزع الذي يحملونه يجعل جميع المصائب التي تنـزل بنا -من حيث الخدمة الإيمانية- نعما عظيمة.. نعم، إن فتوحات النور تتوسع في الخفاء بما ليس بالحسبان ولا يخطر على خيال أحد.

فمثلا: لقد اضطروا إلى دفع مائة ليرة ورقية أجرة للسيارة التي نقلتني من إسبارطة إلى المحكمة المنعقدة هنا (إسطنبول). ثقوا يا إخوتي لو كنتُ أدفع مئتي ليرة لنتائج تخصّ خدمة الإيمان تنشأ من هذه المسألة فقط وتخص «مرشد الشباب» فحسب، أو مما يخصني أنا بالذات، لكنت أعد تلك النقود المصروفة قليلة زهيدة تجاه تلك النتائج الجليلة.. فكيف بالنتائج التي تعود إلى عامة الطلاب والناس عموما والمسائل الكلية!

الباقي هو الباقي

أخوكم المريض الراجي دعاءكم

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[النظر إلى المخلوقات]

حاشية لرسالة مفتاح عالم النور

في سَفرة بالسيارة ذات يوم، مع طالبَين نوريين جامعيين، كنا نستمع من راديو السيارة الذي لا يرتبط بأي اتصال سلكي، إلى احتفال بالمولد النبوي شريفٍ مُقام في مكان بعيد. قلت لذينك الجامعيين:

إن الدليل على أن تجلي القدرة الإلهية تظهر في «النور» تجليا بديهيا دون حجاب -كتجلي الحياة والوجود- هو: أن الهواء الموجود في هذا الجهاز الصغير، والذي لا يتجاوز حجمُه ظفر الإنسان، هذا الهواء القليل جدا والنور المعنوي الضئيل جدا لا يستمع إلى الكلمات القادمة من هذا المولد النبوي ثم يقولها، وإنما أيضا يستمع إلى أُلوف الكلمات ويُسمعنا جميعَ الكلمات التي تبثها ألوفُ إذاعاتِ العالم، ونسمَعُها بمثل ما نسمع هذا المولد النبوي بوضوح.

بمعنى أن أصغر موجود جزئي يصبح أكبر كلي!

ثم إن هذا الهواء القليل جدا يُنجز من الوظائف بقدر ما ينجزه الهواء المحيط بالكرة الأرضية، أي يكبرُ أصغرُ جزئي بكبر الكرة الهوائية المحيطة… فلو لم يُسند هذا الأمر إلى تجلي القدرة الإلهية لنتجت خرافة عجيبة تحمل من المتناقضات ما لا يسعه خيال، إذ إن انقلاب الشيء إلى ضده محال، فكيف يُصبح هذا الجزئي الذي هو صغير بألوف الدرجات كليا بألوف المرات؟ وكيف يصبح هذا الجامد العاجز الذي لا يشعر بشيء مقتدرا وذا شعور وإدراك و إرادة؟

فهذه خرافة تحمل مئات الخرافات والمتناقضات التي لا مثيل لها.

بمعنى أن الأمر إنما هو بتجلي القدرة الإلهية بالبداهة. والذي يمثل ذلك التجلي الواسع في الهواء عامة يبيّنه معنى الحديثِ الشريف: «إن لله ملكا، له أربعون ألف رأس، في كل رأس أربعون ألف لسان، يسبح أربعين ألف تسبيحة بكل لسان». بمعنى أنه يسبح أربعا و ستين تريلون تسبيحة في اللحظة نفسها.

أي إن الهواء المحيط بالأرض كهذا الملك، أي يكتب على صحيفة الهواء كل كلمة طيبة بعدد تسبيحات هذا الملك.

يقول الهواء المحيط: إن هذا الحديث ينبئ عني وعن الملَك الذي يُشْرِف على أعمالي، لأنه ضمن كلمات الإنسان كلّها والأصوات الأخرى التي لا تحد تَردُ هذه الكلماتُ الطيبة بحروفها دون أي التباس مع أنها تختلط مع بعضها، وبنبرات المتكلم بها، وبصوته المتميز. فليس في الإمكان قطعا إحالة هذا العمل الذي يتم بشعور كلي كامل -هو وظيفة ذرة واحدة مني- إليّ ولا إلى أي سبب من الأسباب.

أي إنه تجلي القدرة الأزلية التي تضم إرادة شاملة لكل شيء وعلما محيطا بكل شيء ليس إلّا، ذلك التجلي العام الشامل لكل شيء، الحاضر والناظر بتجلي الأحدية في كل مكان.

والشهود على هذا يربون على الملايين، أحد أولئك الشهود: الراديو.

إن مضمون ما جاء في الكلمة الثالثة عشرة، لدى المقارنة بين حكمة القرآن وفلسفة الإنسان هو الآتي:

إن الفلسفة التي تَوصَّل إليها الإنسان تحجُب معجزاتِ القدرة الإلهية وخوارقَ رحمته تعالى بستار العاديات، فلا ترى دلائل الوحدانية المضمرة تحت تلك العاديات وتلك النعم الجليلة، ولا تبينها ولا تدل عليها، بينما إذا ما رأت ما هو خارج عن العادة من جزئيات خاصة، تتوجه إليه وتهتم به.

فمثلا: إنها لا ترى معجزة القدرة الإلهية في خلق الإنسان السوي ولا تهتم به، بينما تجلب الأنظار بحيرة واستغراب إلى الإنسان ذي الرأسين أو ذي ثلاثة أرجل الخارج عن القاعدة. فهي تخبئ معجزاتِ القدرةِ الكليةَ العامة تحت ستار العادة، في حين أنها تجعل المواد الخارجة عن وظائفها والجزئية مدارَ عبرةٍ وتأمُّلٍ!.

ومثلا: إنها لا ترى المعجزات في إعاشة صغار الإنسان والحيوانات، بل تعدّها أمرا عاديا فلا تُعير لها بالا، ولكن حشرة نأت عن طائفتها وانعزلت عن أمتها وظلت في قعر البحر ومُدَّت إليها يدُ المعونة بورقة خضراء، وأَخذت تتغذى عليها، أدمعت عيونَ صيادي الأسماك على الحادث هذا، وأعلنوا عنها ببهاء حتى ذكرتها إحدى صحف أمريكا في حينه.

بينما في أصغر حيوان هناك ألوفُ ألوفِ المعجزات أمثال هذه للأرزاق، إذ تتدفق الأثداء بسائل الحياة للصغار. بيد أن الفلسفة البشرية لا ترى تلك المعجزة، معجزة الرحمة والإحسان الإلهي كي تشكر ربها وتؤمن بالرحمن وتقابله بالشكر.

وهكذا فالحكمة القرآنية تمزّق ذلك الحجاب، حجابَ العاديّات المضروبَ على المخلوقات وترشد البشرية إلى تلك المعجزات الكلية والنعم التي يسبغها الله سبحانه على الكائنات قاطبة، فتَعرِف ربها وتسوق الجميع إلى العبودية المكللة بالشكر لله تعالى.

وهكذا فإن أعجب خطأ وأغربَه مما تقترفه الفلسفة البشرية هو: أن الإنسان الذي لا تفي إرادتُه واختيارُه الجزئي لفعل جزئي ظاهري جدا وهو «التكلم» ولا يقدر على إيجاده، وإنما يدفع الهواء إلى مواضع مخارج الحروف، والله سبحانه هو الذي يخلق الكلمات بناء على هذا الكسب الجزئي، ويكتبه بألوف ألوف النسخ في الهواء.

فعلى الرغم من قصر يد الإنسان عن الإيجاد إلى هذا الحد، فإن إعطاء اسم «إيجاد الإنسان» على معجزة قدرة إلهية كلية تعجز جميعُ الأسباب، أسباب الكون دونها خطأٌ جسيـمٌ وأيّ خطأ. يدرك ذلك كلُّ من له ذرة من شعور.

ومثال ذلك هو: أن رجلا عاجزا جعل قانونا إلهيا -يضم مائة ألف من الخوارق- وسيلةً لاستفادة البشر، بكشفه الراديو، بإلهام إلهي، أي بنوع من استجابة دعاء الإنسان الفعلي، كم يكون خطأ قول الإنسان: نعم، إن الراديو قد أوجدَه المخترع الفلاني، وهو الذي أوجدَ القوة الكهربائية. وهناك آخرون يسعون لإيجاد مادة لقراءة ما في دماغ الإنسان!.

نعم، إن الله سبحانه وتعالى قد خلق العالم دار ضيافة تليق بالإنسان، وهيأ له فيها كل ما يحتاجه ويلزمه… وكنوع من متطلبات الضيافةُ يسلم إلى يده -في بعض الأزمان والعصور- نعما ظلت مخفية عنه، وذلك نتيجة دعائه الفعلي الذي هو البحث عن الحقائق والتحري عنها، المتولدُ من تلاحق الأفكار. فبينما يجب على الإنسان أن يشكر ربه تجاه هذه النعم، إذا به يرتكب كفرانا عظيما فينسى أنها منه تعالى، وينظر إليها من إيجاد إنسان اعتيادي عاجز، ويُسندها إلى مهارته بل يُنسي الآخرين كذلك تلك الخوارقَ الناشئة من إحسانٍ عميم يغدق بعلم وإرادة ورحمة وشعور، حيث لا يظهر إلّا سبباَ ومشهدا منه. ويفوّض أمره إلى المصادفة العشواء والطبيعة والمواد الجامدة. وما هذا إلّا فتحٌ لباب الجهل المطلق المنافي للإنسان المكرم المخلوق في أحسن تقويم.

لذا يلزم النظر إلى المخلوقات بالنظر الحرفي لا الاسمي، وفق دستورِ:

وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ  تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ وَاحِدٌ

وذلك لأجل أن يسمو الإنسان إلى مستوى الإنسان حقا.

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّمْتَنَاۜ اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيمُ

* * *