ﻟﻘﺪ ﻣﺎﺯﺝَ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻠﻤﻌﺔ ﺷﻲﺀٌ ﻣﻦ ﺍﻷﺫﻭﺍﻕ ﻭﺍﻟﻤﺸﺎﻋﺮ، ﻓﺄﺭﺟﻮ ﻋﺪﻡ ﺗﻘﻴﻴﻤﻬﺎ ﺑﻤﻮﺍﺯﻳﻦ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻤﻨﻄﻖ؛ ﻷﻥ ﻣﺎ ﺗﺠﻴﺶ ﺑﻪ ﺍﻟﻤﺸﺎﻋﺮ ﻻ ﻳﺮﺍﻋﻲ ﻛﺜﻴﺮﺍً ﻗﻮﺍﻋﺪ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻭﻻ ﻳﻌﻴﺮ ﺳﻤﻌﺎً ﺇﻟﻰ ﻣﻮﺍﺯﻳﻦ ﺍﻟﻔﻜﺮ.

 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (ﺍﻟﻘﺼﺺ:٨٨)

  ﻫﺬﻩ ﺍﻵﻳﺔ ﺍﻟﻌﻈﻴﻤﺔ ﺗﻔﺴﺮﻫﺎ ﺟﻤﻠﺘﺎﻥ ﺗﻌﺒّﺮﺍﻥ ﻋﻦ ﺣﻘﻴﻘﺘﻴﻦ ﻣﻬﻤﺘﻴﻦ ﺑﺤﻴﺚ ﺍﺗﺨﺬﻫﻤﺎ ﻗﺴﻢٌ ﻣﻦ ﺷﻴﻮﺥ ﺍﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﺍﻟﻨﻘﺸﺒﻨﺪﻳﺔ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﺯﺑﺪﺓ ﺍﻷﻭﺭﺍﺩ ﻟﺪﻳﻬﻢ، ﻳﺆﺩﻭﻥ ﺑﻬﻤﺎ ﺧﺘﻤَﺘَﻬﻢ ﺍﻟﺨﺎﺻﺔ. ﻭﺍﻟﺠﻤﻠﺘﺎﻥ ﻫﻤﺎ: «ﻳﺎ ﺑﺎﻗﻲ ﺃﻧﺖ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ. ﻳﺎ ﺑﺎﻗﻲ ﺃﻧﺖ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ».

ﻭﻟﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺎﺗﺎﻥ ﺍﻟﺠﻤﻠﺘﺎﻥ ﺗﻨﻄﻮﻳﺎﻥ ﻋﻠﻰ ﻣﻌﺎﻥ ﺟﻠﻴﻠﺔ ﻟﺘﻠﻚ ﺍﻵﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ، ﻓﺴﻨﺬﻛﺮ ﺑﻀﻊَ ﻧﻜﺎﺕ ﻟﺒﻴﺎﻥ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺘﻴﻦ ﺍﻟﻠﺘﻴﻦ ﺗﻌﺒّﺮﺍﻥ ﻋﻨﻬﻤﺎ:

  ﺍﻟﻨﻜﺘﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ

ﺇﻥ ﺗﺮﺩﻳﺪ «ﻳﺎ ﺑﺎﻗﻲ ﺃﻧﺖ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ» ﻟﻠﻤﺮﺓ ﺍﻷﻭﻟﻰ، ﻳﺠﺮّﺩ ﺍﻟﻘﻠﺐَ ﻣﻤﺎ ﺳﻮﻯ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ، ﻓﻴُﺠﺮﻱ ﻣﺎ ﻳﺸﺒﻪ ﻋﻤﻠﻴﺔً ﺟﺮﺍﺣﻴﺔ ﻓﻴﻪ، ﻭﻳﻘﻄﻌُﻪ ﻋﻤﺎ ﺳﻮﺍﻩ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ. ﻭﺗﻮﺿﻴﺢ ﻫﺬﺍ:

ﺇﻥَّ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺑﻤﺎ ﺃﻭﺩﻉ ﺍﻟﻠﻪ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﻣﺎﻫﻴﺔٍ ﺟﺎﻣﻌﺔ ﻳﺮﺗﺒﻂ ﻣﻊ ﺃﻏﻠﺐ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﺑﺄﻭﺍﺻﺮَ ﻭﻭﺷﺎﺋﺞ ﺷﺘﻰ. ﻓﻔﻲ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺎﻫﻴﺔ ﺍﻟﺠﺎﻣﻌﺔ ﻣﻦ ﺍﻻﺳﺘﻌﺪﺍﺩ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﻤﺤﺪﻭﺩ ﻟﻠﻤﺤﺒﺔ ﻣﺎ ﻳﺠﻌﻠﻪ ﻳﻜﻦّ ﺣُﺒﺎً ﻋﻤﻴﻘﺎً ﺗﺠﺎﻩ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻋﺎﻣﺔ، ﻓﻴﺤﺐ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﺍﻟﻌﻈﻴﻤﺔ ﻛﻤﺎ ﻳﺤﺐ ﺑﻴﺘَﻪ، ﻭﻳﺤﺐ ﺍﻟﺠﻨﺔَ ﺍﻟﺨﺎﻟﺪﺓ ﻛﻤﺎ ﻳﺤﺐ ﺣﺪﻳﻘﺘﻪ. ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ -ﺍﻟﺘﻲ ﻭﺟّﻪ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥُ ﺣﺒَّﻪ ﻧﺤﻮﻫﺎ- ﻻ ﺗﺪﻭﻡ، ﺑﻞ ﻻ ﺗﻠﺒﺚ ﺃﻥ ﺗﺰﻭﻝ، ﻟﺬﺍ ﻳﺬﻭﻕ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥُ ﺩﺍﺋﻤﺎً ﻋﺬﺍﺏَ ﺃﻟﻢ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕ. ﻓﺘﺼﺒﺢ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺤﺒﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻻ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﻟﻬﺎ ﻣﺒﻌﺚَ ﻋﺬﺍﺏٍ ﻣﻌﻨﻮﻱ ﻻ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﻟﻪ، ﻟﺘﻘﺼﻴﺮﻩ ﺑﺤﻘﻬﺎ. ﻓﺎﻵﻻﻡ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺘﺠﺮﻋﻬﺎ ﻧﺎﺷﺌﺔٌ ﻣﻦ ﺗﻘﺼﻴﺮﻩ ﻫﻮ، ﺣﻴﺚ ﻟﻢ ﻳﻮﺩَﻉ ﻓﻴﻪ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩُ ﺍﻟﻤﺤﺒﺔ ﺇﻟّﺎ ﻟﻴﻮﺟﻬﻪ ﺇﻟﻰ ﻣَﻦ ﻟﻪ ﺟﻤﺎﻝ ﺧﺎﻟﺪ ﻣﻄﻠﻖ. ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥُ ﻟﻢ ﻳُﺤﺴﻦ ﺍﺳﺘﻌﻤﺎﻝ ﻣﺤﺒﺘﻪ ﻓﻮﺟّﻬﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﻣﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻓﺎﻧﻴﺔ ﺯﺍﺋﻠﺔ، ﻓﻴﺬﻭﻕ ﻭﺑﺎﻝ ﺃﻣﺮﻩ ﺑﺂﻻﻡ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕ.

ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ ﻳﺮﺩﺩ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ: «ﻳﺎ ﺑﺎﻗﻲ ﺃﻧﺖ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ». ﻳﻌﻨﻲ ﺑﻬﺎ: ﺍﻟﺒﺮﺍﺀﺓ ﺍﻟﻜﺎﻣﻠﺔ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﻘﺼﻴﺮ، ﻭﻗﻄﻊ ﺍﻟﻌﻼﻗﺎﺕ ﻣﻊ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺤﺒﻮﺑﺎﺕ ﺍﻟﻔﺎﻧﻴﺔ، ﻭﺍﻟﺘﺨﻠﻲ ﻋﻨﻬﺎ ﻛﻠﻴﺎً، ﻗﺒﻞ ﺃﻥ ﺗﺘﺨﻠﻰ ﻫﻲ ﻋﻨﻪ. ﺛﻢ ﺗﺴﺪﻳﺪ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺤﺒﻮﺏ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ ﻭﻫﻮ ﺍﻟﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﺩﻭﻥ ﺳﻮﺍﻩ.

ﺃﻱ ﻳﻘﻮﻝ ﺑﻬﺎ: «ﻻ ﺑﺎﻗﻲ ﺑﻘﺎﺀً ﺣﻘﻴﻘﻴﺎً ﺇﻟّﺎ ﺃﻧﺖ ﻳﺎ ﺇﻟﻬﻲ. ﻓﻤﺎ ﺳﻮﺍﻙَ ﻓﺎﻥٍ ﺯﺍﺋﻞ، ﻭﺍﻟﺰﺍﺋﻞُ ﻏﻴﺮُ ﺟﺪﻳﺮ ﺑﺎﻟﻤﺤﺒﺔ ﺍﻟﺒﺎﻗﻴﺔ ﻭﻻ ﺍﻟﻌﺸﻖ ﺍﻟﺪﺍﺋﻢ، ﻭﻻ ﺑﺄﻥ ﻳُﺸﺪّ ﻣﻌﻪ ﺃﻭﺍﺻﺮ ﻗﻠﺐٍ ﺧُﻠِﻖ ﺃﺻﻼ ﻟﻸﺑﺪ ﻭﺍﻟﺨﻠﻮﺩ». ﻭﺣﻴﺚ ﺇﻥ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻓﺎﻧﻴﺔٌ ﻭﺳﺘﺘﺮﻛﻨﻲ ﺫﺍﻫﺒﺔً ﺇﻟﻰ ﺷﺄﻧﻬﺎ، ﻓﺴﺄﺗﺮﻛﻬﺎ ﺃﻧﺎ ﻗﺒﻞ ﺃﻥ ﺗﺘﺮﻛﻨﻲ، ﺑﺘﺮﺩﻳﺪﻱ: «ﻳﺎ ﺑﺎﻗﻲ ﺃﻧﺖ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ». ﺃﻱ: ﺃﺅﻣﻦ ﻭﺃﻋﺘﻘﺪ ﻳﻘﻴﻨﺎً ﺃﻧﻪ ﻻ ﺑﺎﻗﻲ ﺇﻟّﺎ ﺃﻧﺖ ﻳﺎ ﺇﻟﻬﻲ، ﻭﺑﻘﺎﺀُ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻣﻮﻛﻮﻝ ﺑﺈﺑﻘﺎﺋﻚ ﺇﻳﺎﻫﺎ، ﻓﻼ ﻳﻮﺟَّﻪ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﺍﻟﻤﺤﺒﺔُ ﺇﺫﻥ ﺇﻟّﺎ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﻧﻮﺭ ﻣﺤﺒﺘﻚ، ﻭﺿﻤﻦ ﻣﺮﺿﺎﺗﻚ، ﻭﺇﻻ ﻓﺈﻧﻬﺎ ﻏﻴﺮُ ﺟﺪﻳﺮﺓ ﺑﺮﺑﻂ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﻣﻌﻬﺎ.

ﻓﻬﺬﻩ ﺍﻟﺤﺎﻟﺔ ﺗﺠﻌﻞ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﻳﺘﺨﻠﻰ ﻋﻦ ﻣﺤﺒﻮﺑﺎﺕ ﻛﺎﻥ ﻳﻮﻟﻴﻬﺎ ﻣﺤﺒﺔً ﻻ ﺣﺪﻭﺩ ﻟﻬﺎ، ﺣﻴﺚ ﻳﺒﺼﺮ ﺧﺘﻢَ ﺍﻟﻔﻨﺎﺀ ﻭﻳﺸﺎﻫﺪ ﻃﺎﺑﻊَ ﺍﻟﺰﻭﺍﻝ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺃﺿﻔﻲ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺟﻤﺎﻝ ﻭﺑﻬﺎﺀ. ﻓﺘﺘﻘﻄﻊ ﻋﻨﺪﺋﺬ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻮﺷﺎﺋﺞُ ﺍﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺮﺑﻂ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﺑﺎﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ. ﻭﺑﺨﻼﻑ ﻫﺬﺍ ﺍﻷﻣﺮ ﺃﻱ ﺇﻥ ﻟﻢ ﻳﺘﺨﻞَّ ﺍﻟﻘﻠﺐُ ﻋﻦ ﻣﺤﺒﻮﺑﺎﺗﻪ ﻓﺈﻥ ﺟﺮﺍﺣﺎﺕٍ ﻭﺁﻻﻣﺎً ﻭﺣﺴﺮﺍﺕٍ ﺗﺘﻔﺠﺮ ﻣﻦ ﺃﻋﻤﺎﻗﻪ ﺑﻘﺪﺭ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺤﺒﻮﺑﺎﺕ ﺍﻟﻔﺎﻧﻴﺔ.

ﺃﻣﺎ ﺍﻟﺠﻤﻠﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ: «ﻳﺎ ﺑﺎﻗﻲ ﺃﻧﺖ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ»ﻓﻬﻲ ﻛﺎﻟﻤﺮﻫﻢ ﺍﻟﺸﺎﻓﻲ ﻭﺍﻟﺒﻠﺴﻢ ﺍﻟﻨﺎﺟﻊ ﻳُﻤﺮَّﺭ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﺍﻟﺠﺮﺍﺣﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﺟﺮﺗﻬﺎ ﺍﻟﺠﻤﻠﺔُ ﺍﻷﻭﻟﻰ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﻭﺭﻭﺍﺑﻄﻪ، ﺣﻴﺚ ﺇﻧﻬﺎ ﺗﻌﻨﻲ: «ﻛﻔﻰ ﺑﻚ ﻳﺎ ﺇﻟﻬﻲ ﺑﺎﻗﻴﺎً. ﻓﺒﻘﺎﺅﻙ ﺑﺪﻳﻞٌ ﻋﻦ ﻛﻞِّ ﺷﻲﺀ.. ﻭﺣﻴﺚ ﺇﻧﻚ ﻣﻮﺟﻮﺩٌ ﻓﻜﻞ ﺷﻲﺀ ﻣﻮﺟﻮﺩ ﺇﺫﻥ».

ﻧﻌﻢ، ﺇﻥَّ ﻣﺎ ﻳﺒﺪﻭ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻣﻦ ﺍﻟﺤُﺴﻦ ﻭﺍﻹﺣﺴﺎﻥ ﻭﺍﻟﻜﻤﺎﻝ -ﻭﺍﻟﺬﻱ ﻳﺒﻌﺚ ﻋﻠﻰ ﻣﺤﺒﺘﻬﺎ- ﻣﺎ ﻫﻮ ﺇﻟّﺎ ﺇﺷﺎﺭﺍﺕٌ ﻟﺤﺴﻦِ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻭﺇﺣﺴﺎﻧﻪ ﻭﻛﻤﺎﻟﻪ، ﻭﻣﺎ ﻫﻮ ﺇﻟّﺎ ﻇﻼﻝٌ ﺧﺎﻓﺘﺔ ﻟﺬﻟﻚ ﺍﻟﺤﺴﻦ ﻭﺍﻹﺣﺴﺎﻥ ﻭﺍﻟﻜﻤﺎﻝ ﻧﻔﺬﺕ ﻣﻦ ﻭﺭﺍﺀ ﺣُﺠُﺐ ﻛﺜﻴﺮﺓ ﻭﺃﺳﺘﺎﺭ ﻋﺪﺓ، ﺑﻞ ﻫﻮ ﻇِﻼﻝٌ ﻟﻈﻼﻝ ﺗﺠﻠﻴﺎﺕ ﺃﺳﻤﺎﺋﻪ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ ﺟﻞّ ﺟﻼﻟُﻪ.

  ﺍﻟﻨﻜﺘﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ

ﻓﻲ ﻓﻄﺮﺓ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻋﺸﻖٌ ﺷﺪﻳﺪ ﻧﺤﻮ ﺍﻟﺒﻘﺎﺀ، ﺣﺘﻰ ﺇﻧﻪ ﻳﺘﻮﻫﻢ ﻧﻮﻋﺎً ﻣﻦ ﺍﻟﺒﻘﺎﺀ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﺤﺒﻪ، ﺑﻞ ﻻ ﻳﺤﺐ ﺷﻴﺌﺎً ﺇﻟّﺎ ﺑﻌﺪ ﺗﻮﻫّﻤﻪ ﺍﻟﺒﻘﺎﺀ ﻓﻴﻪ، ﻭﻟﻜﻦ ﺣﺎﻟﻤﺎ ﻳﺘﻔﻜﺮ ﻓﻲ ﺯﻭﺍﻟﻪ ﺃﻭ ﻳﺸﺎﻫﺪ ﻓﻨﺎﺀﻩ ﻳﻄﻠﻖ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺰﻓﺮﺍﺕ ﻭﺍﻟﺤﺴﺮﺍﺕ ﻣﻦ ﺍﻷﻋﻤﺎﻕ.

ﻧﻌﻢ، ﺇﻥ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻵﻫﺎﺕ ﻭﺍﻟﺤﺴﺮﺍﺕ ﺍﻟﻨﺎﺷﺌﺔ ﻣﻦ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕ، ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻲ ﺗﻌﺎﺑﻴﺮٌ ﺣﺰﻳﻨﺔ ﺗﻨﻄﻠﻖ ﻣﻦ ﻋﺸﻖ ﺍﻟﺒﻘﺎﺀ. ﻭﻟﻮﻻ ﺗﻮﻫﻢُ ﺍﻟﺒﻘﺎﺀ ﻟَﻤَﺎ ﺃﺣﺐّ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥُ ﺷﻴﺌﺎً.

ﺑﻞ ﻳﺼﺢ ﺍﻟﻘﻮﻝ: ﺇﻥَّ ﺳﺒﺒﺎً ﻣﻦ ﺃﺳﺒﺎﺏ ﻭﺟﻮﺩ ﻋﺎﻟَﻢ ﺍﻟﺒﻘﺎﺀ ﻭﺍﻟﺠﻨﺔ ﺍﻟﺨﺎﻟﺪﺓ ﻫﻮ ﺍﻟﺮﻏﺒﺔُ ﺍﻟﻤﻠﺤّﺔ ﻟﻠﺒﻘﺎﺀ ﺍﻟﻤﻐﺮﻭﺯﺓ ﻓﻲ ﻓﻄﺮﺓ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ، ﻭﺍﻟﺪﻋﺎﺀ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﺍﻟﺸﺎﻣﻞ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺴﺄﻟﻪ ﺑﺸﺪﺓ ﻟﻠﺨﻠﻮﺩ.. ﻓﺎﺳﺘﺠﺎﺏ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ ﺫﻭ ﺍﻟﺠﻼﻝ ﻟﺘﻠﻚ ﺍﻟﺮﻏﺒﺔ ﺍﻟﻤﻠﺤﺔ ﻭﻟﺬﻟﻚ ﺍﻟﺪﻋﺎﺀ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﺍﻟﻤﺆﺛﺮ، ﻓﺨَﻠَﻖ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻋﺎﻟﻤﺎً ﺑﺎﻗﻴﺎً ﺧﺎﻟﺪﺍً ﻟﻬﺬﺍ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﻔﺎﻧﻲ ﺍﻟﺰﺍﺋﻞ. ﺇﺫ ﻫﻞ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻟّﺎ ﻳﺴﺘﺠﻴﺐ ﺍﻟﻔﺎﻃﺮُ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻭﺍﻟﺨﺎﻟﻖ ﺍﻟﺮﺣﻴﻢ ﻟﺪﻋﺎﺀ ﺗﺴﺄﻟﻪ ﺍﻟﺒﺸﺮﻳﺔُ ﻗﺎﻃﺒﺔ ﺑﻠﺴﺎﻥ ﺣﺎﻟﻬﺎ ﻭﻣﻘﺎﻟﻬﺎ، ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺪﻋﺎﺀ ﺍﻟﻜﻠﻲ ﺍﻟﺪﺍﺋﻤﻲ ﺍﻟﺤﻖ ﻭﺍﻟﺨﺎﻟﺺ ﺍﻟﻨﺎﺑﻊ ﻣﻦ ﺻﻤﻴﻢ ﺣﺎﺟﺘﻬﺎ ﺍﻟﻔﻄﺮﻳﺔ ﻭﻣﻦ ﺃﻋﻤﺎﻕ ﺭﻏﺒﺘﻬﺎ ﺍﻟﻤﻠﺤّﺔ، ﻣﻊ ﺃﻧﻪ ﻳﺴﺘﺠﻴﺐ ﻟﺪﻋﺎﺀ ﻣﻌﺪﺓ ﺻﻐﻴﺮﺓ، ﺗﺴﺄﻟﻪ ﺑﻠﺴﺎﻥ ﺣﺎﻟﻬﺎ، ﻓﻴﺨﻠﻖ ﻟﻬﺎ ﺃﻧﻮﺍﻋﺎً ﻣﻦ ﺍﻷﻃﻌﻤﺔ ﺍﻟﻠﺬﻳﺬﺓ ﻭﻳُﺸﺒﻊ ﺑﻬﺎ ﺭﻏﺒﺘﻬﺎ ﺍﻟﺠﺰﺋﻴﺔ ﻟﻠﺒﻘﺎﺀ ﺍﻟﻤﺆﻗﺖ؟ ﺣﺎﺵَ ﻟﻠﻪ ﻭﻛﻼ.. ﺃﻟﻒ ﺃﻟﻒ ﻣﺮﺓ ﻛﻼ. ﺇﻥّ ﺭﺩّ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺪﻋﺎﺀ ﻟﻠﺨﻠﻮﺩ ﻣﺤﺎﻝٌ ﻗﻄﻌﺎً، ﻷﻥ ﻋﺪﻡ ﺍﺳﺘﺠﺎﺑﺘﻪ ﺟﻞّ ﻭﻋﻼ ﻳﻨﺎﻓﻲ ﺣﻜﻤﺘَﻪ ﺍﻟﺨﺎﻟﺪﺓ ﻭﻋﺪﺍﻟﺘَﻪ ﺍﻟﻜﺎﻣﻠﺔ ﻭﺭﺣﻤﺘَﻪ ﺍﻟﻮﺍﺳﻌﺔ ﻭﻗﺪﺭﺗَﻪ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ.

ﻭﻣﺎ ﺩﺍﻡ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻋﺎﺷﻘﺎً ﻟﻠﺒﻘﺎﺀ، ﻓﻼﺑﺪ ﺃﻥّ ﺟﻤﻴﻊ ﻛﻤﺎﻻﺗﻪ ﻭﺃﺫﻭﺍﻗﻪ ﺗﺎﺑﻌﺔٌ ﻟﻠﺒﻘﺎﺀ ﺃﻳﻀﺎً. ﻭﻟﻤّﺎ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﺒﻘﺎﺀ ﺻﻔﺔٌ ﺧﺎﺻﺔ ﻟﻠﺒﺎﻗﻲ ﺫﻱ ﺍﻟﺠﻼﻝ، ﻭﺃﻥ ﺃﺳﻤﺎﺀﻩ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ ﺑﺎﻗﻴﺔٌ، ﻭﺃﻥ ﺍﻟﻤﺮﺍﻳﺎ ﺍﻟﻌﺎﻛﺴﺔ ﻟﺘﺠﻠﻴﺎﺕ ﺗﻠﻚ ﺍﻷﺳﻤﺎﺀ ﺗﻨﺼﺒﻎ ﺑﺼﺒﻐﺘﻬﺎ ﻭﺗﺄﺧﺬ ﺣُﻜﻤَﻬﺎ، ﺃﻱ ﺗﻨﺎﻝ ﻧﻮﻋﺎً ﻣﻦ ﺍﻟﺒﻘﺎﺀ، ﻓﻼﺑﺪ ﺃﻥّ ﺃﻟﺰﻡَ ﺷﻲﺀ ﻟﻬﺬﺍ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻭﺃﺟﻞّ ﻭﻇﻴﻔﺔ ﻟﻪ ﻫﻮ ﺷﺪُّ ﺍﻷﻭﺍﺻﺮ ﻭﺭﺑﻂُ ﺍﻟﻌﻼﻗﺎﺕ ﻣﻊ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ ﺫﻱ ﺍﻟﺠﻼﻝ ﻭﺍﻻﻋﺘﺼﺎﻡ ﺍﻟﺘﺎﻡ ﺑﺄﺳﻤﺎﺋﻪ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ، ﻷﻥ ﻣﺎ ﻳُﺼﺮﻑ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ ﻳﻨﺎﻝ ﻧﻮﻋﺎً ﻣﻦ ﺍﻟﺒﻘﺎﺀ.

ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺗﻌﺒّﺮ ﻋﻨﻬﺎ ﺍﻟﺠﻤﻠﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ: «ﻳﺎ ﺑﺎﻗﻲ ﺃﻧﺖ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ» ﻓﺘﻀﻤﺪ ﺟﺮﺍﺣﺎﺕ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻳﺔَ ﺍﻟﻐﺎﺋﺮﺓ، ﻛﻤﺎ ﺗُﻄَﻤﺌﻦ ﺭﻏﺒﺘَﻪ ﺍﻟﻤﻠﺤﺔ ﻟﻠﺒﻘﺎﺀ ﺍﻟﻤﻮﺩَﻋﺔ ﻓﻲ ﻓﻄﺮﺗﻪ.

  ﺍﻟﻨﻜﺘﺔ ﺍﻟﺜﺎﻟﺜﺔ

ﻳﺘﻔﺎﻭﺕ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﺗﺄﺛﻴﺮُ ﺍﻟﺰﻣﺎﻥ ﻓﻲ ﻓﻨﺎﺀ ﺍﻷﺷﻴﺎﺀ ﻭﺯﻭﺍﻟﻬﺎ ﺗﻔﺎﻭﺗﺎً ﻛﺒﻴﺮﺍً. ﻓﻤﻊ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻣﻜﺘﻨﻔﺔٌ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺑﺒﻌﺾ ﻛﺎﻟﺪﻭﺍﺋﺮ ﺍﻟﻤﺘﺪﺍﺧﻠﺔ، ﺇﻟّﺎ ﺃﻥ ﺣﻜﻤَﻬﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻟﺰﻭﺍﻝ ﻭﺍﻟﻔﻨﺎﺀ ﻣﺨﺘﻠﻒٌ ﺟﺪﺍً.

ﻓﻜﻤﺎ ﺃﻥ ﺩﻭﺍﺋﺮ ﺣﺮﻛﺔ ﻋﻘﺎﺭﺏ ﺍﻟﺴﺎﻋﺔ ﺍﻟﻌﺎﺩّﺓ ﻟﻠﺜﻮﺍﻧﻲ ﻭﺍﻟﺪﻗﺎﺋﻖ ﻭﺍﻟﺴﺎﻋﺎﺕ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﺮﻋﺔ، ﺭﻏﻢ ﺗﺸﺎﺑﻬﻬﺎ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﻱ، ﻛﺬﻟﻚ ﺍﻷﻣﺮ ﻓﻲ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ، ﺣﻴﺚ ﺇﻥ ﺣُﻜﻢ ﺍﻟﺰﻣﻦ ﻣﺘﻔﺎﻭﺕٌ ﻓﻲ ﺩﺍﺋﺮﺓ ﺟﺴﻤﻪ، ﻭﺩﺍﺋﺮﺓ ﻧﻔﺴﻪ، ﻭﺩﺍﺋﺮﺓ ﻗﻠﺒﻪ، ﻭﺩﺍﺋﺮﺓ ﺭﻭﺣﻪ. ﻓﺒﻴﻨﻤﺎ ﺗﺮﻯ ﺣﻴﺎﺓَ ﺍﻟﺠﺴﻢ ﻭﺑﻘﺎﺀﻩ ﻭﻭﺟﻮﺩَﻩ ﻣﺤﺼﻮﺭﺓً ﻓﻲ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻌﻴﺶ ﻓﻴﻪ ﺃﻭ ﻓﻲ ﺳﺎﻋﺘﻪ، ﻭﻳﻨﻌﺪﻡ ﺃﻣﺎﻣَﻪ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ ﻭﺍﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻞُ، ﺇﺫﺍ ﺑﻚَ ﺗﺮﻯ ﺩﺍﺋﺮﺓَ ﺣﻴﺎﺓ ﻗﻠﺒِﻪ ﻭﻣﻴﺪﺍﻥَ ﻭﺟﻮﺩﻩ ﻳﺘّﺴﻊ ﻭﻳﺘﺴﻊ ﺣﺘﻰ ﻳﻀﻢّ ﺃﻳﺎﻣﺎً ﻋﺪﺓ ﻗﺒﻞ ﺣﺎﺿﺮﻩ ﻭﺃﻳﺎﻣﺎً ﺑﻌﺪﻩ، ﺑﻞ ﺇﻥَّ ﺩﺍﺋﺮﺓَ ﺣﻴﺎﺓ ﺍﻟﺮﻭﺡ ﻭﻣﻴﺪﺍﻧَﻬﺎ ﺃﻋﻈﻢُ ﻭﺃﻭﺳﻊ ﺑﻜﺜﻴﺮ ﺣﻴﺚ ﺗﺴﻊ ﺳﻨﻴﻦ ﻗﺒﻞ ﻳﻮﻣﻬﺎ ﺍﻟﺤﺎﺿﺮ ﻭﺳﻨﻴﻦ ﺑﻌﺪَﻩ.

ﻭﻫﻜﺬﺍ، ﺑﻨﺎﺀً ﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻹﺳﺘﻌﺪﺍﺩ، ﻓﺈﻥ ﻋﻤﺮَ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﻔﺎﻧﻲ ﻳﺘﻀﻤﻦ ﻋﻤﺮﺍً ﺑﺎﻗﻴﺎً ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﺍﻟﻘﻠﺒﻴﺔ ﻭﺍﻟﺮﻭﺣﻴﺔ

ﺗﺤﻴَﻴﺎﻥ ﺑﺎﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﻭﺍﻟﻤﺤﺒﺔ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻴﺔ ﻭﺍﻟﻌﺒﻮﺩﻳﺔ ﺍﻟﺴُﺒﺤﺎﻧﻴﺔ ﻭﺍﻟﻤﺮﺿﻴﺎﺕ ﺍﻟﺮﺣﻤﺎﻧﻴﺔ، ﺑﻞ ﻳﻨﺘﺞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﻤﺮ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ ﺍﻟﺨﺎﻟﺪ ﻓﻲ ﺩﺍﺭ ﺍﻟﺨﻠﻮﺩ ﻭﺍﻟﺒﻘﺎﺀ، ﻓﻴﻜﻮﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﻤﺮ ﺍﻟﻔﺎﻧﻲ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﻋﻤﺮ ﺃﺑﺪﻱ.

ﺃﺟﻞ، ﺇﻥَّ ﺛﺎﻧﻴﺔً ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻳﻘﻀﻴﻬﺎ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥُ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ ﺍﻟﺤﻖ، ﻭﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ ﻣﺤﺒﺘﻪ، ﻭﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ ﻭﺍﺑﺘﻐﺎﺀ ﻣﺮﺿﺎﺗﻪ، ﺗُﻌﺪّ ﺳﻨﺔً ﻛﺎﻣﻠﺔ. ﺑﻞ ﻫﻲ ﺑﺎﻗﻴﺔٌ ﺩﺍﺋﻤﺔ ﻻ ﻳﻌﺘﺮﻳﻬﺎ ﺍﻟﻔﻨﺎﺀُ. ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺳﻨﺔٌ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻤﺮ ﺇﻥْ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻣﺼﺮﻭﻓﺔً ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻓﻬﻲ ﺯﺍﺋﻠﺔٌ ﺣﺘﻤﺎً، ﻭﻫﻲ ﻓﻲ ﺣُﻜﻢ ﻟﺤﻈﺔ ﺧﺎﻃﻔﺔ، ﻓﻤﻬﻤﺎ ﺗَﻄُﻞ ﺣﻴﺎﺓُ ﺍﻟﻐﺎﻓﻠﻴﻦ ﻓﻬﻲ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﻟﺤﻈﺎﺕ ﻋﺎﺑﺮﺓ ﻻ ﺗﺠﺎﻭﺯ ﺛﺎﻧﻴﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ.

ﻭﻫﻨﺎﻙ ﻗﻮﻝ ﻣﺸﻬﻮﺭ ﻳﺪﻝ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ:

«ﺳِﻨَﺔُ ﺍﻟﻔِﺮَﺍﻕِ ﺳَﻨَﺔٌ ﻭَﺳَﻨَﺔُ ﺍﻟﻮِﺻَﺎﻝِ ﺳِﻨَﺔٌ»

  ﺃﻱ ﺇﻥ ﺛﺎﻧﻴﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕ ﻃﻮﻳﻠﺔٌ ﺟﺪﺍً ﻛﺄﻧﻬﺎ ﺳَﻨﺔٌ ﻭﺍﺣﺪﺓ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺳَﻨﺔٌ ﻛﺎﻣﻠﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻮﺻﺎﻝ ﺗﺒﺪﻭ ﻗﺼﻴﺮﺓ ﻛﺎﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﺍﻟﻮﺍﺣﺪﺓ.

ﺑﻴﺪ ﺃﻧﻲ ﺃُﺧﺎﻟﻒ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﺍﻟﻤﺸﻬﻮﺭ ﻓﺄﻗﻮﻝ: «ﺇﻥ ﺛﺎﻧﻴﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻳﻘﻀﻴﻬﺎ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥُ ﺿﻤﻦ ﻣﺮﺿﺎﺓ ﺍﻟﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ ﺫﻱ ﺍﻟﺠﻼﻝ ﻭﻟﻮﺟﻬﻪ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ، ﺃﻱ ﺛﺎﻧﻴﺔٌ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻮﺻﺎﻝ ﻟﻴﺴﺖ ﻛﺴَﻨﺔ ﻭﺣﺪﻫﺎ، ﺑﻞ ﻛﻨﺎﻓﺬﺓ ﻣُﻄﻠّﺔ ﻋﻠﻰ ﺣﻴﺎﺓ ﺩﺍﺋﻤﺔ ﺑﺎﻗﻴﺔ. ﺃﻣﺎ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕُ ﺍﻟﻨﺎﺑﻊ ﻣﻦ ﻧﻈﺮ ﺍﻟﻐﻔﻠﺔ ﻭﺍﻟﻀﻼﻟﺔ ﻓﻼ ﻳﺠﻌﻞ ﺍﻟﺴَﻨﺔَ ﺍﻟﻮﺍﺣﺪﺓ ﻛﺎﻟﺜﺎﻧﻴﺔ، ﺑﻞ ﻳﺠﻌﻞ ﺃﻟﻮﻑ ﺍﻟﺴﻨﻴﻦ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﺛﺎﻧﻴﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ».

ﻭﻫﻨﺎﻙ ﻣﺜﻞ ﺁﺧﺮ ﺃﻛﺜﺮ ﺷُﻬﺮﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﺎﺑﻖ ﻳﺆﻳﺪ ﻣﺎ ﻧﻘﺮﺭﻩ ﻭﻫﻮ:

 ﺃﺭْﺽُ ﺍﻟﻔَﻠَﺎﺓِ ﻣَﻊَ ﺍْﻷﻋْﺪَﺍﺀِ ﻓِﻨْﺠَﺎﻥٌ   ﺳَﻢُّ ﺍﻟﺨِﻴَﺎﻁِ ﻣَﻊَ ﺍْﻷﺣْﺒَﺎﺏِ ﻣَﻴْﺪَﺍﻥٌ

  ﺃﻣﺎ ﺇﺫﺍ ﺃﺭﺩﻧﺎ ﺃﻥ ﻧﺒﻴﻦ ﻭﺟﻬﺎً ﺻﺤﻴﺤﺎً ﻟﻠﻤَﺜَﻞ ﺍﻟﺴﺎﺑﻖ ﻓﺴﻴﻜﻮﻥ ﻛﺎﻵﺗﻲ:

ﺇﻥَّ ﻭﺻﺎﻝَ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﺍﻟﻔﺎﻧﻴﺔ ﻗﺼﻴﺮٌ ﺟﺪﺍً ﻷﻧﻪ ﻓﺎﻥٍ، ﻓﻤﻬﻤﺎ ﻃﺎﻝ ﻓﻬﻮ ﻳﻤﻀﻲ ﻓﻲ ﻟﻤﺤﺔ، ﻭﻳﻐﺪﻭ ﺧﻴﺎﻻ ﺫﺍ ﺣﺴﺮﺓ، ﻭﺭﺅﻳﺎ ﻋﺎﺑﺮﺓً ﺗﻮﺭﺙ ﺍﻷﺳﻰ. ﻓﺎﻟﻘﻠﺐ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ﺍﻟﺘﻮّﺍﻕ ﻟﻠﺒﻘﺎﺀ ﻻ ﻳﺴﺘﻤﺘﻊ ﻣﻦ ﺳَﻨﺔٍ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻮﺻﺎﻝ ﺇﻟّﺎ ﺑﻤﻘﺪﺍﺭ ﻣﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﺍﻟﻮﺍﺣﺪﺓ ﻣﻦ ﻟﺬﺓ. ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕُ ﻃﻮﻳﻞ ﻭﻣﻴﺪﺍﻧُﻪ ﻭﺍﺳﻊ ﻓﺴﻴﺢ، ﻓﺜﺎﻧﻴﺔٌ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻣﻨﻪ ﺗﺴﺘﺠﻤﻊ ﺃﻟﻮﺍﻧﺎً ﻣﻦ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕ ﻣﺎ ﻳﺴﺘﻐﺮﻕ ﺳَﻨﺔ ﻛﺎﻣﻠﺔ، ﺑﻞ ﺳﻨﻴﻦ. ﻓﺎﻟﻘﻠﺐ ﺍﻟﻤﺸﺘﺎﻕ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺨﻠﻮﺩ ﻳﺘﺄﺫﻯ ﻣﻦ ﻓﺮﺍﻕ ﻳﻤﻀﻲ ﻓﻲ ﺛﺎﻧﻴﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ، ﻛﺄﻧﻪ ﻳﻨﺴﺤﻖ ﺗﺤﺖ ﺁﻻﻡ ﻓﺮﺍﻕ ﺳﻨﻴﻦ ﻋﺪﺓ، ﺣﻴﺚ ﻳﺬﻛّﺮﻩ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕ ﺑﻤﺎ ﻻ ﻳُﻌﺪ ﻣﻦ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕ. ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻓﻤﺎﺿﻲ ﺟﻤﻴﻊ ﺃﺷﻜﺎﻝ ﺍﻟﻤﺤﺒﺔ ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ ﻭﺍﻟﻬﺎﺑﻄﺔ ﻭﻣﺴﺘﻘﺒﻠُﻬﺎ ﻣﻠﻲﺀ ﺑﺄﻟﻮﺍﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕ.

ﻭﻟﻠﻤﻨﺎﺳﺒﺔ ﻧﻘﻮﻝ:

  ﺃﻳﻬﺎ ﺍﻟﻨﺎﺱ! ﺃﺗﺮﻳﺪﻭﻥ ﺗﺤﻮﻳﻞَ ﻋﻤﺮِﻛﻢ ﺍﻟﻘﺼﻴﺮ ﺍﻟﻔﺎﻧﻲ ﺇﻟﻰ ﻋﻤﺮٍ ﺑﺎﻕٍ ﻃﻮﻳﻞ ﻣﺪﻳﺪ، ﺑﻞ ﻣﺜﻤﺮ ﺑﺎﻟﻤﻐﺎﻧﻢ ﻭﺍﻟﻤﻨﺎﻓﻊ؟

ﻓﻤﺎ ﺩﺍﻡ ﺍﻟﺠﻮﺍﺏ: ﺃﻥْ ﻧﻌﻢ. ﻭﻫﻮ ﻣﻘﺘﻀﻰ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ، ﻓﺎﺻﺮﻓﻮﺍ ﺇﺫﻥ ﻋﻤﺮَﻛﻢ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ، ﻷﻥ ﺃﻳّﻤﺎ ﺷﻲﺀ ﻳﺘﻮﺟﻪ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ ﻳﻨَﻞْ ﺗﺠﻠﻴﺎً ﻣﻦ ﺗﺠﻠﻴﺎﺗﻪ ﺍﻟﺒﺎﻗﻴﺔ.

ﻭﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻛﻞ ﺇﻧﺴﺎﻥ ﻳﻄﻠﺐ ﺑﺈﻟﺤﺎﺡ ﻋﻤﺮﺍً ﻃﻮﻳﻼ ﻭﻫﻮ ﻣﺸﺘﺎﻕ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺒﻘﺎﺀ، ﻭﺛﻤﺔ ﻭﺳﻴﻠﺔٌ ﺃﻣﺎﻣﻪ ﻟﺘﺤﻮﻳﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﻤﺮ ﺍﻟﻔﺎﻧﻲ ﺇﻟﻰ ﻋﻤﺮ ﺑﺎﻕٍ، ﺑﻞ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺒﺪﻳﻠُﻪ ﺇﻟﻰ ﻋﻤﺮٍ ﻃﻮﻳﻞ ﻣﻌﻨﻰً، ﻓﻼﺑﺪ ﺃﻧﻪ -ﺇﻥْ ﻟﻢ ﺗﺴﻘﻂ ﺇﻧﺴﺎﻧﻴﺘُﻪ- ﺳﻴﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻮﺳﻴﻠﺔ ﻭﻳﻨﻘّﺐ ﻋﻨﻬﺎ، ﻭﻻﺑﺪ ﺃﻧﻪ ﺳﻴﺴﻌﻰ ﺣﺜﻴﺜﺎ ﻟﺘﺤﻮﻳﻞ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻤﻤﻜﻦ ﺇﻟﻰ ﻓﻌﻞ ﻣﻠﻤﻮﺱ، ﻭﻻﺑﺪ ﺃﻧﻪ ﺳﻴﺼﺒﻮ ﺇﻟﻰ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻬﺪﻑ ﺑﺄﻋﻤﺎﻟﻪ ﻭﺣﺮﻛﺎﺗﻪ ﻛﺎﻓﺔ.

ﻓﺪﻭﻧﻜﻢ ﺍﻟﻮﺳﻴﻠﺔ:

ﺍﻋﻤﻠﻮﺍ ﻟﻠﻪ، ﺍﻟﺘﻘﻮﺍ ﻟﻮﺟﻪ ﺍﻟﻠﻪ، ﺍﺳﻌﻮﺍ ﻷﺟﻞ ﺍﻟﻠﻪ. ﻭﻟﺘﻜﻦ ﺣﺮﻛﺎﺗُﻜﻢ ﻛﻠُّﻬﺎ ﺿﻤﻦ ﻣﺮﺿﺎﺓ ﺍﻟﻠﻪ (ﻟﻠﻪ.. ﻟﻮﺟﻪ ﺍﻟﻠﻪ.. ﻷﺟﻞ ﺍﻟﻠﻪ) ﻭﻋﻨﺪﻫﺎ ﺗﺮﻭﻥ ﺃﻥ ﺩﻗﺎﺋﻖَ ﻋﻤﺮﻛﻢ ﺍﻟﻘﺼﻴﺮ ﻗﺪ ﺃﺻﺒﺤﺖ ﺑﺤﻜﻢ ﺳﻨﻴﻦ ﻋﺪﺓ.

ﺗﺸﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻟﻴﻠﺔُ ﺍﻟﻘﺪﺭ ﻓﻤﻊ ﺃﻧﻬﺎ ﻟﻴﻠﺔٌ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﺇﻟّﺎ ﺃﻧﻬﺎ ﺧﻴﺮٌ ﻣﻦ ﺃﻟﻒ ﺷﻬﺮ -ﺑﻨﺺ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ- ﺃﻱ ﻓﻲ ﺣُﻜﻢ ﺛﻤﺎﻧﻴﻦ ﻭﻧﻴﻒ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻨﻴﻦ.

ﻭﻫﻨﺎﻙ ﺇﺷﺎﺭﺓ ﺃﺧﺮﻯ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ، ﻭﻫﻲ ﺍﻟﻘﺎﻋﺪﺓ ﺍﻟﻤﻘﺮﺭﺓ ﻟﺪﻯ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﻭﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ، ﺗﻠﻚ ﻫﻲ «ﺑﺴﻂ ﺍﻟﺰﻣﺎﻥ» ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺜﺒﺘُﻪ ﻭﻳُﻈﻬﺮﻩ ﻓﻌﻼ ﺍﻟﻤﻌﺮﺍﺝُ ﺍﻟﻨﺒﻮﻱ، ﻓﻘﺪ ﺍﻧﺒﺴﻄﺖ ﻓﻴﻪ ﺩﻗﺎﺋﻖٌ ﻣﻌﺪﻭﺩﺓ ﺇﻟﻰ ﺳﻨﻴﻦ ﻋﺪﺓ، ﻓﻜﺎﻧﺖ ﻟﺴﺎﻋﺎﺕ ﺍﻟﻤﻌﺮﺍﺝ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻌﺔ ﻭﺍﻹﺣﺎﻃﺔ ﻭﺍﻟﻄﻮﻝ ﻣﺎ ﻷﻟﻮﻑ ﺍﻟﺴﻨﻴﻦ، ﺇﺫ ﺩﺧﻞ صلى الله عليه وسلم ﺑﺎﻟﻤﻌﺮﺍﺝ ﺇﻟﻰ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﺒﻘﺎﺀ، ﻓﺪﻗﺎﺋﻖٌ ﻣﻌﺪﻭﺩﺓ ﻣﻦ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﺒﻘﺎﺀ ﺗﻀﻢ ﺃﻟﻮﻓﺎ ﻣﻦ ﺳﻨﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ.

ﻭﻣﻤﺎ ﻳﺜﺒﺖ ﺣﻘﻴﻘﺔ «ﺑﺴﻂ ﺍﻟﺰﻣﺎﻥ» ﻫﺬﺍ ﻣﺎ ﻭﻗﻊ ﻣﻦ ﺣﻮﺍﺩﺙ ﻏﺰﻳﺮﺓ ﻟﻸﻭﻟﻴﺎﺀ ﺍﻟﺼﺎﻟﺤﻴﻦ، ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻥ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﻳﺆﺩﻱ ﻓﻲ ﺩﻗﻴﻘﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻣﺎ ﻳُﻨﺠَﺰ ﻣﻦ ﺍﻷﻋﻤﺎﻝ ﻓﻲ ﻳﻮﻡ ﻛﺎﻣﻞ. ﻭﺑﻌﻀﻬﻢ ﺃﻧﺠﺰﻭﺍ ﻓﻲ ﺳﺎﻋﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻬﻤﺎﺕ ﻣﺎ ﻳُﻨﺠَﺰ ﻓﻲ ﺳﻨﺔ ﻛﺎﻣﻠﺔ، ﻭﺑﻌﻀﻬﻢ ﺧﺘﻤﻮﺍ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻓﻲ ﺩﻗﻴﻘﺔ.

ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻓﻬﺬﻩ ﺍﻟﺮﻭﺍﻳﺎﺕ ﻋﻨﻬﻢ ﻭﺃﻣﺜﺎﻟُﻬﺎ ﻻ ﺗﺮﻗﻰ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﺍﻟﺸﺒﻬﺎﺕ ﻷﻥ ﺍﻟﺮﻭﺍﺓ ﺻﺎﺩﻗﻮﻥ ﺻﺎﻟﺤﻮﻥ ﻳﺘﺮﻓّﻌﻮﻥ ﻋﻦ ﺍﻟﻜﺬﺏ، ﻓﻀﻼ ﻋﻦ ﺃﻥ ﺍﻟﺤﻮﺍﺩﺙ ﻣﺘﻮﺍﺗﺮﺓٌ ﻭﻛﺜﻴﺮﺓ ﺟﺪﺍ ﻭﻳﺮﻭﻭﻧﻬﺎ ﺭﻭﺍﻳﺔَ ﺷﻬﻮﺩ. ﻓﻼﺷﻚ ﻓﻴﻬﺎ. ﻓﺒﺴﻂُ ﺍﻟﺰﻣﺎﻥ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺛﺎﺑﺘﺔ. (حاشية) ﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ:﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ (ﺍﻟﻜﻬﻒ:19) ﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾ (ﺍﻟﻜﻬﻒ:25). ﻓﻬﺎﺗﺎﻥ ﺍﻵﻳﺘﺎﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺘﺎﻥ ﺗﺪﻻﻥ ﻋﻠﻰ «ﻃﻲ ﺍﻟﺰﻣﺎﻥ» ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﺍﻵﻳﺔ ﺍﻵﺗﻴﺔ ﺗﺪﻝ ﻋﻠﻰ «ﺑﺴﻂ ﺍﻟﺰﻣﺎﻥ»:﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ (ﺍﻟﺤﺞ:47). ﻭﻫﻨﺎﻙ ﻧﻮﻉٌ ﻣﻨﻪ ﻳﺼﺪّﻗﻪ ﻛﻞُّ ﺍﻟﻨﺎﺱ، ﻭﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺮﺍﻩ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻣﻦ ﺭﺅﻳﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻨﺎﻡ، ﺇﺫ ﻗﺪ ﻳﺮﻯ ﺭﺅﻳﺎ ﻻ ﺗﺴﺘﻐﺮﻕ ﺩﻗﻴﻘﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﻘﻀﻲ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻷﺣﻮﺍﻝ ﻭﻳﺘﻜﻠﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﻜﻼﻡ ﻭﻳﺴﺘﻤﺘﻊ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﺬﺍﺋﺬ ﻭﻳﺘﺄﻟﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺬﺍﺏ ﻣﺎ ﻳﺤﺘﺎﺝ ﺇﻟﻰ ﻳﻮﻡ ﻛﺎﻣﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﻴﻘﻈﺔ ﻭﺭﺑﻤﺎ ﺇﻟﻰ ﺃﻳﺎﻡ ﻋﺪﺓ.

  ﺣﺎﺻﻞ ﺍﻟﻜﻼﻡ: ﻣﻊ ﺃﻥ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻓﺎﻥٍ ﺇﻟّﺎ ﺃﻧﻪ ﻣﺨﻠﻮﻕ ﻟﻠﺒﻘﺎﺀ. ﺧَﻠَﻘﻪ ﺍﻟﺒﺎﺭﺉ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﻣﺮﺁﺓٍ ﻋﺎﻛﺴﺔ ﻟﺘﺠﻠﻴﺎﺗﻪ ﺍﻟﺒﺎﻗﻴﺔ، ﻭﻛﻠّﻔﻪ ﺑﺎﻟﻘﻴﺎﻡ ﺑﻤﻬﻤﺎﺕ ﺗﺜﻤﺮ ﺛﻤﺎﺭﺍً ﺑﺎﻗﻴﺔً، ﻭﺻﻮّﺭﻩ ﻋﻠﻰ ﺃﺣﺴﻦ ﺻﻮﺭﺓ ﺣﺘﻰ ﺃﺻﺒﺤﺖ ﺻﻮﺭﺗُﻪ ﻣﺪﺍﺭ ﻧﻘﻮﺵ ﺗﺠﻠﻴﺎﺕ ﺃﺳﻤﺎﺋﻪ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ ﺍﻟﺒﺎﻗﻴﺔ، ﻟﺬﺍ ﻓﺴﻌﺎﺩﺓُ ﻫﺬﺍ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻭﻭﻇﻴﻔﺘُﻪ ﺍﻷﺳﺎﺱ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻲ ﺍﻟﺘﻮﺟّﻪ ﺇﻟﻰ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ ﺑﻜﺎﻣﻞ ﺟﻬﻮﺩﻩ ﻭﺟﻮﺍﺭﺣﻪ ﻭﺑﺠﻤﻴﻊ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩﺍﺗﻪ ﺍﻟﻔﻄﺮﻳﺔ، ﺳﺎﺋﺮﺍً ﻗُﺪُﻣﺎً ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ ﻣﺮﺿﺎﺗﻪ، ﻣﺘﻤﺴﻜﺎً ﺑﺄﺳﻤﺎﺋﻪ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ، ﻣﺮﺩﺩﺍً ﺑﺠﻤﻴﻊ ﻟﻄﺎﺋﻔﻪ -ﻣﻦ ﻗﻠﺐ ﻭﺭﻭﺡ ﻭﻋﻘﻞ ﻣﺎ ﻳﺮﺩﺩﻩ ﻟﺴﺎﻧُﻪ: «ﻳﺎ ﺑﺎﻗﻲ ﺃﻧﺖ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ»:

ﻫﻮ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ، ﻫﻮ ﺍﻷﺯﻟﻲ ﺍﻷﺑﺪﻱ، ﻫﻮ ﺍﻟﺴﺮﻣﺪﻱ، ﻫﻮ ﺍﻟﺪﺍﺋﻢ، ﻫﻮ ﺍﻟﻤﻄﻠﻮﺏ، ﻫﻮ ﺍﻟﻤﺤﺒﻮﺏ، ﻫﻮ ﺍﻟﻤﻘﺼﻮﺩ، ﻫﻮ ﺍﻟﻤﻌﺒﻮﺩ.

 ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

 ﴿ﺭﺑﻨﺎ ﻻ ﺗﺆﺍﺧﺬﻧﺎ ﺇﻥْ ﻧَﺴِﻴﻨﺎ ﺃﻭ ﺃﺧﻄﺄﻧﺎ﴾