الرسالة الثالثة عشرة

نور

من أنوار نجوم القرآن


باسمه سبحانه

اعلم لقد كشف هذه الرسالةَ الباحثُ الدؤوب أخونا الكريم «نجم الدين شاهين أر» وذلك أثناء تحرّيه وتنقيبه عن آثار الأستاذ النُّورْسِيّ، فوجدها ضمن مجموعة هائلة من الأوراق المتفرقة المدفونة تحت منصّة الوعظ في الجامع الملاصق لمنـزل الأستاذ النُّورْسِيّ في منفاه: «بارلا». ولمّا كانت الرسالة مؤلّفةً باللغة العربية سلّمها لي مشكورا وقد قمتُ بترجمتها إلى اللغة التركية وضممتها إلى ترجمتي للمثنوي العربي.

والمخطوط هوبخط جيّد للحافظ توفيق الشامي، وقد أجرى عليه الأستاذ تصحيحاتٍ دقيقة. والرسالة بحد ذاتها أصول موجزة وأسس ملخّصة لأجزاء من رسائل النور، ومن هنا فلها أهمية خاصة.

وإذ أُقدّم هذا المخطوط لأخي الكريم إحسان قاسم الصالحي أبارك له عمله في التحقيق والنشر راجيا له التوفيق.

عبد القادر بادِلّى

أورفة

* * *


 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وبه نستعين

﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلّٰهِ الَّذي هَدٰينَا لِهٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَٓا اَنْ هَدٰينَا اللّٰهُۚ لَقَدْ جَٓاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّۜ﴾ (الأعراف:43).

والصلاة والسلام على حجّةِ الحقّ على الخَلق سلطانِ الأنبياء وبرهان الأصفياء حبيبِ ربِّ العالمين وعلى آله وصحبه أبد الآبدين.

اعلم أنه ما مِنْ سهل ولا جبلٍ ولا وادٍ ولا بادٍ ولا بحرٍ ولا بَرٍّ ولا قطعةٍ ولا بقعة في أقطار الأرض إلّا وقد تزاحمَتْ عليها أنواعُ سكّاتِ الأحدِ الصمدِ، حتى كأن هذا الجبلَ -مثلا- يُعلَم أنه مملوكُه سبحانه، بعدد ما فيه من مماليكهِ المتوطنةِ فيهِ من أقسام الحيواناتِ وأصناف الأشجار.. وكذا يُعرَف أنّه مصنوعُهُ تعالى بعدد شهاداتِ ما ضُرِبَ عليه من سِكّاتهِ المتلألئة عليه من أجناسِ النباتات وأنواع الطيور.. ويُفهَم أنَّهُ مكتوبُهُ جلّ جَلاله بعدد ما ضُرِب على جوانبهِ من خواتمهِ سبحانَهُ من مُزيّنات الأزهار وجميلات الأثمار.

فإذا عَرَفْتَ أن النَّحلَ والنَّخلَ -مثلا- مالُهُ وصُنعه سبحانه تَعرفُ أنّ كل ما يوجَد فيه نحلةٌ أونخلة هوأيضا مُلكه. وهكذا الكل شاهدُ الكلِّ. وكلٌّ دليلُ كلٍّ.

والدليل على أنّ السِكّاتِ والخواتمَ في جميع الأقطار لِمَلِكٍ واحدٍ ومالكٍ صمدٍ وحدةُ زمانِ ضَربها ووضعِها. ففي آنٍ واحدٍ يُوجَد ما لا يُحدّ في أقطار الأرض من المتماثلات من أجناس الأشياء. فما هذا التوافقُ في الوجود والإيجاد والصورة والإنشاء والزمان إلّا لأن صانعَها واحد أحد لا يمنعُه فعل عن فعل ولا يشغله شأن عن شأن ولا يلهيه قول عن قول ولا يختلط عليه سؤال -قولا أوحاجةً أواستعدادا- بسؤالٍ كذلك، جلّ جلالُه ولا إله إلّا هو.

اعلم أنّك إن شئت أن ترشُف إعجازيةً أُفيضتْ على قلبي من عُمّان القرآن.. فاستمعْ بقلبٍ شهيد ما أخاطب نفسي.

أيها السعيد الغافل حتى عن نفسه وعن غفلته! إنَّ الغفلةَ والكفرانَ والكفرَ تأسسّتْ على محالات متضاعفة متسلسلة غير محصورة؛ إذ إذا نظرتَ إلى أيّ شيءٍ كان -لاسيما من ذوي الحياة- ثم غفلتَ بسبب عدمِ الإسناد إليه تعالى (أي إلى الإله الواحد) لَزِمتك هذه المحالات العجيبةُ بقبولِ آلهاتٍ بعدد أجزاء التراب والهواء والماء، بل بعدد الذرات ومركباتها، بل بعدد تجليات الله.. ولوأمكن عدمُ الإسناد لما لَزِم من فرضِ وقوعِهِ محالٌ -إذ إذا لزم المحال فهوممتنعٌ، لا ممكنٌ، مع أنه لا يلزم محال واحد- بل محالات غير محصورة.

أمّا لزومُ آلهاتٍ بعددِ أجزاءِ التراب، فلأنّك تعلم أن أيّ جزء من التراب ترى، يصلُح لحصول أيِّ نبات وشجر وأيَّة زهرة وثمرة.. فإن شئتَ عينَ اليقين فاملأ قصعتك هذه من التراب.. ثم ادفن فيها نواة التين حتى تتشجّر تينةً مثمرة.. ثم اقلعها وادفنْ بَدَلَها نواةَ الرمانةِ. ثم بعدُ نواةَ التّفاح.. ثم.. وثم.. وثم.. حتى تستوعب جميعَ الأشجار المثمرة، وقد ترى كم ما بينها من التفاوت في الجهازات المنظمة والتشكلات الموزونة.

مثلاً: لوكانت «الماكينة القَدَرية» المندمجة في نواة التينة «كالفابريقة» التي تصنع السكّرَ من النباتاتِ، لكانت «الميكانيكية القُدرتية» المندرجة في نواة الرمانة كالماكينة التي تنسج الحرير وهكذا فقس. ثم ادفن بدلَ نواة الأثمار كلَّ واحد من بذور الأزهار، بذرا فبذرا، واحدا بعد واحد إلى أن لا تبقى بذرة في الدنيا إلّا وقد دخلتْ في قصعتك ذرّةً ميتةً جامدةً ثم خرجتْ حيةً متسنبلةً متزهرّة.

فيا صاحب القصعة إنْ حصلتْ غفلتُك من مذهب المادّيين؛ لزِمك البتة وبالقطع واليقين الأوليّ -لإدامة غفلتك- أن تقبل وجودَ «فابريقات» معنوية بعدد الأشجار «وماكيناتٍ» بعدد الأزهار في قصعتك هذه. فلوكان المرجع «الطبيعةَ» لزم أن يكون للطبيعة في كل جزء من التراب بل في ذرّةٍ مطبعاتٌ غير محصورة.. وما النواتات والبذور إلّا أمور متماثلة في المادة، ومشابهة في التشكيل، ومتقاربة في الشكل.. وما هي إلّا كمثل مثقالٍ واحد من قطن مع أنه يُنسَج منه قناطيرُ مقنطرة من أثواب الحرير والجوخ والصوف وغيرها. وآيةُ ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ (النساء:1) وآيةُ ﴿خَلَقَ كُلَّ دَٓابَّةٍ مِنْ مَٓاءٍ (النور:45) وغيرهما، تشير إلى أن المادة التي تُخلَقون منها لمّا كانت واحدة لا مركبةً كمثل أحدِكم بل أصغر، لا يمكن أن تكون مصدرا تنشقّون منه أومنشأً تُصنَعون منه، للزوم كونِ المصنوع منه أكبرَ أومساويا للمصنوع، على أن إيجاد البذور والنواتات -التي كل منها مع بساطتها كأنها مِسطر قُدّرت خيوطُه بهندسة القَدَر، ومع صغرها كأنّها أصل متضمن لمجموع دساتيرِ وجودِ ما هوكأصلها- مع إبداعها في رقائقِ نهاياتِ دقائقِ حدودِ أغصان الشجر وأعضاء النبات.. من أصدقِ شاهد على أن خلْقَها هكذا لا يُتصوّر إلّا ممن خَلق السماوات والأرض، الذي تتساوى بالنسبة إلى قدرته الذراتُ والشموس.

وإن نشأتْ غفلتُك من مذهب الطبيعيين، لَزِمك لحفظِ غفلتك -إن كنتَ ذا شعور- أن تقبلَ في قصعتك وجودَ قدرةٍ بصيرةٍ خارقةٍ، بحيث تقتدر على تصوير جميع الأثمار والأزهار وإنشائها وإبداعها.. وكذا وجودَ علمٍ محيط بتفاصيل خواصها وخاصيّاتها.. وكذا وجودَ إرادة علمية بتفاريق موازينها ولوازماتها.. وهكذا من سائر الأسماء المطلقة المحيطة التي لا يمكن أن يكون مسمىً لها إلّا مَن يطوي ﴿السَّمَٓاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ (الأنبياء:104) ومَنْ؛ كما أن الأرضَ قبضتُه يتصرف فيها كيفما يريد، كذلك القلبُ بين إصبعيه يقلّبه كيفما يشاء، لا يشغله كبير عن صغير، ولا يلهيه خطير عن حقير.. وإلّا من يتجلّى بنور قدرته على العرش والشمس والذرّ، باليُسر والتساوي؛ كانعكاس الشمس على البحر والمرآة والقطرات بكمال السهولة والمساواة في ماهية الفيض وإن تفاوتت الكيفيةُ التابعة للقابلية.

كما يشهد لهذا السرّ ما يشاهَد في الربيع من الجود المطلق نوعا.. في الإتقان الأكمل -شخصا-، في السهولة المطلقة، في السرعة المطلقة في إيجاد ما لا يحدّ من أفرادِ ما لا يُعدّ من أنواع الأزهار والأثمار المنثورة والمنشورة في غالب وجه الأرض في زمان واحد.

ثم أفرِغ قصعَتك في هذا التراب واملأها من صُبرة الأرض واعمل في هذا أيضا كل المعاملة الجارية في أخيه الأول، ثم جدِّد الكيل والمعاملة إلى أن تكيل كلَّ التراب.

كما يشهد لمساواة المعاملة في كلّ كَيلٍ جريانُ المعاملة بالفعل في الجملة في غالب وجه التراب بظهور أشتاتِ أفرادِ كثيرٍ من الأنواع في ما صادفته من صفحات التراب في سيرك في الأرض.

ثم توجّه إلى الهواء والماء والضياء فَزِن وكِلْ بقسطاس قصعتك تخرج لك النتيجةُ سواءً بسواء.

هذا بالنظر إلى جميع أفراد جميع الأنواع، والحال أن كل فرد واحد من كلّ زهرة وثمرة وحيوان وحُوَيْنَةٍ كقطرة محلوبةٍ معصورة من كل الكون، ومأخوذة من أجزاء العالم بموازين دقيقة حسّاسة وبنظامات رقيقة جسّاسة لا يقتدر على خلقها هكذا إلّا مَن في قبضته تصرُّف كلّ الكون، فيعصر تلك القطرةَ من تلك الكائنات بموازين ومقادير قَدَره إن شاء النشوّ، أويُبدعُ مثالا مصغرا يكتب في نسخته مآل ما في الكائنات، إن أراد الإبداعَ وإيجاد الأيس من الليس، كما هوالحق أوالأكثر المطلق.

وأما لزوم ذي الكفر والكفران آلهةً بعدد ذرّات العالم، فقد مرّ في «حَباب» و«قطرة» وغيرهما.. [4] وأما بعدد تجليّات الله، فقد مرّ في ذيل «شعلة» زبدتُه؛ كما أن تماثيلَ الشمس المتجلية على الشفافات والقطرات إذا لم تُسند إلى الشمس الواحدة بالتجلّي السهل، لزِم قبول شموس بالأصالة في كلّ شفاف وقطرة وذرة متشمسة.

فإن تفهمتَ ما تلوتُ على نفسي، تفطنتَ للمعةٍ من أنوار إعجاز بيان القرآن من جهةِ المعنى، إذ هذه المسألة رشحةٌ من رشحات بحر إعجازه الزاخر المعنوي.

اعلم أن الإيمانَ إكسيرٌ يقلِبُ فحمَ المادة الفانية ألماسا مصنّعا مرصّعا باقيا بمعناه بنسبته إلى الصّانع الباقي.. والإنسانُ بالكفر يعكس فينتكس، إذ كما أنه يوجد في مصنوعات البشر ما تكون قيمةُ مادته خمسةَ دراهم، وقيمةُ صنعته ألوف الدنانير، وتتزايد القيمة بكون صانعه شخصا مشهورا خارقا عتيقا. كذلك في مصنوعات الصانع القديم ﴿اللّٰهُ الَّذي خَلَقَ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضَ في سِتَّةِ اَيَّامٍ﴾ (الأعراف:54) وزيّن السماءَ بمصابيحَ، والأرضَ بأزاهير. بل من أغرب مصنوعاته «الإنسانُ» الذي مادتُه «صلصالٌ كالفخار» ينكسر ويتمزّق بسرعة، ما قيمتُه إلّا شيءٌ قليل.. وأما ما فيه من الصنعة فأمرٌ عظيمٌ تزيد قيمتُها على قيمة المادة بدرجات لا تعد ولا تحصى.. إذ الإنسانُ بنقش الصنعة قصيدةٌ منظومةٌ من لطائف آثار جلوات الأسماء الحسنى.. ومرآةٌ مجلوةٌ لتجلياتِ أشعّاتِ شؤونِ شمس الأزل والأبد.

فالإيمان نسبةٌ يَنسِبُ الإنسانَ إلى مالكه، وجهةُ النسبة إنما تنظر إلى الصّنعة، فيكون مدارُ النظر حينئذٍ إلى المصنوعية والصنعة. فبالإيمان تزيد قيمةُ الإنسان إلى أن تصيرَ الجنةُ ثمنَه، وتكون الخلافةُ رتبتَه، ويطيق على حمل الأمانة.. وأما الكفر فهوقاطعُ النسبةِ، وقاطعُ الوصلة.. فإذا انقطعت النسبةُ استتر الصنعُ، وانتكست الصنعةُ واختفى التجلي، وظهرت المادةُ، وانقلبت المرآةُ، وسقطت القيمةُ إلى دركة يتمنّى الكافرُ العدمَ، أوينقلبَ ترابا.

الحاصل: أنَّ الإنسان كماكينةٍ مشتملة على ملايينِ آلاتِ الوزنِ وميزاناتِ الفهم، توزَن بها مدّخراتُ خزينة الرحمة، وجواهر ثروة الكنـز الخفي، حتى أُودعَ في اللسان فقط جهازاتٌ للوزن بعدد المطعومات، ليُحِسَّ ذوواللّسان بأنواع دقائقِ نِعَم الحق. فإذا استعمل تلك الماكينةَ أمينُ يمين يُمن الإيمان أثمرت ثمراتٍ وأورثت آثارا عند مَن لا يضلّ ولا ينسى.. وأما إذا ما وقعت في يد الكفر صارت كمثل ماكينة غالية القيمة بلا مثيل، أخَذَها وحشيّ لا يعرف ما هي، فاستعملها في خدمة النّار -كآلة عادية- حتى أحرقها.

فيا مَن بيده ملكوتُ كلِّ شيء، وبيده مقاليدُ كل شيء، ويا مَن هوآخذٌ بناصيةِ كل شيء، ويا مَن عنده خزائن كل شيء، لاتكِلنا إلى أنفسنا، وارحمنا، ونوّر قلوبَنا بنور الإيمان والقرآن.

﴿اِنَّ وَعْدَ اللّٰهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيٰوةُ الدُّنْيَا۠ وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللّٰهِ الْغَرُورُ﴾ (لقمان:33)

اعلم أيها السكران السفيه الغافل الضّال! تورطتَ في مزبلة الدنيا فتُريد إضلالَ الناس بتصوير تلك المزبلة معدنَ السّعادة ليتخَفّف عنك. فإن أمكن لك قلبُ أربعِ حقائق فاصنع ما شئت.

أحدها: الموت؛ مع أنّك لا تقلِب، بل تبدّل الموتَ الذي هوتبديلٌ لمكان في نظر المؤمن إعداما أبديا.

والثاني: العجز؛ في مقابلة الحاجات والأعداء الغير المحصورين، مع أنك تحوّل العجزَ المنجر للاستناد إلى القدير المطلق -كأن العجزَ داعٍ يدعوك إليه- إلى عجز مطلقٍ مع اليُتم وعدم نقطة الاستناد.

والثالث: الفقر؛ في الأكثر المطلق، مع أنك تصرِف الفقر -الذي هووسيلة التوجه إلى خزينة الغني المطلق كأن الفقر تذكرةُ دعوة- إلى فقرٍ مظلمٍ مؤلم متزايد بتزايدِ رذائل المدنية.

والرابع: الزوال؛ إذ زوالُ اللذة ألمٌ دائم. فلا خيرَ في لذةٍ لا تدوم. مع أنك تحوِّل الزوال -الذي هووسيلة الوصول إلى اللذة الباقية إن قارنَ نيةً صالحة- زوالا أليما، لا إلى بديلٍ، مورثا آلاما وآثاما. فمَن ينتظرُ الموتَ دائما، ويحيط به العجزُ، ويستولي عليه الفقر، وهوعلى جناح السفر.. إنما ينخدع بسفسطياتك حالةَ السُكر فقط، والسُكر لا يدوم. [5] فالتي تسمّيها سعادةَ الحياة، هي عينُ شقاوةِ الحياة من كل الوجوه، وإنما تكون سعادةً ظاهرية بشرط دفع الموت أونسيانه على الإطلاق.. ورفعِ العجز أوالغرور المطلق.. ودفعِ الفقر. أوالجنة المطلقة ودوام الخلود أوتسكين جرخ الفلك.

نبّهني الله وإياكم عن نوم الغفلة الذي تظنون فيه اليقظةَ الكاذبة -التي هي انغماسٌ في غمرات النوم- انتباها، وأفاقني الله وإياكم من الجنون المطلق الذي تتوهمونه عقلا منورا.

اعلم وانظر كيف أدرجَ الصانعُ القدير ملايينَ عوالمَ من أنواع الحيوانات والنباتات في سطح الأرض، كلُّ عالَمٍ كبحرٍ صارت قطراتٍ للتوظيف، كتوظيف النمل لتنظيف وجه الأرض من جنائزِ الحُوَينات. وقد أطبقت تلك القطرات على وجه الأرض.. أوككلٍّ ذي أجزاء صار ككلّيّ ذي جزئيات.

كما أن الماءَ والهواء والضياء والتراب لاسيما الثلج كقطراتٍ صارت بحرا، لتماثُل الوظيفة، ووحدةِ الأمر، وتلقي الأمر الوحداني. فأجزاء الأربعة ككلياتِ تلك مشعورةٌ معلومة موظفةٌ. فتداخلت تلك العوالمُ الغيرُ المحصورة واختلط الكل بالكل واشتبك، مع أن الصانعَ الحكيم ميّز كلَّ واحدٍ عن كلِّ واحدٍ بتشخصّاته المخصوصة ولوازماته المشخّصة، فأظهر نهايةَ الامتياز في غاية الاختلاط، بحيث يَضعُ عالمَ النمل أوالذباب -مثلا- فيما بين أجزاءِ عوالم ذوي الحياة بإيجاد يخصّه ثم يرفعه بإماتة تخصّه، كأن سطحَ الأرض وطنُه فقط، فلا تتشوشُ حياةُ الخاصة ولا مماتُها المعيّن. فنسبةُ عالَمٍ إلى سائر العوالم المجاورة له، كنسبة حُسن انتظامِ تربيةِ فردٍ -مغمور في الأفراد- إلى تدبير النوع. لا يشغل الصانعَ هذا عن ذاك، ولا ذاكَ عن هذا.