بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (الإسراء: 82)

﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ (يس:69)

إذا أردتَ أن تعقد موازنة ومقارنة بين حكمة القرآن الحكيم والعلوم الفلسفية، وأردت أن تعرف ما يمكن أن يُستخلص من كل منهما من دروس العبرة والعظة، ورمتَ أن تلمس ما ينطويان عليه من علوم.. فأمعن النظر وتأمل فيما يأتي:

إن القرآن الكريم، ببياناته القوية النافذة، إنما يمزّق غطاء الأُلفة وستار العادة الملقى على موجودات الكون قاطبة، والتي لا تُذكر الاّ أنها عادية مألوفة مع أنها خوارق قدرةٍ بديعة ومعجزاتها العظيمة. فيكشف القرآن بتمزيقه ذلك الغطاء حقائق عجيبة لذوي الشعور، ويُلفت أنظارهم إلى ما فيها من دروس بليغة للاعتبار والعظة، فاتحًا كنزًا لا يفنى للعلوم أمام العقول.

أما حكمة الفلسفة، فهي تخفي جميع معجزات القدرة الإلهية وتسترها تحت غطاء الأُلفة والعادة، فتجاوزها دون اكتراث. بل تتجاهلها دون مبالاة بها، فلا تعرض أمام أنظار ذوي الشعور إلا أفرادًا نادرة شذّت عن تناسق الخلقة، وتردّت عن كمال الفطرة السليمة مدّعية أنها نماذج حكمةٍ ذات عبرة.

فمثلًا: إن الإنسان السوي الذي هو في أحسن تقويم جامعٍ لمعجزات القدرة الإلهية، تنظر إليه حكمةُ الفلسفة نظرها إلى شئ عادي مألوف، بينما تلفت الأنظار إلى ذلك الإنسان المشوّه الذي شذّ عن كمال الخلقة، كأن يكون له ثلاثة أرجل أو رأسين مثلًا، فتثير حوله نظر العبرة والاستغراب.

ومثلًا: إن إعاشة جميع الصغار من خزائن الغيب إعاشةً في منتهى الانتظام التي تمثل ألطف معجزة من معجزات رحمته تعالى وأعمّها في الوجود، تنظر إليها حكمة الفلسفة أمرًا مألوفًا عاديًا، فتسترها بستار الكفران، بينما تلفت الأنظار إلى إعاشة حشرة شذت عن النظام ونأت عن طائفتها وظلت وحيدة في الغربة فريدة في أعماق البحر، فبدأت تقتات على ورق نبات أخضر هناك حتى أنها لتثير أشجان الصيادين إلى ما يتجلى منها من لطف وكرم بل تدفعهم إلى البكاء والحزن (حاشية) لقد وقعت هذه الحادثة فعلًا في أمريكا. المؤلف.

فشاهد في ضوء هذه الأمثلة ثروة القرآن الطائلة وغناه الواسع في معرفة الله في ميدان العلم والحكمة.. وإفلاس الفلسفة وفقرها المدقع في دروس العبرة والعلم بمعرفة الصانع الجليل.

ولأجل هذا السر فالقرآن الكريم الذي هو جامع لحقائق باهرة ساطعة لا نهاية لها، مستغنٍ عن خيالات الشعر.. وثمة سبب آخر لتنزه القرآن عن الشعر هو أن القرآن مع أنه في أتم نظام خارق وأكمل انتظام معجز ويفسّر -بأساليبه المنتظمة- تناسق الصنعة الإلهية في الكون نراه غير منظوم، فكل آية من نجوم آياته لا تتقيد بنظام الوزن، لذا تصبح كأنها مركز لأكثر الآيات وشقيقتها. إذ تمثل خيوط العلاقة بين الآيات المترابطة في المعنى دائرة واسعة. فكأن كل آيةٍ حرةٍ -غير مقيدة بنظام الوزن- تملك عيونًا باصرة إلى أكثر الآيات، ووجوهًا متوجهة إليها.

ومن هذا نجد في القرآن الكريم آلافًا من القرائين حتى أنه يهب لكل ذي مشرب قرآنًا منه. فسورة الإخلاص -مثلًا- تشتمل على خزينة عظيمة لعلم التوحيد، تضم ستًا وثلاثين سورة إخلاصٍ، تتكون من تراكيب جملها الست ذات العلاقات المترابطة بعضها ببعض، كما وضّح ذلك في الكلمة الخامسة والعشرين.

نعم! إن عدم الانتظام الظاهر في نجوم السماء، يجعل كل نجم منها غير مقيد وكأنها مركز لأكثر النجوم ضمن دائرة محيطها. فتمد خيوط العلاقات وخطوط الأواصر إلى كل منها إشارة إلى العلاقات الخفية فيما بين الموجودات قاطبة. وكأن كل نجمة -كنجوم الآيات الكريمة- تملك عيونًا باصرة إلى النجوم كافة ووجوهًا متوجهة إليها جميعًا .

فشاهد كمال الانتظام في عدم الانتظام. واعتبر! واعلم من هذا سرًا من أسرار الآية الكريمة ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ (يس:69)

واعلم أيضًا حكمةً أخرى لـ﴿وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ (يس:69)مما يأتي:

إن شأن الشعر هو تجميل الحقائق الصغيرة الخامدة، وتزيينها بالخيال البراق، وجعلها مقبولة تجلب الإعجاب.. بينما حقائق القرآن من العظمة والسمو والجاذبية بحيث تبقى أعظم الخيالات وأسطعها قاصرة دونها، وخافته أمامها.

فمثلًا:قوله تعالى ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾ (الأنبياء:104) ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ (الأعراف:54) ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ﴾ (يس:53). وأمثالها من الحقائق التي لا حدّ لها في القرآن الكريم شاهدات على ذلك.

إذا شئت أن تشاهد وتتذوق كيف تنشر كلُ آية من القرآن الكريم نورَ إعجازها وهدايتها وتبدّد ظلمات الكفر كالنجم الثاقب؛ تصوَّر نفسَك في ذلك العصر الجاهلي وفي صحراء تلك البداوة والجهل. فبينا تجد كل شئ قد أسدل عليه ستار الغفلة وغشيه ظلام الجهل ولفّ بغلاف الجمود والطبيعة، إذا بك تشاهد وقد دّبت الحياة في تلك الموجودات الهامدة أو الميتة في أذهان السامعين فتنهض مسبّحةً ذاكرةً الله بصدى قوله تعالى ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ (الجمعة:1) وما شابهها من الآيات الجليلة.

ثم إن وجه السماء المظلمة التي تستعر فيها نجومٌ جامدة، تتحول في نظر السامعين،بصدى قوله تعالى ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ﴾ (الإسراء:44) إلى فمٍ ذاكرٍ لله، كل نجم يرسل شعاع الحقيقة ويبث حكمة حكيمة بليغة.

وكذا وجه الأرض التي تضم المخلوقات الضعيفة العاجزة تتحول بذلك الصدى السماوي إلى رأس عظيم، والبر والبحر لسانين يلهجان بالتسبيح والتقديس وجميع النباتات والحيوانات كلمات ذاكرة مسبّحة؛ حتى لكأن الأرض كلها تنبض بالحياة.

وهكذا بانتقالك الشعوري إلى ذلك العصر تتذوق دقائق الإعجاز في تلك الآية الكريمة. وبخلاف ذلك تُحرَم من تذوق تلك الدقائق اللطيفة في الآية الكريمة.

نعم! إنك إذا نظرت إلى الآيات الكريمة من خلال وضعك الحاضر الذي استنار بنور القرآن منذ ذلك العصر حتى غدا معروفًا، وإضاءته سائر العلوم الإسلامية، حتى وضحت بشمس القرآن. أي إذا نظرت إلى الآيات من خلال ستار الأُلفة، فإنك بلا شك لا ترى رؤية حقيقية مدى الجمال المعجز في كل آية، وكيف إنها تبدد الظلمات الدامسة بنورها الوهاج. ومن بعد ذلك لا تتذوق وجه إعجاز القرآن من بين وجوهه الكثيرة.

وإذا أردت مشاهدة أعظم درجة لأعجاز القرآن الكثيرة، فاستمع إلى هذا المثال وتأمل فيه: لنفرض شجرة عجيبة في منتهى العلو والغرابة وفي غاية الانتشار والسعة؛ قد أُسدل عليها غطاء الغيب، فاستترت طيَّ طبقات الغيب.

فمن المعلوم أن هناك توازنًا وتناسبًا وعلاقاتِ ارتباط بين أغصان الشجرة وثمراتها وأوراقها وأزاهيرها -كما هو موجود بين أعضاء جسم الإنسان- فكل جزء من أجزائها يأخذ شكلًا معينًا وصورة معينة حسب ماهية تلك الشجرة.

فإذا قام أحدٌ -من قِبل تلك الشجرة التي لم تُشاهَد قط ولا تُشاهد- ورسم على شاشةٍ صورةً لكل عضو من أعضاء تلك الشجرة، وحدّ له، بأن وضع خطوطًا تمثل العلاقات بين أغصانها وثمراتها وأوراقها، وملأ ما بين مبدئها ومنتهاها -البعيدين عن بعضهما بما لايحد- بصورٍ وخطوط تمثل أشكال أعضائها تمامًا وتبرز صورها كاملة.. فلا يبقى أدنى شك في أن ذلك الرسام يشاهد تلك الشجرة الغيبية بنظره المطلع على الغيب ويحيط به علمًا، ومن بعد ذلك يصوّرها.

فالقرآن المبين -كهذا المثال  أيضًا فإن بياناته المعجزة التي تخص حقيقة الموجودات (تلك الحقيقة التي تعود إلى شجرة الخلق الممتدة من بدء الدنيا إلى نهاية الآخرة والمنتشرة من الفرش إلى العرش ومن الذرات إلى الشموس) قد حافظت -تلك البيانات الفرقانية- على الموازنة والتناسب وأعطت لكل عضو من الأعضاء ولكل ثمرة من الثمرات صورة تليق بها بحيث خَلُص العلماء المحققون -لدى إجراء تحقيقاتهم وأبحاثهم- إلى الانبهار والإنشداه قائلين: ما شاء الله.. بارك الله. إن الذي يحل طلسم الكون ويكشف معمّى الخلق إنما هو أنت وحدك أيها القرآن الحكيم!

فلنمثل -ولله المثل الأعلى– الأسماء الإلهية وصفاتها الجليلة والشؤون الربانية وأفعالها الحكيمة كأنها شجرة طوبى من نور تمتد دائرة عظمتها من الأزل إلى الأبد، وتسع حدود كبريائها الفضاء المطلق غير المحدود وتحيط به. ويمتد مدى إجراءاتها من حدود ﴿فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾ (الأنعام:95) ﴿يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ (الأنفال:24) ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ (آل عمران:6) إلى ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ (هود:7) وإلى ﴿وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ (الزمر:67) ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ فنرى أن القرآن الكريم يبين تلك الحقيقة النورانية بجميع فروعها وأغصانها وبجميع غاياتها وثمراتها بيانًا في منتهى التوافق والانسجام بحيث لا تعيق حقيقةٌ حقيقةً أخرى ولا يفسد حكمُ حقيقةٍ حُكْمًا لأُخرى، ولا تستوحش حقيقة من غيرها. وعلى هذه الصورة المتجانسة المتناسقة بيّنَ القرآن الكريم حقائق الأسماء الإلهية والصفات الجليلة والشؤون الربانية والأفعال الحكيمة بيانًا معجزًا بحيث جعل جميع أهل الكشف والحقيقة وجميع أولي المعرفة والحكمة الذين يجولون في عالم الملكوت، يصّدقونه قائلين أمام جمال بيانه المعجز والإعجابُ يغمرهم: ((سبحان الله! ما أصوبَ هذا! وما أكثر انسجامه وتوافقه وتطابقه مع الحقيقة وما أجمله وأليقه)).

فلو أخذنا مثلًا أركانَ الإيمان الستة التي تتوجه إلى جميع دائرة الموجودات المختلفة ودائرة الوجوب الإلهي والتي تعد غصنًا من تلكما الشجرتين العظميين، يصورها القرآن الكريم بجميع فروعها وأغصانها وثمراتها وأزاهيرها مراعيًا في تصويره انسجامًا بديعًا بين ثمراتها وأزاهيرها معّرفًا طرز التناسب في منتهى التوازن والاتساق بحيث يجعل عقل الإنسان عاجزًا عن إدراك أبعاده ومبهوتًا أمام حسن جماله.

ثم إن الإسلام الذي هو فرع من غصن الإيمان، أبدع القرآن الكريم وأتى بالرائع المعجب في تصوير أدق فروع أركانه الخمسة وحافظ على جمال التناسب وكمال التوازن فيما بينها، بل حافظ على أبسط آدابها ومنتهى غاياتها وأعمق حِكَمها وأصغر فوائدها وثمراتها وأبهر دليل على ذلك هو كمال انتظام الشريعة العظمى النابعة من نصوص ذلك القرآن الجامع ومن إشاراته ورموزه..

فكمال انتظام هذه الشريعة الغراء وجمال توازنها الدقيق وحسن تناسب أحكامها ورصانتها كل منها شاهِدُ عدلٍ لا يجرح وبرهان قاطع باهر لا يدنو منه الريب ابدًا على أحقية القرآن الكريم بمعنى أن البيانات القرآنية لا يمكن أن تستند إلى علم جزئي لبشر، ولا سيما إنسان أميّ، بل لابد أن تستند إلى علم واسع محيط بكل شئ والبصير بجميع الأشياء معًا..

فهو كلام ذات الله الجليل البصير بالأزل والأبد معًا والشاهد بجميع الحقائق في آن واحد. ومما يشير إلى هذه الحقيقة الآية الكريمة:

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾ (الكهف:1)

 

اللهم يا منزِّل القرآن! بحق القرآن وبحقّ من أُنزل عليه القرآن نوّر قلوبنا وقبورنا بنور الإيمان والقرآن آمين يا مستعان!!