[تأويل حديث شريف]

تبدو لي حقيقةٌ إيمانية في غاية الأهمية أكثر من مائة مرة. وحيث إن زمن تأليف الرسائل قد انتهى، فمهما حاولتُ اقتناص تلك الحقيقة الجليلة لم أتمكن، فانتظرت كي أستشعرها وأتمكن من أن أعبرها بوضوح، ولكن لم أوفق، والآن سأتناول تلك الحقيقة الواسعة جدا والطويلة جدا بإشارة قصيرة جدا وفي منتهى الاختصار.

إن الحديث الشريف «إن الله خلق آدم على صورة الرحمن» هو من جوامع الكَلِم ومن الأحاديث المتشابهة كذلك. وقد ظهرت لقلبي نكتَتُه الكلية العظيمة جدا أثناء قراءتي «خلاصة الخلاصة» و«الجوشن الكبير». وأنا لأجل ألّا تفلت مني تلك النكتةُ الجميلة جدا والعجيبة جدا وضعتُ إشارات على صورة شفرات في «خلاصة الخلاصة» بين المرتبة السابعة عشرة -وهي شهادة لسان القرآن- والمرتبة الثامنة عشرة وهي شهادة الكون. وقد وضعت الإشارات ذات الشفرة كالآتي:

لا إلَهَ إلَّا الله الوَاجِبُ الوُجُودِ الوَاحِدُ الأحَدُ بِلِسَانِ الحَقيقَةِ الإنسَانيَّةِ.. الخ.

وسأوضح هذه الشفرة القصيرة في منتهى الاختصار. واجعلوها حاشية لخلاصة الخلاصة.

نعم، إن الكون العظيم يكون أمامي بمثابة حلقة ذكر في أثناء قراءتي لخلاصة الخلاصة، ولكن لأن لسان كل نوع من الأنواع واسع جدا، يتحرك العقل عن طريق الفكر كثيرا كي يذعن بالأسماء الإلهية وصفاتها بعلم اليقين، وبعد ذلك يتمكن أن يبصر ذلك بوضوح. وعندما ينظر إلى الحقيقة الإنسانية في ذلك المقياس الجامع، في تلك الخريطة المصغرة، وفي ذلك النموذج الصادق، وفي ذلك الميزان الصغير، وفي ذلك الشعور بالأنانية، فإنه يصدق تلك الأسماء والصفات بإيمان واطمئنان ووجدان جازم شهودي وإذعاني وبسهولة ويسر وبمرآته الحاضرة التي بقربه دونما حاجة إلى سياحة فكرية، فيَكسب الإيمانَ التحقيقي ويدرك المعنى الحقيقي للحديث الشريف: «إن الله خلق الإنسان على صورة الرحمن». لأن المراد من الصورة، السيرة والأخلاق والصفات. حيث إن الصورة محالة بحقه تعالى.

نعم، فكما أن أصحاب الطريقة الصوفية قد سلكوا في المعرفة الإلهية طريقين: أحدهما: السير الأنفسي، والآخر: السير الآفاقي. ووجدوا أن أقصرَ طريق وأيسرَها وأمتنها وأكثرها اطمئنانا هي الطريق الأنفسي أي في القلب، وذلك بالذكر الخفي القلبي، كذلك أهل الحقيقة الرفيعون قد سلكوا طريقين اثنين ليس بالمعرفة والتصور، بل بما هو أرقى وأجدر منهما بكثير وهو في الإيمان والتصديق.

الأول: النظر إلى الآفاق بمطالعة كتاب الكون، كما في «الآية الكبرى» و«الحزب الأكبر النوري» و«خلاصة الخلاصة» وأمثالها.

 والآخر: الصعود إلى مرتبة الإيمان، الخالية من الشكوك والريوب بمطالعة خريطة الحقيقة الإنسانية وفهرس الأنانية البشرية وماهيتها النفسانية، وهي أقوى مرتبة وجدانية وشعورية وشهودية -إلى حد ما- فهي بدرجة حق اليقين، بحيث إن هذه المرتبة متوجهة إلى سر الأقربية الإلهية والوراثة النبوية.

هذا وقد وضّحتُ جزءا من حقيقة التفكر الإيماني الأنفسي في الكلمة الثلاثين في بحث «أنا» وفي «نافذة الحياة» و«نافذة الإنسان» في المكتوب الثالث والثلاثين وفي أجزاء أخرى من رسائل النور.

* * *

[الرسائل تؤدي المهمة]

إخواني الأوفياء الصادقين!

لا تقلقوا أبدا، فإني لا أُبيّن لكم حالة مرضي الشديد الذي انتابني من جراء التسميم -بتدبير مقصود- إلّا لأنال دعواتِكم. فلا داعي للاضطراب والقلق، إذ -لله الحمد والشكر- لم يمنعني ذلك المرضُ من قراءة أورادي ولا واجبِ تصحيح الرسائل. أسأله تعالى أن يكتب لي فيه أجرا عظيما، فأنا راضٍ عن هذا المرض -من جهة- فلا تتألموا أيضا لحالي، ولقد أوشكتْ مهمتي في الحياة على الانتهاء. وتستطيع كلُّ نسخة من نسخ رسائل النور -ولا سيما المجموعات منها- أن تؤدي وظيفتي بما يفوق حسن ظنكم في «سعيد» بكثير، بل تؤديها فعلا، وكلُّ طالب فدائيّ من طلاب النور الخواص يمكنه أن يقوم بوظيفة ذلك «السعيد» على أتم وجه. فلئن نَقَصَ «سعيد» واحد فيما بينكم، فإن مئات السعيدين المعنويين -أي الرسائل- وألوف السعيدين الماديين -أي طلاب النور- يستطيعون القيام بتلك المهمة خيرَ قيام. وهم فعلا يقومون بها.

وبناءً على هذه الحقيقة، لا تهتموا كثيرا بشخصي ولا بالحوادث التي تجري عليّ، بل اسألوا الله سبحانه، وادعوه متضرعين إليه أن يثبتنا على الإخلاص.

وعاونوني يا إخوتي بدعواتكم -التي لا ريب في استجابتها- لِما ألمّ بي من شيخوخة ومن آلام كثيرة.

* * *

[الفلسفة التي تهاجمها الرسائل]

باسمه سبحانه

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ابدا دائما…

إخوتي الأعزاء الصديقين!

نظرا لشروع رسائل النور بالانتشار بآلة «الرونيو» والتفافِ الكثيرين من الطلاب والمدرسين الذين يقرأون الفلسفة الحديثة في المدارس حول رسائل النور، لزم بيان
الحقيقة الآتية:

إن الفلسفة التي تهاجمها رسائل النور وتصفعها بصفعاتها القوية، هي الفلسفة المضرة وحدها، وليست الفلسفة على إطلاقها، ذلك لأن قسمَ الحكمة من الفلسفة التي تخدم الحياة الاجتماعية البشرية، وتُعِين الأخلاقَ والمُثل الإنسانية، وتمهّد السبل للرقي الصناعي، هي في وفاق ومصالحة مع القرآن الكريم، بل هي خادمةٌ لحكمة القرآن، ولا تعارضها، ولا يسعها ذلك؛ لذا لا تتصدى رسائل النور لهذا القسم من الفلسفة.

أما القسم الثاني من الفلسفة، فكما أصبح وسيلةً للتردي في الضلالة والإلحاد والسقوط في هاوية المستنقع الآسن للفلسفة الطبيعية، فإنه يسوق الإنسان إلى الغفلة والضلالة بالسفاهة والله. وحيث إنه يعارِض بخوارقه التي هي كالسحر الحقائقَ المعجزة للقرآن الكريم، فإن رسائل النور تتصدى لهذا القسم الضال من الفلسفة في أغلب أجزائها وذلك بنَصبها موازينَ دقيقة ودساتير رصينة، وبعقدها موازنات ومقايسات معزّزة ببراهين دامغة. فتصفعها بصفعاتها الشديدة، في حين أنها لا تمس القسمَ السديد النافع من الفلسفة.

ومن هنا لا يعترض طلاب المدارس الحديثة على رسائل النور، بل ينضوون -وينبغي لهم أن ينضووا- تحت لوائها دونَ تردد وإحجام.

بيد أن المنافقين المتسترين، الذين استغلوا عددا من علماء الدين وجعلوهم في عداء مع رسائل النور-لأسباب تافهة جدا ولا معنى لها إطلاقا- التي هي بضاعة المدارس الشرعية وهم أصحابُها الحقيقيون، فلربما يستغلّون أيضا الغرورَ العلمي لدى بعض أرباب الفلسفة ويثيرونهم على رسائل النور، لذا أرى من الأنسب كتابةَ هذه الحقيقة في مستهل كلٍ من مجموعة «عصا موسى» و «ذو الفقار».

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[رسالة إلى علماء الأزهر]

إن النسختين اللتين سترسلان إلى علماء الأزهر لم تُصحَّحا من قِبَلي؛ فلاشك من وقوع هفوات وسهو سواء في ضبط الشكل أو في العبارات العربية، ولاسيما في «خلاصة الخلاصة» التي في الختام. فلقد شاهدتُ هفوات في نسخ أخرى. ولهذا أرسِلوا نسخةً مصحّحة من قبل علماء في العربية -في أي وقت ترونه ملائما- من كل من مجموعةِ «عصا موسى» و«ذو الفقار»، وأرفقوا الآتي إليهم:

إن مدرسة الزهراء -لرسائل النور- بحاجة ماسة إلى الجامع الأزهر، كحاجة الطفل الصغير إلى أمه الرؤوم. فهي تطلب دوما أن يُسبغ شفقته عليها، إذ هي إحدى طالباته، تتلقى الدرسَ منه، وهي التي استهدفتها أعداءٌ شرسون كثيرون.

فهذه المدرسة الزهراء شعبةٌ مصغّرة من شُعب ذلك الجامع العظيم الذي يترأس المدارس الدينية جميعها وينوّر بها العالم الإسلامي.

ولأجل هذا تنتظر هذه الطالبة الصغيرة عَون ذلك الأستاذِ الموقّر، وذلك الأبِ الرحيم والمرشد الكبير، وترجو أن يمدّ يده إليها.

* * *

[مكاسب العمل لرسائل النور]

«يوزن مدادُ العلماء بدماء الشهداء»

«من تمسك بسنتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد»

استلهاما من هذين الحديثين الشريفين نبين عددا من الفوائد الكثيرة -الدنيوية والأخروية- الناشئة من استنساخ رسائل النور، والمذكورة في أجزائها والثابتة بتجارب طلابها وتصديقهم إياها.

خمسة أنواع من العبادات:

1- إنها جهاد معنوي تجاه أهل الضلالة، ذلك الجهاد الأهم.

2- إنها خدمة لأستاذه ومعاونة له على نشر الحقيقة.

3- إنها خدمة للمسلمين كافة من حيث الإيمان.

4- إنها تحصيل للعلم بالكتابة.

5- إنها عبادة فكرية التي قد تكون ساعة منها بمثابة سنة من العبادة.

ولها خمسة أنواع من الفوائد الدنيوية:

1- البركة في الرزق.

2- الانشراح والسرور في القلب.

3- اليُسر في المعيشة.

4- التوفيق في الأعمال.

5- المشاركة في الدعوات الخاصة لجميع طلاب النور، بنيله فضيلة طالب العلم.

نتيجتان مهمتان للعمل لرسائل النور بالقلم والتتلمذ عليها:

الأول: حسن الخاتمة كما تشير إليها الآيات القرآنية الكريمة.

الثاني: الاشتراك بالمكاسب المعنوية لجميع طلاب النور، بمقتضى الاشتراك المعنوي ضمن دائرة رسائل النور، ونيل حظه من حسناتهم جميعا.

وكذا الدخول ضمن حظيرة طلاب العلم -في هذا الزمان الذي فُقد فيه طالبُ العلم- ونيلُ الاحترام اللائق بهم من قِبَل الملائكة،([1]) بل نيلُ حياة الشهداء في عالم البرزخ -إنْ وفّق إلى ذلك وأوتى حظا عظيما- بمثل ما حظي بها طالب النور الشهير «الحافظ علي»، والمذكور في رسالة «الثمرة».

* * *

[هكذا تقتضي خدمة الإيمان]

أولاً: إنه يجب عليّ المجيء إلى هنا حتى لو كنت في مكة المكرمة، وذلك إنقاذاً للإيمان وخدمة للقرآن الكريم، فالحاجة هنا شديدة جداً. فلو كنت أملك ألف روح وروح، وابتُليت بألف مرض ومرض، وقاسيت ألوفاً من صنوف الآلام والمصاعب، فإن قراري -وقرارنا- هو البقاء هنا، خدمةً لإيمان هذه الأمة وسعياً لإكسابهم السعادة الأبدية، ذلك ما تعلمناه من دروس القرآن الكريم.

ثانياً: تكتب إليّ -يا أخي- عن الإهانة التي أُقابَل بها بدلاً من الاحترام والتقدير وتقول: «لو كنتَ في مصر أو أمريكا لكنتَ تُذكر في التاريخ بإعجاب وفخر».

أخي العزيز الفطن!

نحن نهرب هروباً من احترام الناس إيانا وتوقيرهم لنا وحسن ظنهم بنا وإكرامهم لنا وإعجابهم بنا، وذلك بمقتضى مسلكنا. فاللهاث وراء الشهرة التي هي رياء عجيب، ودخول التاريخ بفخر وبهاء، وهو عُجب ذو فتنة، وحبُّ الظهور وكسب إعجاب الناس.. كل ذلك مناف ومخالف للإخلاص الذي هو أساس من أسس مسلك النور وطريقه. فنحن نجفِل ونهرب مذعورين من هذه الأمور باعتبارنا الشخصي؛ ناهيك عن الرغبة فيها.

ولكننا نرجو من رحمة الله الواسعة إظهار رسائل النور النابعة من فيض القرآن الكريم، والتي هي لمعات إعجازه المعنوي، ومفسرة حقائقه وكشافة أسراره.. فنرجو من رحمته تعالى الإعلانَ عن هذه الرسائل والرواجَ لها وشعور الناس بحاجتهم إليها وإظهارَ قيمتها الرفيعة جداً، وتقديرَ الناس لها وإعجابهم بها، وتبيانَ كراماتها المعنوية الظاهرة جداً وإظهارَ غلبتها على الزندقة بجميع أنواعها بسر الإيمان، فنحن نريد إعلام هذه الأمور وإفهام الناس بها وإظهارَ تلك المزايا، ونرجو ذلك من رحمته تعالى.

* * *

[ذكرى وعبرة]

في هذه الأوقات التي نجد فيها الضيق والعنت، أزعجتني نفسي الجزِعةُ الفارغة من الصبر، فأسكتتها هذه الفقرةُ، وألزمتها الحجة، ودفعتها إلى الشكر لله.

أقدم هذه الفقرة الموضوعة فوق رأسي طي رسالتي هذه لعلها تفيدكم أيضاً.

1- يا نفسي! لقد أخذتِ نصيبك من الأذواق -في غضون ثلاث وسبعين سنة- أكثر مما أخذها تسعون بالمائة من الناس. فلم يبق لكِ بغية فيها.

2- أنتِ ترومين دوام الأذواق وبقاءها وهي فانية آنيّة، لذا تبكين عشر ساعات عن ضحك دام دقيقة واحدة.

3- إن المظالم التي أتت عليك، والمصائب التي نزلت بكِ تنطوي على عدالة القدر. فيظلمونك لما لم ترتكبيه، بينما القدر يؤدبك بيد تلك المصيبة -بناء على أخطاء خفية- ويكفّر عن خطاياك.

4- يا نفسي الجزعة! لقد اقتنعتِ قناعة تامة -بمئات من تجاربكِ- أن المصائب الظاهرية ونتائجها تنشق عن ثمرات عناية إلهية في منتهى اللذة. فالآية الكريمة: ﴿وَعَسٰٓى اَنْ تَكْرَهُوا شَيْـًٔا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْۚ﴾ (البقرة:216) تلقن درسَ حقيقةٍ يقينية. تَذكّري دائماً هذا الدرس القرآني. ثم إن الناموس الإلهي الذي يدير عجلة الكون، ذلك القانون القدري الواسع العظيم لا يُبَدَّل لأجلك.

5- اتخذي هذا الدستور السامي دليلاً: «من آمن بالقدر أمِنَ من الكدر». ولا تلهثي وراء لذائذ موقتة تافهة كالطفل الغرير. فكري دوماً أن الأذواق الفانية تورث فيك حسرات وآلاماً معنوية، بينما الآلام والمشقات تورث لذائذ معنوية وأثوبة أخروية. فإن لم تكوني بَلْهَاءَ، يمكنك أن تتحري عن الأذواق الموقتة للشكر وحده، وما أُعطيتِ اللذاتِ إلّا للشكر.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[حوار مع النفس]

إخواني الأوفياء الصادقين الأعزاء!

أولا: لقد خطر على بالي أن أكتب لكم، لأُطْلعكم على ما جرى من مناظرة خاصة مع نفسي، وهي الآتية:

إن اللوحة المعلقة فوق رأسي -المعروفة لديكم- تُخرس نفسي الأمارة وتُلزمها الحجة تماما، ولكني -في هذه الليلة- تعرضت لهجوم شنته دوافعُ مشاعري وأحاسيسي العمياء التي تستعمل سلاح النفس الأمارة بالسوء بإصرار أكثر، فأثّرت تأثيرا بالغا في عروقي وأعصابي، وأنا أعاني من حالة عجيبة تولدَت من آلام الأمراض وتألمات التسمم والأسقام ورهافة الحس، فضلا عن إلقاءات الشيطان وإيحاءاته، وحبّ الحياة المغروز في الفطرة.. ففي خضم هذه الحالات هاجمتْ تلك الأحاسيسُ والمشاعر العمياء -وهي في حكم النفس الأمارة الثانية- قلبي وروحي، موحيةً باحتمال وفاتي ومغادرتي الحياة الدنيا. فنشرتْ يأسا قاتما وتألُّما عميقا وحرصا شديدا على الحياة مع استمراءٍ لها وتلذذ بها.

فقالت تلك النفس الأمارة الثانية مع الشيطان:

لِمَ لا تسعى لراحة حياتك؟ بل ترفضها. ولِمَ لا تتحرى عن حياة ممتعة بريئة طيبة تقضيها طوال عمرك ضمن دائرة النور؟ بل ترضى بالموت وتطلبه!

وعلى حين غرة ظهرت حقيقتان صارمتان أخرستا النفس الأمارة الثانية والشيطان معا، وهما:

الحقيقة الأولى:

ما دامت الوظيفة المقدسة الإيمانية لرسائل النور ستتوضح أكثر وتنكشف بإخلاص أزيد بسبب وفاتي. حيث لا تُتّهم من أية جهة كانت أنها أداة لمكاسب الدنيا ووسيلة للأنانية والعجب.. وأن الوظيفة الإيمانية ستدوم بإخلاص أكثر وأقرب إلى الكمال، إذ ليس هناك ما يثير حسد الحاسدين في حياتي الشخصية… وعلى الرغم من أن بقائي على قيد الحياة قد يتيح نوعا من المعاونة في سير الخدمة -خدمةِ الإيمان والقرآن- فإن شخصيتي البسيطة التي لها حسّاد ونقّاد لهم شأنهم يمكنهم أن يُلصقوا تُهَما على تلك الشخصية ويهاجموا -بعدم الإخلاص- رسائلَ النور، ويتجنبوها ويجنّبوا الآخرين عنها… ثم إن من يقوم بشيء من الحراسة في دائرة، إذا ما أخذته الغفوةُ وغلب عليه النوم، فالغيورون في تلك الدائرة النورانية يهبّون حذرين، فيبرز في الميدان أُلوفُ الحراس والمرابطين بدلا من حارس واحد بسيط…

لذا ولأجل ما سبق؛ ينبغي أن يقال للموت المقبل: أهلا ومرحبا.

ثم يا نفسي! لِمَ تريدين أن تتخلفي عن الكثيرين من طلاب النور في البذل والعطاء، ألم يبذلوا أموالَهم وراحتهم ومتع الدنيا كلها، بل حياتهم -إن استوجب الأمر- في سبيل خدمة النور؟!

اعلمي قطعا يا نفسي! أنه لَشرف عظيم في منتهى اللذة والرضى، توديعُ حياة الشيخوخة الفانية المرهقة -إن لزم الأمر أو آن أوانه- في سبيل إكساب حياة باقية لكثير من المنكوبين وإنقاذها برسائل النور لئلا تُفضي إلى العدم.

الحقيقة الثانية:

لو وضعت عشرة أرطال من الحِمل على كاهل شخص ضعيف عاجز عن حَمل رطل واحد، واستعان به أصدقاؤه بدل أن يعينوه في حمله -لحسبانهم أنه ذو قوة وقدرة على الحَمل لخفاء ضعفه عليهم- فسوف يحاول ذلك الشخص الضعيف أن يُظهر نفسَه لهم بمظهر القوي جدا، لئلا يَسقط في نظرهم ولئلا يخيب حُسن ظنهم به، مما يؤدي به إلى التكلف والتصنع والظهور بما ليس فيه وأمثالِها من الأمور الثقيلة المقيتة الخالية من الذوق.

فكما أن الأمر هكذا في هذا الشخص، كذلك يا نفسي الأمارة الثانية الموغلة في أعماق المشاعر العمياء!

اعلمي أن شخصيتي الاعتيادية البسيطة هذه، واستعدادي الذي لا أهمية له، كالبذرة.. إن هذا الشخص لن يكون مصدرا ولا منبعا ولا مدارا للحقائق التي تتضمنها رسائل النور النابعة من صيدلية القرآن الكريم المقدسة، والتي سُلّمت إلى أيدينا برحمة منه تعالى وبفضله وعنايته سبحانه في هذا العصر المظلم المثقل بالأمراض والأسقام.

وحيث إنني فقير وضعيف عاجز، وسائلٌ لدى باب القرآن ليس إلّا، ووسيلةٌ لإبلاغه إلى المحتاجين إليه، يبالغ طلابُ النور المخلصون الخالصون الصديقون الصادقون الأصفياء الفدائيون، في حسن ظنهم بشخصيتي الضعيفة، بما يفوقني مائة درجة.

فلأجل ألّا أخيّب ظنهم الحسن، ولا أمس مشاعرهم بسوء، ولا أثبِّط شوقهم للأنوار، ولا أُظهر المستوى الواطئ لمن لقّبوه بالأستاذ، ولا أضطر إلى أنواع التصنع المؤلم والتكلف المقيت.. أترك لقاء الناس بل أضطر إلى تركه روحيا، لما أشعر به من نفور تولد من العيش الانفرادي طوال عشرين سنة، بل أترك حتى اللقاء مع الأصدقاء إلّا ما يخص خدمة النور. فأدَع التكلف والتظاهر بما يفوق قيمتي الشخصية، وأترك إظهار نفسي أمام المغالين في حسن الظن، إنها ذات مقام، وأتخلى عن التكبر المنافي كليا للإخلاص، وأعاف التحري عن أذواق الأنانية المتسترة تحت ستار الوقار..

فيا نفسي المفتونة بتلك الأذواق، ألا تُزيل هذه الحالاتُ تلك الأذواقَ كلها؟!

يا نفسي! ويا دواعي الحس الشقية العمياء، المبتلاة بالأذواق!

لو استمتعتِ بألوف أصناف المتع، وتذوقتِ ألوف أنواع الأذواق الدنيوية، فهي إلى زوال في هذا الوضع، بل يتحول ذلك الذوق ألما بعينه.

وما دام تسعون بالمائة من الأحباب الذين مضوا وصاروا في طوايا الماضي كأنهم يستدعونني -بل حقيقة- إلى عالم البرزخ، أضطر إلى الفرار من عشرة أصدقاء حاليين. ولا جرم أن حياة البرزخ المعنوية تَفضل ألف مرة هذه الحياة، حياة الشيخوخة والانفراد.

وهكذا، أسكتت هاتان الحقيقتان إسكاتا نهائيا تلك النفسَ الأمارة الثانية. فلله الحمد والمنة بما لا يتناهى من الحمد والشكر. إذ رضيتْ تلك النفس بالذوق الوارد من الروح والمنبعث من القلب.. وسكت الشيطان أيضا. بل حتى المرض المادي المتوطن في عروقي قد خفّ كثيرا.

حاصل الكلام: إذا متُ تزداد خدمة النور -للقرآن والإيمان- وتتوضح وتتبين بإخلاص أتمَّ، بلا حسّاد ولا اتهامات، فضلا عن النجاة من آلام التكلف الثقيلة المقيتة، والخلاصِ من أثقال العجب وأضرارِ التصنع بدلا من ذوق جزئيّ موقت لا أتحراه -في هذا الزمان- ولذةٍ ناشئة من رؤية فتوحات النور بنظر الدنيا.

ثم يا نفسي لقد تجولتِ -أنت والروح والقلب- في هذه السنة ولمرة واحدة في أرجاء الماضي، جولات حقيقية وخيالية لمشاهدة مَن تشتاقون إليه من المدن التي أمضيتُ فيها حياتي السابقة الممتعة، ولقاءِ الأحبة الذين أَنِسْتُ بهم ردحا من الزمن، والإخوانِ الذين حزنتِ على فراقهم حزنا أليما. فلم تشاهدي في أوطاني المحبوبة تلك إلّا واحدا أو اثنين من الأحبة، أما الباقون فقد ارتحلوا إلى عالم البرزخ، فلقد تبدلتْ لوحاتُ تلك الحياة التي كانت تطفح باللذة والمتعة إلى لوحات أليمة تقطر الحزن والأسى، فلا تُراد تلك البقاعُ الخالية من الأحباب ولا تُطلب إذن!

لذا فقبل أن تطردنا هذه الحياةُ وهذه الدنيا قائلةً لنا: اخرجوا عني. نقول بعزة كاملة: الوداع، وفي أمانة الله وحفظه. نعم، هكذا ينبغي أن ندَع هذه الأذواق الفانية محتفظين بكرامتنا وعزتنا.

ألف ألف سلام ودعاء لجميع إخواننا، من أخيكم المريض والمسرور سرورا خالصا.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *


[1] الثابت قطعاً بمشاهدة بعض أهل الكشف من الأولياء. (المؤلف)