(عبارة عن سبع عشرة مذكِّرة تألقت من الزُّهرة)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المقدمة

قبل اثنتي عشرة سنة من تأليف هذه اللمعة وفقني المولى الكريم وشملني بعنايته ولُطفه، فكتبتُ بعض ما تَألَّق من مسائل التوحيد وبعض ما تظاهر منها في أثناء تأملٍ فكريّ، وتجوالٍ قلبيّ، وانكشافٍ روحيّ عبر العروج في مراتب المعرفة الإلهية، كتبتُها باللغة العربية على صورة مذكِّرات في رسائل موسومة بـ«زُهرة» و«شعلة» و«حبّة» و«شمّة» و«ذرة» و«قطرة» وأمثالِها.

وحيث إن تلك المذكِّرات قد كُتبتْ لأجل إراءة بدايةِ حقيقةٍ عظيمة واسعة، وإبراز مقدمتِها فحسب، ولأجل إظهار شعاعٍ من أشعة نور ساطع باهر، فقد جاءت على شكل خواطر وملحوظات وتنبيهات. سجلتُها لنفسي وحدَها، الأمر الذي جعل الاستفادةَ منها محدودةً، وبخاصة أن القسم الأعظم من أخلص إخواني وخلاصتهم لم يدرسوا اللغةَ العربية، فاضطررتُ إزاء إصرارهم وإلحاحهم إلى كتابةِ إيضاحات باللغة التركية لقسم من تلك المذكّرات واللمعات. وأَكتفي بترجمة القسم الآخر منها.
ولقد جاءت الترجمة إلى التركية نصاً دون تغيير حيث تراءت «لسعيد الجديد» هذه الخواطر الواردة في الرسائل العربية رؤيةً أشبه ما تكون بالشهود، وذلك حينما شرع بالاغتراف من منهل علم «الحقيقة».. ولأجل هذا فقد ذُكرت بعض الجمل بالرغم من أنها مذكورة في رسائل أخرى بينما ذُكر البعض الآخر في غاية الإجمال ولم يوضّح التوضيح المطلوب وذلك لئلا يفقدَ لطافته الأصلية.

سعيد النورسي

المذكّرة الأولى

كنت قد خاطبتُ نفسي قائلاً: اعلم أيها السعيد الغافل! إنه لا يليق بك أن تربط قلبَك وتعلّقه بما لا يرافقك بعد فناءِ هذا العالم، بل يُفارقُك بخراب الدنيا! فليس من العقل في شيء ربطُ القلب بأشياءَ فانيةٍ! فكيف بما يتركك بانقراض عصرك ويدير ظهرَه لك؟ بل فكيف بما لا يصاحبُك في سَفر البرزخ؟ بل فكيف بما لا يشيّعك إلى باب القبر؟ بل فكيف بما يفارقُك خلال سنة أو سنتين فراقاً أبدياً، مُورّثاً إثْمَه ذمَّتَك، محمّلاً خطاياه على ظهرك؟ بل فكيف بما يتركك على رغمك في آنِ سرورك بحصوله؟

فإنْ كنت فطناً عاقلاً فلا تهتمّ ولا تغتم، واترك ما لا يقتدرُ أن يرافقَك في سفر الأبد والخلود، بل يضمحل ويفنى تحت مصادمات الدنيا وانقلاباتها، وتحت تطورات البرزخ، وتحت انفلاقات الآخرة.

ألا ترى أن فيك لطيفةً لا ترضى إلّا بالأبد والأبدي، ولا تتوجه إلّا إلى ذلك الخالد، ولا تتنزل لما سواه؟ حتى إذا ما أُعطيت لها الدنيا كُلها، فلا تُطَمْأن تلك الحاجة الفطرية.. تلك هي سلطانُ لطائفك ومشاعرك.. فأَطِعْ سلطان لطائفك المطيع لأمر فاطره الحكيم جلّ جلاله، وانجُ بنفسك..

المذكِّرة الثانية

لقد رأيت في رؤيا صادقةٍ ذات حقيقة، أَنني أُخاطب الناس: أيها الإنسان! إنَّ من دساتير القرآن الكريم وأحكامه الثابتة: أن لا تحسبنَّ ما سوى الله تعالى أعظم منك فترفعَه إلى مرتبة العبادة، ولا تحسَبنَّ أنك أعظم من شيء من الأشياء بحيث تتكبّر عليه. إذ يتساوى ما سواه تعالى في البعد عن «المعبودية» وفي نسبة المخلوقية.

المذكِّرة الثالثة

اعلم أَيها السعيد الغافل! أنك ترى الدنيا الزائلة سريعاً، كأَنها دائمةٌ لا تموت، فعندما تنظر إلى ما حولك من الآفاق وتراها ثابتةً مستمرةً -إلى حدٍ ما- نوعاً وجملةً، ومن ثم ترجع بالمنظار نفسِه فتنظر إلى نفسك الفانية، تظنّها ثابتةً أيضاً. وعندها لا تندهش إلّا من هَول القيامة، وكأنك تدوم إلى أن تقوم الساعة!.

عُدْ إلى رشدك، فأنت ودنياك الخاصة بك معرّضان في كلّ آن إلى ضربات الزوال والفناء.. إن مَثَلَكَ في خطأ شعورك وغَلَط حسِّك هذا، يشبه مَن في يده مرآةٌ تواجه قصراً أو بلداً أو حديقةً، وترتسم الصورة المثاليةُ للقصر أو البلد أو الحديقة فيها، فإذا ما تحركت المرآة أَدنى حركة، وتغيرت أَقلّ تغيّر، فسيحدث الهرجُ والمرج في تلك الصورة المثالية، فلا يفيدُك بَعدُ البقاءُ والدوام الخارجيان في نفس القصر أو البلد أو الحديقة، إذ ليس لك منها إلّا ما تعطيك مرآتُك بمقياسها وميزانها.

فاعلم أَنَّ حياتك وعمرَك مرآة! وأنها عمادُ دنياك وسندها ومرآتها ومركزها. فتأمل في مرآتك، وإمكان موتها، وخرابِ ما فيها في كل دقيقة، فهي في وضع كأَنَّ قيامتَك ستقوم في كل دقيقة. فما دام الأمر هكذا فلا تُحمِّل حياتَك ودنياك ما لا طاقةَ لهما به.

المذكِّرة الرابعة

اعلم أن من سُنَّة الفاطر الحكيم -في الأكثر- ومن عاداته الجارية إعادةُ ما له أهمية وقيمة غالية بعينه لا بمثله. فعندما يجدد أكثرَ الأشياء بمثلها عند تبدل الفصول وتغيرّ العصور، يُعيد تلك الأشياء الثمينة بعينها. فانظر إلى الحشر اليومي -أي الذي يتم في كل يوم- وإلى الحشر السنوي، وإلى الحشر العصري، ترَ هذه القاعدة المطّردة واضحةً جلية في الكل. وبناء على هذه القاعدة الثابتة نقول:

قد اتفقت الفنونُ وشهدت العلومُ على أَنَّ الإنسان هو أَكملُ ثمرةٍ في شجرة الخليقة، وأَنَّه أَهم مخلوق بين المخلوقات، وأَغلى موجود بين الموجودات، وأَنَّ فرداً منه بمثابة نوع من سائر الأحياء، لذا يُحكم بالحدس القطعي على أَنَّ كلَّ فردٍ من أفراد البشر سيُعاد في الحشر الأَعظم والنشر الأَكبر بعينِه وجسمهِ واسمهِ ورسمهِ.