[ما يستحق الفضول والاهتمام]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

ذُكر في المسألة الرابعة من رسالة الثمرة ما ملخصه:

إن سبب عدم تدخلي في الشؤون السياسية الدائرة في الأرض، هو أن وظيفة الإنسان ومهمته في تلك الدائرة الواسعة قليلة وصغيرة إلّا أنها تثير الفضول لدى المهتمين بها والمتلهفين إلى تتبع الأحداث. حتى إن الاهتمام بتلك الوظائف الثانوية تُنسيهم وظائفَهم الحقيقية الجليلة أو تدعها ناقصة مبتورة، فضلا عن أنها تورث الانحياز والميل إلى إحدى الجهات، وعندها لا يجد المرء بأسا من ظلم الظالمين في الجهة التي انحاز إليها، بل قد يرتاح إليه. فيكون عندئذٍ مشاركا لهم في الإثم.

فيا أيها الشقاة الذين يتلذذون من الغفلة المسكرة الناشئة من متابعة الحوادث الخارجية نتيجة الفضول والاهتمام!

لو كان الفضول والاهتمام وحب الاستطلاع المغروز في فطرة الإنسان هو الذي يدفعكم -من حيث الإنسانية- إلى هذا التتبع والاهتمام، وعلى حساب الوظائف الجليلة الضرورية المفروضة. نعم، لو قلتم: إن هذه أيضا حاجة فطرية معنوية. فأنا أقول:

كما أن الإنسان يُثار لديه الفضول وحب الاستطلاع عندما يشاهد إنسانا ذا رأسين أو ذا ثلاثة أرجل، بينما لا يهتم بخلق الإنسان السوي الحافل بالمعجزات ولا يُنعِم النظر فيه؛

كذلك الحوادث الجارية في البشرية تلفت نظرَ الإنسان إليها حيث تغطي مساحة واسعة من الأخبار، بينما هي حوادث فانية موقتة بل مدمّرة في هذا العصر. علما أن هناك مائة ألف أمة وأمة من أمثال نوع البشر تعيش معه على سطح الأرض. فلو راقبنا مثلا أمةً واحدة منها في فصل الربيع ولتكن النحل أو العنب لرأينا أنفسنا أمام معجزات عظيمة جدا تستحق أن تُلفت إليها الأنظارُ أكثر مما تستحقه تلك الحوادثُ البشرية بأضعافِ أضعافِ المرات. بل هي تُحرِّك الفضولَ والاهتمامَ -لدى إنعام النظر فيها- وتورث الإنسانَ لذائذ روحية وأذواقا معنوية.

لذا فليس صحيحا ألّا يُعبأ بتلك اللذائذ المعنوية الحقيقية وأن تُترك، وأن تُلتفَت إلى حوادث بشرية مضرة شريرة عرَضية غير أصيلة، ومن ثم يلصق بها عقلا وروحًا، ويبذل الاهتمام البالغ بها.

نعم، لا يصح ذلك قطعا إلّا إذا كانت الدنيا خالدة أبدية، وتلك الحوادث دائمة مستمرة، والضر والنفع يأتيان منها، والقائمون بها لهم القدرة على الإيجاد والخلق.. والحال أن تلك الحالات حالات طارئة مضطربة عابرة كهبوب الرياح، وتأثير المسبّبين فيها تأثير عرضي غير حقيقي فضلا عن أنه جزئي. أما منافعها وأضرارها فلا تأتي من الشرق ولا من البحر المحيط، بل ممن هو أقرب إليك من حبل الوريد، وممن يحول بين المرء وقلبه، وممن يربّيك ويدبر شؤونك.. ذلك الرب الجليل.. أليس من البلاهة ألّا تهتم بربوبيته وحكمته؟

وإذا ما نظرنا إلى المسألة من زاوية الإيمان والحقيقة رأينا أن اهتماماتٍ من هذا القبيل تولد أضرارا جسيمة، إذ تدفع الإنسان إلى ميدان فسيح لا ضوابطَ له حتى تورثه الغفلة فتغرقه في أمور الدنيا وتنسيه واجباته الحقيقية نحو الآخرة.

ولا شك أن أوسع دائرة من تلك الدوائر الواسعة هي السياسة وأحداثها. ولاسيما الحوادث العامة كالحرب، فإنها تغرق القلب في الغفلة بل تخنقه خنقًا، حتى لا يمكن إنقاذه إلّا بإيمانٍ ساطع كالشمس يَقدر على مشاهدةِ أثرِ القَدَر الإلهي والقدرة الربانية في كل شيء، في كل حال، في كل حركة وسكون، كي لا يغرق القلب في ظلام دامس من الظلمات ولا ينطفئ نورُ الإيمان الوهاج ولا يزل العقل إلى مفهوم الطبيعة والمصادفة.

ومن هنا نرى أن أرباب الحقيقة يحاولون تناسي دائرة الكثرة بلوغا إلى الحقيقة ووجدان طريقٍ إلى معرفة الله. وذلك لئلا يتشتت القلبُ والاهتمام والذوق والشوق، وليصرفوها جميعا إلى ما يلزم لا إلى ما لا يلزم من الفانيات.

ومن هذا السر الدقيق لا يكون قسمٌ من السياسيين -على الأغلب- على تقوى كاملة، ولا يكون الذين هم على تقوى وصلاح تام سياسيين، ما خلا الصحابة الكرام وأمثالهم من المجاهدين من السلف الصالحين. بمعنى أن الذين اتخذوا السياسة هدفا لهم يأتي الدين لديهم في المرتبة الثانية ويكون حكمُه حكمَ التابع. أما المتديّن حق التدين فيرى العبودية لله تعالى أعظم غايته في الكون، فلا ينظر إلى السياسة نظرَ العاشق الولهان، بل ينظر إليها -حسب مرحلتها- في المرتبة الثانية والثالثة ويستطيع أن يجعلها أداة طيعة للدين والحقيقة. إذ بخلافه يهوّن من قيمة الألماس الثمينة إلى قطع زجاجية تافهة.

حاصل الكلام: كما أن السُكْر يولّد لذة مشؤومة، ولفترة قصيرة حيث ينسي السكران الآلام الناشئة من عدم أدائه الوظائف الحقيقية والحاجات الضرورية، كذلك الاهتمام الجادّ بهذه المعارك والحروب الطاحنة والحوادث الفانية هو نوع من السُكر بحيث ينسي الإنسانَ حاجته إلى المهمات الحقيقية والآلام الناشئة من جراء القيام بها، ينسيه موقتا، مانحا لذة مشؤومة، أو يقذف به في يأس مدمّر مخالفًا للأمر الإلهي في قوله تعالى: ﴿لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّٰهِ (الزمر:53) وعند ذاك يكون ممن يستحق التأديب والعقاب بالزجر الإلهي الشديد: ﴿وَلَا تَرْكَنُٓوا اِلَى الَّذينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ (هود:113) وذلك لمشاركته طوعا وضمنا في ظلم الظالمين. فينال جزاءه الذي يستحقه في الدنيا والآخرة.

* * *

[إنقاذ الإيمان أعظم إحسان في هذا الزمان]

إخوتي الأعزاء الصادقين!

إن أعظم إحسان أعدّه في هذا الزمان وأجلّ وظيفة، هو إنقاذ الإنسان لإيمانه والسعي لإمداد إيمان الآخرين بالقوة. فاحذر يا أخي الأنانية والغرور، وتجنَّب من كل ما يؤدي إليهما، بل ينبغي لأهل الحقيقة في هذا الزمان نكران الذات، ونبذ الغرور والأنانية، وهذا هو الألزم لهم، لأن أعظم خطر يتأتى في هذا العصر، إنما يتأتي من الأنانية والسمعة، فعلى كل فرد من أفراد أهل الحق والحقيقة أن ينظر إلى تقصيرات نفسه ويتهمها دائماً ويتحلى بالتواضع التام.

إنه لمقام عظيم حفاظُكم ببطولة فائقة على إيمانكم وعبوديتكم لله، تحت هذه الظروف القاسية.

نعم، إن رسائل النور لم تنهزم تجاه جميع الهجمات الشرسة في هذا العصر، بل أرغمتْ رسمياً أعتى المعاندين لها على قبول نشرها. حتى إنه منذ سنتين وبعد إجراء التدقيقات صدّق المسؤولون الكبار وذوو المناصب الرفيعة في وزارة العدل على إطلاق حرية نشر رسائل النور فأعادوا الرسائل العامة والخاصة لأصحابها.

إن مما يُثبت أن رسائل النور معجزة معنوية للقرآن الكريم في هذا العصر هو عدم انهزام مسلك رسائل النور -كسائر المسالك والطرق الصوفية- بل انتصاره وإدخاله الكثيرين من أهل العناد إلى حظيرة الإسلام، والشهود على ذلك حوادث كثيرة جداً. ولقد أقنعتنا الحوادثُ أنه لن تكون خدمة الدين خارجَ دائرة رسائل النور خدمةً كاملة -في الأغلب في هذه البلاد- حيث هو عمل خاص جزئي وحيد وشخصي أو مستتر منهزم، أو متساهل مع البدع ضمن تحريفات بتأويلات فاسدة.

ما دمتَ يا أخي تملك همة عالية وقوة راسخة من الإيمان، فكن طالباً لرسائل النور واستمسك بها بإخلاص تام وتواضع تام وثبات تام. كي تشارك في المغانم الأخروية لألوف بل مئات الألوف من الطلاب، وذلك على وفق دستور الاشتراك المعنوي الأخروي في الأعمال. وبهذا تتحول حسناتك وخيراتك إلى حسنات وخيرات كلية جماعية تكسبك تجارة رابحة في الآخرة بعد أن كانت حسنات جزئية فردية.

* * *

[ما يدفع إلى استنساخ الرسائل]

إخوتي الأعزاء الصديقين!

اطّلعتُ اليوم على مجموعة تضم أجزاءَ من الرسائل التي استنسخها أطفالٌ أبرياء وشيوخ كهول، وذلك ضمن المجموعات المعادة إليّ من قِبَل المحكمة بعد إجراء التدقيقات عليها لمدة سنتين.

وبمشاهدتي هذه المجموعة الخالصة النـزيهة اقتنعتُ بأن هذه المجموعة المستنسَخة من قِبَل الأبرياء من الأميين صدا لشبهات الفلاسفة والضالين أعظمُ وسيلة للنصر والظهور على العنيدين وإرغام غير المنصفين إلى الإنصاف.

وقد جمعنا هذه المجموعاتِ والأجزاء المستنسخة من قبل الأميين في مجلدات ثلاثة.

إن في رسائل النور أذواقا معنوية وأنوارا جذابة وسرورا بالغا يحمل الصغار والكبار على الانكباب على الاستنساخ اليدوي بحيث يتغلب على جميع المبتكرات والوسائل الحديثة لحث الصغار على القراءة وسَوقهم إليها.

وهذا يعني أن رسائل النور تترشح وتمدّ جذورها في الأعماق وستدوم في الأجيال المقبلة بحيث لا تتمكن أيةُ قوة كانت أن تجتثها بإذن الله.

وكما ضُمّتْ مستنسخاتُ هؤلاء الأطفال الأبرياء في مجلدات كذلك ضمت في مجلدات مستنسخاتُ أولئك الشيوخ الذين انضموا إلى دائرة رسائل النور وباشروا بتعلم القراءة والكتابة بعد تجاوزهم الأربعين من العمر.

فهؤلاء الشيوخ الأمّيون -وقسمٌ منهم رعاة وبدو رحّل- وفي هذه الظروف العصيبة يفضلون السعي لرسائل النور، ويسعون في خدمة الإيمان بشوق رغم جميع المضايقات، مما يُظهر بوضوح أن الحاجة إلى رسائل النور أكثر من الحاجة إلى الخبز حتى إن أهل الحصاد والفلاحين والرعاة والبدو يرون العمل لرسائل النور أولى من حاجاتهم الضرورية.

وعندما كنتُ أصحح ما استنسخه الصبيانُ والشيوخ وأنا أعاني من ضيق الوقت وَرَدَ على خاطري أنه لا داعي للضجر والضيق. فإن قراءة ما استنسخه هؤلاء تُرغم المسرعين في القراءة إلى التأني والتروي حتى يتمكن كلٌّ من العقل والقلب والروح والنفس والشعور من تناول حقائق رسائل النور التي هي في حكم الغذاء والطعام. وبخلافه فإن القراءة السريعة تجعل العقل وحده آخذا حظَّه، بينما تظل الأخريات دون غذاء.

لذا ما ينبغي قراءة رسائل النور كسائر العلوم والكتب، لأن ما فيها من علوم الإيمان التحقيقي لا يشبه العلوم والمعارف الأخرى، فهي نورٌ وقوة ممدّة لكثير من اللطائف الإنسانية فضلا عن العقل.

حاصل الكلام: هناك فائدتان في الكتابة الناقصة لأولئك الأبرياء والشيوخ الأميين:

أولاها: تلجئ القارئ إلى التأني والملاحظة الدقيقة.

ثانيتها: تدفع إلى تلقّي الدروس بإعجاب بمسائل رسائل النور الدقيقة اللطيفة اللذيذة والاستماع إليها من تلك الألسنة الطيبة الخالصة البريئة.

الباقي هو الباقي

أخوكم

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[ممن تلقيتُ درس الحقيقة؟]

إن حسـن ظنكم المفرط نـحـوي هـو فـوق حدّي بكثير فلا أستطيع قبـوله إلّا أن يكون باسـم شخص رسائل النور المعنوي، وإلّا فليس من حدّي وطوقي أن أُظهر مزايا تلك المقامات الرفيعة. ثم إن مسلك رسائل النور ليس مسـلك الطرق الصوفية بل هو مسلك الحقيقة، فهو مسلك مقتبس من نور مسلك الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

إن هذا الزمان ليس زمان الطريقة الصوفية بل زمان إنقاذ الإيمان. ولله الحمد فإن رسائل النور قد أنجزت وما تزال تنجز هذه المهمة وفي أصعب الظروف. إن دائرة رسائل النور في هذا الزمان هي دائرة طلاب الإمام علي والحسن والحسين والشيخ الكيلاني رضوان الله عليهم أجمعين.. إذ تلقيتُ درس الحقيقة -على طريقة أويس القرني- مباشرةً من الإمام علي رضي الله عنه بوساطة الشيخ الكيلاني قدس سره والإمام زين العابدين والحسن والحسين رضي الله عنهم، لذا فإن دائرة عملنا وخدماتنا هي دائرتهم.

ثم إنني أعترف بأني لا أستحق -بأي وجه من الوجوه- ذلك المقام الرفيع الذي يمنحني إخوتي لأتملك هذا الأثر المقبول القيم. ولكنّ خلقَ شجرة باسقة ضخمة من بذرة صغيرة جداً هو من شأن القدرة الإلهية ومن سنته الجارية وهو دليل على عظمتها. وأنا أُطَمْئِنُكم مقسِما بالله أن قصدي من الثناء على رسائل النور إنما هو تأييد حقائق القرآن وإثبات أركان الإيمان ونشرها. وإنني أشكر ربي الرحيم شكراً لا منتهى له، على أنه لم يجعلني أعجب بنفسي قط، وأنه أظهرَ لي عيوب نفسي وتقصيراتي حتى لم تبق لي أية رغبة في إظهار تلك النفس إلى الآخرين.

نعم، إن من كان واقفاً على شفير القبر، لا ينظر إلى الدنيا الفانية التي تركها وراء ظهره، وإذا ما نظر إليها فهو حماقة يرثى لها وخسارة فادحة.

اللّهم احفظنا من مثل هذه الخسائر آمين.

تحياتنا إلى جميع الإخوة فرداً فرداً مقرونة بالدعاء لهم راجين دعواتهم.

* * *

[الحقيقة الخالدة لا تُبنى على فانين]

إنه يَسأل هذه المرة عن حقيقة جليلة هي فوق حدّي ومنـزلتي بألف درجة يسألها استنادا إلى حسن ظنه المفرط. إنه يريد أن ينظر إليّ من زاوية الوظيفة الجليلة السامية للشخص المعنوي لـرسائل النور ومن زاوية إحدى الوظائف الرفيعة السامية لخلافة النبوة، لرؤيته شعاعا منها في شخصي الاعتيادي من حيث كوني أستاذه، فيحاول أن ينظر إلى شخصي الاعتيادي من زاوية تلك الوظيفة المقدسة، فيريد أن يراني مظهرا لتلك الخلافة المعنوية!.

أولاً: إن حقيقة خالدة دائمة لا تبنى على أشخاص فانين زائلين. ولو بنيت عليهم لنجم ظلم وإجحاف شديدان، إذ المهمة التي لها الدوام والكمال من كل جانب لا تربط بأشخاص معرَّضين للفناء، ومبتَلين بالإهانات. فإن رُبط الأمر بهم، تُصَبْ المهمة نفسها بضرر بالغ.

ثانياً: إن رسائل النور ليست نابعة من بنات أفكار المؤلف أو بلسان حاجته الروحية بفيض من القرآن الكريم، فهي ليست فيوضات متوجهة إلى حاجة المؤلف واستعداده وحده، بل هي أيضاً نابعة من طلب مخاطبي ذلك المؤلف وزملائه في درس القرآن الأفاضل الخالصين الصادقين الصلبين، وسؤالِهم -روحاً- تلك الفيوضاتِ وقبولها والتصديق بها وتطبيقها. فهي مستفاضة من القرآن الكريم من هذه الجهات وأمثالِها من جهات كثيرة أخرى. فهي فيوضات تفوق كثيراً استعدادَ المؤلف وقابليته. فكما أن أولئك المخاطبين أصبحوا السبب في ظهور رسائل النور، كذلك هم الذين يشكلون حقيقة الشخص المعنوي لرسائل النور وطلابها. أما المؤلف فله حصة من تلك الحقيقة، وقد يكون له حظ شرف السبق إن لم يُفسده بعدم الإخلاص.

ثالثاً: إن هذا الزمان زمن الجماعة، فلو بلغ دهاء الأشخاص فرداً فرداً حد الخوارق، فلربما يُغلب تجاه الدهاء الناشئ من شخص الجماعة المعنوي. لذا أقول كما كتب ذلك الأخ الكريم: إن مهمة إيمانية جليلة بحيث تنور عالم الإسلام من جهة وناشئة من أنوار دهاء قدسي، لا تحمّل على كاهل شخص واحد ضعيف مغلوب ظاهراً، يتربص به أعداء لا يُعدّون وخصماء ألدّاء يحاولون التنقيص من شأنه بالإهانات. فلو حُمّلت، وتزعزع ذلك الشخص العاجز تحت ضربات إهانة أعدائه الشديدة، لسقط الحمل وتبعثر.

* * *

[حاجة أهل الإيمان إلى حقيقة نزيهة]

إخوتي الأعزاء الصديقين الثابتين المخلصين!

سؤال في منتهى الأهمية، يسألنيه من له علاقة بي، ويرد في نفسي أيضاً، فهو سؤال معنوي ومادي في الوقت نفسه. وهو:

لِمَ تقوم بما لم يقم به أحد من الناس، ولمَ لا تلتفت إلى قوىً على جانب عظيم من الأهمية، تستطيع أن تعينك في أمورك، فتخالف جميع الناس. بل تظهر استغناءً عنهم؟.

ثم لِمَ ترفض بشدةٍ مقاماتٍ معنوية رفيعة يجدك طلابُ النور الخواص أهلاً لها، فتتجنبها بقوة في حين يتمناها الناس ويطلبونها، فضلاً عن أنها ستقدم خدمات جليلة في سبيل نشر رسائل النور وتمهد السبيل لفتوحاتها؟

الجواب: إن أهل الإيمان -في الوقت الحاضر- محتاجون أشد الحاجة إلى حقيقة جليلة نزيهة بحيث لا يمكن أن تكون وسيلة للوصول إلى شئ، ولا تابعة لأي شيء كان، ولا سلماً للوصول إلى مآرب أخرى، ولا يتمكن أي غرض أو أي قصد كان من أن يلوثها، ولا تتمكن الفلسفة أو الشبهات أن تنال منها. فالمؤمنون محتاجون إلى مثل هذه الحقيقة النـزيهة لتُرشدَهم إلى حقائق الإيمان، حفاظاً على إيمان المؤمنين في هذا العصر الذي اشتدت فيه صولة الضلالة التي تراكمت شبهاتها منذ ألف سنة.

فانطلاقاً من هذه النقطة فإن رسائل النور لا تعبأ بالذين يَمدّون لها يد المعاونة سواءً من داخل البلاد أو خارجها ولا تهتم بما يملكونه من قوى ذات أهمية بل ولا تبحث عنهم ولا تتبعهم. وذلك لكي لا تكون في نظر المسلمين عامة وسيلةً للوصول إلى غايات دنيوية ولن تكون إلّا وسيلة خالصة للحياة الخالدة الباقية. لذا فهي بحقيقتها الخارقة وبقوتها الفائقة تتمكن من إزالة الشبهات والريوب المهاجمة على الإيمان.

سؤال: أما المقامات النورانية والمراتب الأخروية التي هي درجات معنوية مقبولة لدى أهل الحقيقة قاطبة بل يرغبون فيها، ولا ضرر منها، وقد منحها لك إخواننا المخلصون بما يحملون نحوك من حسن الظن، وهي لا تُلحق ضرراً بإخلاصك -حتى لو قبلتها لا يرفضون قبولك لكثرة ما لديهم من حجج وبراهين عليها- إلّا أنك ترفض تلك المقامات بغضب وحدّة لا تواضعاً أو تجرداً وترفعاً منك، بل حتى تجرح مشاعر إخوانك الذين منحوك تلك المقامات، فتتجنبها بشدة..! فلماذا؟

الجواب: كما أن شخصاً غيوراً يضحِّي بنفسه إنقاذاً لحياة أصدقائه، كذلك -لأجل الحفاظ على الحياة الأبدية للمؤمنين من صولة أعداء خطرين أضحي -إذا لزم الأمر وهو يلزم- لا بتلك المقامات التي لا أستحقها، بل أيضاً بمقامات حقيقية لحياة أبدية. ذلك ما تعلمته من رسائل النور، ألاَ وهو الشفقة على الخلق.

نعم، إن الأمر يقتضي هكذا في كل وقت، ولا سيما في هذا الوقت، وبخاصة عند استيلاء الغفلة التي أنشأتها الضلالة، في خضم هيمنة التيارات السياسية والآراء الفلسفية، وفي عصر كعصرنا هذا الذي هاج فيه الغرور والإعجاب بالنفس، يحاول ذوو المناصب الكبيرة دائماً أن يجعلوا لهم كل شيء أداة طيعة، ويستغلون كل وسيلة في سبيل غاياتها، حتى إنهم يجعلون مقدساتها وسيلة لبلوغ مناصب دنيوية. ولئن كانت هناك مقامات معنوية فهي تُستغل استغلالاً أكثر، وتُتخذ وسيلة أكثر طواعية من غيرها؛ لذا يظل دوماً تحت ظل الاتهام، إذ يقول العوام: إنه يجعل خدمات مقدسة وحقائق سامية وسائل وسلالم لبلوغ مآربه، حفاظاً على نفسه أمام نظر الناس، ولكي يبدو أنه أهل لتلك المقامات.

وهكذا، فلئن كان قبول المقامات المعنوية يفيد الشخص والمقام فائدة واحدة فإنه يلحق ألف ضرر وضرر بالناس عامة وبالحقائق نفسها بما يصيبها من كساد بسبب الشبهات الواردة.

حاصل الكلام: إن حقيقة الإخلاص تمنعني عن كل ما يمكن أن يكون وسيلة إلى كسب شهرة لبلوغ مراتب مادية ومعنوية.

نعم، إنه على الرغم من أن هذا يؤثر تأثيراً سيئاً في خدمة النور، إلّا أنني أرى أن إرشاد عشرة من الناس إرشادَ خادمٍ لحقائق الإيمان إرشاداً خالصاً حقيقياً وتعليمَهم أن حقائق الإيمان تفوق كل شيء، أهمُّ من إرشاد ألف من الناس بقطبية عظيمة، لأن النوعية تفضل على الكمية، ولأن أولئك الرجال العشرة يرون تلك الحقائق أسمى من أي شيء آخر. فيَثبتون، ويمكن أن تتنامى قلوبهم التي هي في حكم البذرة إلى شجرة باسقة. أما أولئك الألوف فإنهم بسبب ورود الشبهات المقبلة من أهل الدنيا والفلسفةِ وهجومها عليهم، ربما يتفرقون من حول ذلك القطب العظيم، إذ ينظرون إليه أنه يتكلم من زاوية نظره الخاصة، ومن مقامه الخاص ومن مشاعره الخاصة!

لذا أرجّح الاتصاف بالخدمة، على نيل المقامات. حتى إنني قلقتُ ودعوت الله ألّا يصيب شيء -في هذه المرة- ذلك الشخصَ المعروف الذي أهانني بغير وجه قانوني، وبخمسة وجوه من أوجه الإهانة والتحقير، وفي أيام العيد، تنفيذاً لخطط وضعها أعدائي. حيث إن المسألة انتشرت بين الناس، فخشيت أن يمنحوني مقاماً، فلربما يعدّون حدوث شيء ما نتيجة كرامةٍ خارقةٍ. لذا قلت: «يارب أصلح شأن هذا، أو جازه بما يستحقه من دون أن يكون عقاباً يومئ إلى كرامة معنوية».

* * *

إلى السيد مدير الأمن العام في أنقرة

إن كنت تريد أن تقابل شخصا ضعيفا قاسى -بصورة غير رسمية- السجنَ المنفرد والعزل التام طوال عشرين سنة ولاقى من العنت والضيق ما لا نظير له، ثم آثر السكوت رغم كل ذلك.. فإن كنت تريد مقابلته مقابلة حقيقية جادة -وليست مقابلة رسمية- فها أنا أتكلم معكم قليلا.

أولا: بعد التدقيقات التي أجرَتها محكمتان ودامت طوال سنتين حول مؤلفاتي وكتاباتي التي استغرقت عشرين سنة من حياتي، لم يستطيعوا أن يعثروا على أية مادة تمس الإدارة ونظام البلاد. وهي غير موجودة أصلا، والدليل القاطع والحجة التي لا تُجرح على ذلك إعادتهم جميع الرسائل الخاصة منها والعامة.

أما حياتي السابقة لعشرين سنة التي خلت، فأفضلُ دليل على أنها مضت بتضحية وفداء في سبيل هذه الأمة والبلاد هو تقدير القائد العام الذي كنت أزاول قيادة «الأنصار» المتطوعين تحت رعايته، في الحرب العالمية الأولى.. وتقديرُ الرؤساء في أنقرة لخدماتي في حرب الاستقلال.. وترحيبُ النواب في مجلس الأمة بي في أثناء قدومي إليهم.. بمعنى أن التعذيب الذي لاقيتُه طوال هذه السنوات العشرين كان معاملةً غير قانونية البتة. وهي معاملة اعتباطية صِرفة. فلقد أمضيتُ أربعين عيدا مباركا طوال السنوات العشرين وأنا وحيد فريد…

والآن قد بلغ السيل الزبى، فلا تحملوني على النظر إلى الدنيا وأنا على شفير القبر.

ثم إنكم لكونكم تشغلون منصب مدير الأمن العام ينبغي لكم أن تتعاطفوا مع خدماتي. لأنه كما ثبت في المحاكم، أن دروس رسائل النور، عندما تتطلّع على الدنيا، فإنها تُرشد طلابها إلى الحفاظ على النظام بكل ما أوتوا من قوة والحيلولةِ دون تَسَرُّب فسادِ الثورات والفوضى فيه، والدليل على أنهم في حكم ضباطِ أمن معنويين قد أدركه ضباطِ الأمن في ثلاث ولايات.

ولقد علمتُ في الآونة الأخيرة أن كثرة تخويف الموظفين الناسَ من مقابلتي، إنما كان للتهوين من إقبال الناس عليّ وتوجههم نحوي، بما هو فوق حدّي بكثير، وبما لا أستحقه من مقام. فأنا أبين لكم بيانا قاطعا، مثلما كتبتُه لإخوتي الخواص في مكاتيب خاصة: أنني لا أقبل توجّه الناس لشخصي وإقبالَهم عليّ وأرفُضه رفضا باتا، وذلك لمنافاته مسلكنا وإخلاصنا. حتى إنني جرحتُ شعور كثير من إخوتي الخواص في هذه الناحية. إلّا أنني كتبتُ -في المؤلفات- الإخباراتِ المستقبليةَ التي قبلتُها للأفاضل الذين بيّنوا قدر رسائل النور وأهميتها، والتي هي تفسّر القرآن الحكيم تفسيرا حقيقيا. وأثبتُّ أنني خادم بسيط ليس إلّا. ولو افتُرض -فرضا محالا- أنني مِلتُ إلى هذا الإقبال من الناس، فإن هذا التوجّه سيخدم استتباب النظام، وستصيبكم فائدته أيضا كما تصيب أمثالكم من المسؤولين عن النظام.

فما دام الموت لا يُقتل، فهو إذن مسألة جليلة أعظم من الحياة نفسها. بينما تسعون بالمائة من الناس يسعون للحصول على السلامة في هذه الحياة، أما نحن طلابَ رسائل النور، فنجاهد الهجمة القوية للموت التي ستصيب كلَّ أحد من الناس. فلله الحمد والمنة فقد استطاعت رسائل النور حتى الآن تحويل الإعدام الأبدي للموت لمئات الألوف من الناس، إلى تذكرةِ تسريحٍ. ونستطيع إبراز مئات الألوف من الشاهدين على ذلك.

فبينما ينبغي لكم ولأمثالكم من محبي الأمة والوطن أن يشجعونا ويحثونا -من زاوية هذه الحقيقة- فإنّ وَضْعَنا تحت الاتهامات جريا وراء الأوهام والشبهات، ومن ثم إزعاجنا بالترصد والمراقبة المستديمة، كم هو بعيدٌ عن الإنصاف والحمية.. هذا ما نحيله إلى إنصافكم.

سعيد النُّورْسِيّ

المسجون في السجن المنفرد بصورة غير رسمية

* * *

[إلى مدير الأمن لولاية أفيوُن]

ثقةً مني بوجدانكم وإنسانيتكم أبيّن لكم أموري الخاصة جدا. فأنتم مرتبطون بنا بروابط كثيرة بحكم وظيفتكم، حيث لم تقع أيةُ حادثة تخل بالنظام، من قِبَل مئات الألوف من طلاب رسائل النور وفي مدى عشرين سنة. والدليل على هذا اعتراف كثيرٍ من ضباط الأمن بذلك، وعدمُ تسجيلهم أي شيء ضدّنا.

سمعتُ من صبي بمجيء مدير الأمن العام إلى هنا، فقلت لاشك أنه سيستفسر عن حالي. فكتبت له شيئا عوضا عن التحدث معه حيث أُعاني من الأمراض. ولكن إذا بي أسمع فجأة أنه غادر المدينة. لذا أرسلُ إليكم طي رسالتي هذه ما كتبتُه للمدير العام، فإذا ارتأتيم أرسلوه إليه كمعلومات.

إنني لا أعلم من أمور الدنيا لعدم ملاقاتي أحدا من الناس، فلا أحد لي هنا غيرك كي أستشيره في الأمر.

والمسألة التي تخص شخصي بالذات ليست ذات أهمية، فهي جزئية، إلّا أن المسألة التي تخص رسائل النور لها أهميتها بالنسبة لهذه الأمة والوطن.

إنني أبلغكم قطعا بقناعتي الجازمة الناشئة من أمارات كثيرة: أن هذه البلاد وهذه الأمة والحكومة ستكون في أقرب وقت بحاجة إلى مؤلفات من أمثال رسائل النور حاجةً ماسة تجاه العالم الإسلامي وتجاه الدنيا بأسرها. وستبين وجودها وكرامتها ومفاخرها التاريخية بإبراز هذه المؤلفات.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *