﴿وَبَشِّرِ الَّذينَ اٰمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ اَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الْاَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هٰذَا الَّذي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَاُتُوا بِه مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فيهَٓا اَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فيهَا خَالِدُونَ ﴿25﴾﴾

فاعلم أن نظم هذه الآية كأخواتها بثلاثة وجوه: نظمُ المجموع بما قبله، والجُمَل بعضها مع بعض، والهيئاتِ.

أما الأول: فاعلم أن لمآلها ارتباطاتٍ متفاوتة مع الآيات السابقة، وخطوطاً ممتدة بالاختلاف إلى الجمل السالفة. ألا ترى أن القرآنَ لمّا أثنى في رأس السورة على نفسه وعلى المؤمنين بالإيمان والعمل الصالح كيف أشار بهذه الآية إلى نتيجةِ الإيمان وثمرةِ العمل الصالح.

وكذا لمّا ذمَّ الكفار وشنَّع على المنافقين وبيَّن طريقهم المنجَرّ إلى الشقاوة الأبدية لوّح بهذه الآية إلى نور السعادة الأبدية، فأراهم ليزيدوا حَسرةً على حَسرة بفوات هذه النعمة العظمى.. ثم لما كلّف بـ ﴿يَٓا اَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا﴾ -مع أن في التكليف مشقّة وكُلفة وترْكَ اللذائذ العاجلة- فتَحَ لهم أبواب الآجلة، فأراهم بهذه الآية تطميناً لنفوسهم وتأميناً لهم.

ثم لما أثبت التوحيد -الذي هو أول أركان الإيمان؛ الذي هو أساس التكليف- صرّح في هذه الآية بثمرة التوحيد وعنوانِ الرحمة وديباجةِ الرضاء بإراءة الجنة والسعادة الأبدية.

ثم لما أثبت النبوّةَ -ثانيةَ أركانِ الإيمان- بالإعجاز بقوله: ﴿وَاِنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ…﴾ الخ، أشار بهذه مع المطويِّ قبلَها إلى وظيفة النبوّة ومكلّفية النبيّ وهي الإِنذار والتبشير بلسان القرآن.

ثم لما أوعدَ وأرهَب وأنذر في سابقتها القريبة وعدَ ورغّب وبشّر بهذه الآية بسرِّ أن التضادّ مناسبة.. وأيضاً أن الذي يُطيِّع (حاشية) يطيّع، يطوع أي يجعلها مطيعة. النفسَ، ويديمُ الإطاعة ويصيّر الوجدانَ مطيعاً لحُكم العقل تهييجُ حسِّ الخوف وحسِّ الشوق معاً بجَمع الترغيب والترهيب؛ إذ حُكم العقل وأمرُه موقّت فلابد من وجود محرِّكٍ آمرٍ دائميٍّ في الوجدان.. وكذا لما أشار بالسابقة إلى أحد شقَّي الآخرة كمّل بهذه الآية الشقَّ الآخر وهو منبعُ السعادة الأبدية.. وكذا لما لوّح هناك بالنار إلى جهنم صرّح هنا بالجنة.

ثم اعلم أن الجنة وجهنم ثمرتان تدلّتا إلى الأبد من شجرة الخِلقة، ونتيجتان لسلسلة الكائنات، ومخزنان لانصباب الكائنات، وحوضان للكائنات الجارية إلى الأبد.

نعم، تتمخّض الكائناتُ وتختلط بحركة عنيفة فتتظاهر الجنةُ وجهنم فتمتلئان.

وإيضاحه: هو أن الله جلّ جلالُه لما أراد أن يُبدع عالَماً للابتلاء والامتحان لحِكَم كثيرةٍ تدِقُّ عن العقول، وأراد تغيير ذلك العالَم وتحوّلَه لحِكَم؛ مزجَ الشر بالخير وأدرجَ الضرَّ في النفع، وأدمجَ القُبح في الحُسن؛ فوصَلها بجهنم وأمدّها بها. وساق المحاسن والكمالات تتجلى في الجنة. وأيضاً لما أراد تجربةَ البشر ومسابقتهم، وأراد وجودَ اختلافات وتغيّراتٍ فيهم في دار الابتلاء خلَط الأشرار بالأبرار. ثم لما انقضى وقتُ التجربة وتعلّقت الإرادة بأبديتهم جعَل الأشرارَ مظهرَ خطابِ: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ اَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ (يس:59) وصيّر الأبرارَ مظهرَ تلطيفِ وتشريفِ: ﴿فَادْخُلُوهَا خَالِدينَ﴾ (الزمر:73). ولما امتاز النوعان تصفّت الكائناتُ فانسلّت مادةُ الضرّ والشر عن عنصر النفع والخير والكمال فاختارت جانباً.

والحاصل: أنه لو أُمعن النظر في الكائنات صودف فيها عنصران أساسان وعِرقان ممتدان إذا تحصّلا وتأبدا صارا جنةً وجهنم.

مقدمة

هذه الآية مع ما قبلها إشارة إلى القيامة والحشر، فمدار النظر في هذه المسألة أربع نقط:

إحداها: إمكانُ خراب العالم وموته.

والثانية: وقوعُه.

والثالثة: التعمير والإِحياء.

والرابعة: وقوعه.

أما إمكان موت الكائنات:

فاعلم أن الشيء الداخل تحت قانون التكامل ففيه نشوءٌ ونماء.. فله عمرٌ طبيعيّ.. فله أجَلٌ فطريّ؛ لا يخلص من حُكم الموت؛ بدليل استقراء أكثر أفراد الأنواع. فكما أن الإنسان عالَم صغير لا خلاص له من الخرابية؛ كذلك العالَم إنسانٌ كبير لامناص له من الموت البتة. وكما أن الشجر نسخةٌ من الكائنات يعقبها التخريبُ والانحلال؛ كذلك سلسلة الكائنات من شجرة الخلقة لا مناص لها من يد التخريب للتعمير. ولئن لم يَعرضْ عاصفة أو مرض خارجيّ بالإرادة الأزلية قبل العمر الفطريّ، ولم يخرّبها صانُعها قبلَه لَيَجئُ بالضرورة وعلى كل حال حتى بالحساب الفنّي يومٌ يتحقق فيه: ﴿اِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْۖ ﴿1﴾ وَاِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ﴾ (التكوير:1-2) و﴿اِذَا السَّمَٓاءُ انْشَقَّتْ﴾ (الانشقاق:1) فيتظاهر في الفضاء سكراتُ الإنسانِ الكبيرِ بخرخرة عجيبة وصوت هائل.

أما وقوعه:

فبإجماع كل الأديان السماوية، وبشهادة كلِّ فطرة سليمة، وبإشارةِ تغيّرِ وتبدّلِ وتحوّلِ الكائنات. وإن شئت أن تتصور سكراتِ العالم وخرخرته فاعلم أن الكائنات قد ارتبطت بنظام عُلويّ دقيق، واستمسكت بروابطَ عجيبة، فإذا صار جسمٌ من الأجرام العلوية مظهرَ خطاب «كُن» أو «اخْرُج عَنْ مِحْوركَ» ترى العالمَ يشرع في السكَرات، وترى النجومَ تتصادم، وتتلاطم الأجرامُ فترعد وتصيح في الفضاء الغير المتناهي، ويضرب بعضٌ وجهَ بعض، وترمي بشَرر كأرضنا هذه بل أكبر. فكيف أنت بخرخرةِ موتٍ صوتُها محصَّلُ ملايين مَرامي مدافعَ رصاصتُها الصغرى أكبر من الأرض؟.. فبهذا الموت تتمخض الخِلقةُ وتتميز الكائناتُ فتمتاز جهنمُ بعشيرتها ومادتها، وتتجلى الجنةُ جامعةً لطائفتها مستمدةً من عناصرها.

 فإن قلت: لِمَ كانت الكائنات مغيَّرة موقّتة تخرُب ثم تصير يوم القيامة مؤبَّدة مُحكَمةً ثابتة؟

قيل لك: إن الحكمة والعناية الأزليتين لما اقتضتا التجربة والابتلاء، والنشوءَ والنماء في الاستعدادات، وظهورَ القابليات، وظهورَ الحقائق النسبية التي تصير في الآخرة حقائقَ حقيقية، ووجودَ مراتبَ نسبيةٍ، وحِكم كثيرةٍ لا تدركها العقولُ؛ جعل الصانعُ جلّ جلالُه الطبائعَ مُختلطةً، والمضارّ ممزوجةً بالمنافع، والشرورَ متداخلةً بين الخير، والمقابحَ مجتمعة مع المحاسن، فخمّرتْ يدُ القدرة الأضدادَ تخميراً، فصيّرت الكائناتِ تابعةً لقانون التبدل والتغيّر والتحوّل والتكامل. فلمّا انسدّ ميدانُ الامتحان وانقضى وقتُ الابتلاء وجاء وقتُ الحصاد؛ أراد الصانعُ جلّ جلالُه بعنايته تصفيةَ الأضداد المختلطةِ للتأبيد، وتمييزَ أسبابِ التغيّر، وتفريقَ موادّ الاختلاف؛ فتحصل جهنمُ بجسم مُحكَم مَظهراً لخطابِ: ﴿وَامْتَازُوا﴾ وتجلى الجنةُ بجسم مؤبّدٍ مشيّد مع أساساتها.. بسرّ أن المناسبةَ شرطُ الانتظام، والنظامَ سببُ الدوام. ثم إنه تعالى أعطى بقدرته الكاملة لساكني هاتين الدارَين الأبديتين وجوداً مشيّداً لا سبيل للانحلال والتغيّر إليه، على أن التغيّر هنا المنجَر إلى الانقراض إنما هو بتفاوت النسبة بين التركيب وما يتحلل، وأما هناك فلِاستقرار النسبة يجوز التغيّرُ بلا انجرار إلى الانحلال.

وأما النقطة الثالثة والرابعة: أعني إمكان التعمير والحشر ووقوعه:

فاعلم أن التوحيد والنبّوة لمّا لم يصح إثباتهما بالدليل النقليّ فقط للزوم الدور أشار القرآنُ إلى الدلائل العقلية عليهما. أما الحشر فيجوز إثباته بالعقل والنقل:

أما العقليّ فراجعْ إلى ما بيّنا بقدر الطاقة في تفسيرِ ﴿وَبِالْاٰخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ حاصلُه: أن النظام والرحمة والنعمة إنما تكون نظاماً ورحمةً ونعمة إن جاء الحشرُ.. وأما النقليّ فقول كل الأنبياء مع حُكم القرآن المعجِز بوقوعه. وأما النقليّ مع الرمز للعقليّ فراجع هذا الموضع من تفسير فخر الدين الرازي فإنه عدّد الآيات المثبتة للحشر.

والحاصل: أنه ما من متأمل في نظائرِ وأشباهِ وأمثالِ الحشر في كثيرٍ من الأنواع إلّا ويتحدّس من تفاريق الأمارات إلى وجود الحشر الجسماني والسعادة الأبدية.

أما نظمُ جملها بعض مع بعض، فاعلم أن السلك الذي نُظّم فيه جواهرُ جُمل هذه الآية وسلسلتُها هي: أن السعادة الأبدية قسمان:

الأول الأَوْلى: رضاء الله تعالى وتلطيفه وتجلّيه وقُربيته.

والثاني: السعادة الجسمانية وهي بالمسكن والمأكل والمنكَح ومتمّمُها ومكمّلُها جميعاً هو الدوام والخلود.

ثم إن أقسام الأول مستغنيةٌ عن التفصيل أو غيرُ قابلة.

وأما أقسام الثاني: فالمسكن: ألطفُه ما يجري الماء بين نباتاته؛ ألا ترى أن مُلهِمَ الشعر ومُفيضَ العشق في القلوب إنما هو خشخشة الماء وخريرُه، وكشكشة الأنهار وصفيرُها تحت القصور وبين البساتين.

والمأكل: الرزق. ولأنه قوت يكون كمالُ لذّته فيما حصل به الألفة والأُنسية، ولأنه تفكّه يكون كمالُ لذتِه في التجدد من جهة؛ إذ بحُكم المألوفية يُعرَف درجةُ علوّ النعمة وتفوقُها على نظيرها. وكذا من مكمّلات اللذة أن يعرف أنه جزاء عمله.. ومنها أن يكون منبعُه ومخزنُه حاضراً نصبَ العين لتحصل لذةُ الاطمئنان.

وأما المنكَح: فاعلم أن من أشدّ حاجات الإنسان وجودَ قلبٍ مقابلاً لقلبه لمداولة المحبة ومبادلة العشق والمؤانسةِ والتشارك في اللذة، بل التعاونِ في أمثال الحيرة والتفكر. ألا ترى أن من رأى ما يتحيّر فيه أو يتفكر في أمر عجيب يدعو -ولو ذهناً- من يُعينُه في تحمّل الحيرة. ثم إن ألطفَ القلوب وأشفقَها وأحرَّها قلبُ القِسم الثاني. ثم إن متمِّم الامتزاج الروحيّ ومكمِّلَ الاستيناس القلبيّ، ومصفِّيَ الاختلاط الصوريّ كون القسم الثاني مبرَّأةٌ ومطهّرَة من الأخلاق السيئة والعوارض المنفِّرة.

 فإن قلت: إنَّ الأكل لبقاء الشخص؛ إذ به يحصل تعمير ما يتحلل، وإن النكاح لبقاء النوع مع أن الأشخاص في الآخرة مؤبَّدون لا يقع فيهم التحويل والانحلال، وكذا لا تناسل في الآخرة؟

قيل لك: إنَّ فوائد الأكل والنكاح ليست منحصرةً في البقاء والتناسل بل فيهما لذةٌ عظيمة في هذا العالم الأَلَميّ. وكيف لا يكون فيهما في عالم السعادة واللذة لذّاتٌ عالية منـزّهة؟

 فإن قلت: إن اللذة هنا دفعُ الألم؟

قيل لك: إنَّ دفعَ الألم سببٌ من أسباب اللذة.. وأيضاً قياسُ العالم الأبديّ على هذا العالم قياسٌ مع الفارق، بل إن النسبة بين حديقة «خُورْخُورْ» هذه وتلك الجنة العالية هي النسبة بين لذائذ الآخرة ونظائرِها في هذا العالم. فكما تفُوق تلك الجنةُ على الحديقة بدرجات غير محصورة؛ كذلك هذه.. وإلى هذا التفاوت العظيم أشار ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بقوله: «ليس في الجنة إلّا أسماؤها» أي ثمراتِ الدنيا.

أما الخلودُ ودوامُ اللذة، فاعلم أن اللذة إنما تكون لذةً حقيقيةً إن لم ينغّصها الزوالُ؛ إذ كما أنّ دفعَ الألم لذةٌ أو سببٌ لها، كذلك زوالُ اللذة ألمٌ بل تصوّرُ زوالِ اللذةِ ألمٌ أيضاً. حتى إن مجموع أشعار العشاق المجازيين إنما هي أنينٌ ونياحٌ من هذا الألم. وإن ديوانَ كلِّ عاشق غيرِ حقيقي إنما هو بكاء وعويل من هذا الألم الناشئ من تصوّرِ زوالِ المحبوب.. نعم، إنَّ كثيراً من اللذائذ الموقّتة إذا زالت أثمرت آلاماً مستمرة كلما تَذكّرها يفور مِن فيه: «أيواه!» وا أسفا! المترجمَينِ عن هذا الألم الروحانيّ. وإن كثيراً من الآلام إذا انقضت أَوْلَدت لذّاتٍ مستمرة كلما تذكرها الشخص وهو قد نجا، يتكلم بـ«الحمد لله» الملوِّحِ لنعمة معنوية.

أجل، إنَّ الإنسان مخلوقٌ للأبد، فإنما تحصُل له اللذةُ الحقيقيةُ في الأمور الأبدية كالمعرفة الإلهية والمحبة والكمال والعلم وأمثالِها.

والحاصل: أنَّ اللذة والنعمة إنما تكونان لذةً ونعمة إن كانتا خالدتين.

وإذا رأيت هذا السلك فانظم فيه جمَل الآية.

أما جملة: ﴿وَبَشِّرِ الَّذينَ اٰمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ فاعلم أنه تعالى لما كلّف الناسَ، وأثبت النبوّة، وكلف النبيّ بالتبليغ أمرَه بالتبشير تأميناً لامتثال التكليف الذي فيه مشقةٌ وتركٌ للّذائذ الدنيوية. فكما أنه مأمور بالإنذار؛ كذلك مأمور بالتبشير برضاء الله تعالى وتلطيفه وقُربيته وبالسعادة الأبدية.

وأما جملةَ ﴿اَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْري﴾ فاعلم كما مرَّ أن أَوّل حاجات الإنسان الضرورية -لأنه جسم- المكانُ والمسكن؛ وأنّ أحسنَ المكان هو المشتمل على النباتات والأشجار، وأن ألطفه هو الذي يتسلل بين خضراواته الماءُ، وأن أكمَله هو الذي تجري بين أشجاره وتحت قصوره الأنهار بكثرة. فلهذا قال: ﴿تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الْاَنْهَارُ﴾.. ثم إن أشد الحاجات كما سمعت آنفاً بعدَ المكان وأكمل اللذائذ الجسمانية هو الأكل والشرب اللذين يشير إليهما الجنة والنهر.. ثم إن أكملَ الرزق هو أن يكون مألوفاً ومأنوساً ليُعرف درجةُ تفوقه على نظيره.. وألذّ الفاكهة أن تكون متجددة.. وإن أصفى اللذة هو أن يكون المقتطَف معلوماً وقريباً.. وإن ألذَّها أن يُعرف أنها ثمرةُ عمله. فلهذا قال: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هٰذَا الَّذي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ أي في الدنيا أو قبل هذا الآن.

وأما ﴿وَاُتُوا بِه مُتَشَابِهًا﴾ فاعلم أن في الحديث: أن صورتَها واحدة والطعم مختلف. فتشير الآية إلى لذةِ التجدّد في الفاكهة.. وأن كمال اللذة أن يكون الشخصُ مخدوماً يؤتى إليه.

وأما جملةُ ﴿وَلَهُمْ فيهَٓا اَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ﴾ فاعلم كما رأيت في السلك أن الإنسان محتاجٌ لرفيقة وقرينة يسكن إليها وينظر بعينها وتنظر بعينه ويستفيد من المحبة التي هي ألطفُ لمعات الرحمة. ألا ترى أن الأُنسية التامة هنا بهنّ؟

وأما جملة ﴿وَهُمْ فيهَا خَالِدُونَ﴾ فاعلم أن الإنسان إذا صادف نعمةً أو أصاب لذة فأول ما يتبادر لذهنه: أتدومُ أم تُنَغَّص بزوال؟ فلهذا أشار إلى تكميل النعمة بخلود الجنة ودوامهم وأزواجهم فيها ودوام اللذائذ واستمرار الاستفادة بقوله:

﴿وَهُمْ فيهَا خَالِدُونَ﴾

أما نظم هيئاتِ جملةٍ جملةٍ:

فجملة: ﴿وَبَشِّرِ الَّذينَ اٰمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ الواو فيها -بسرّ المناسبة بين المتعاطفَين- إشارة إلى «أنذر» الذي يتقطّر من أنف السابقة.. وأما ﴿بَشِّرِ﴾ فرمز إلى أن الجنة بفضله تعالى لا واجب عليه.. وكذا إلى أن لابد أن لا يكون العملُ لأجل الجنة.. وأما صورةُ الأمر في ﴿بَشِّرِ﴾ فإيماء إلى «بلّغ مبشراً» فإنه مكلَّف بالتبليغ..

وأما ﴿الَّذينَ اٰمَنُوا﴾ بدل «المؤمنين» الأقصرِ، فتلويحٌ إلى ﴿اَلَّذينَ﴾ الذي مرّ في رأس السورة ليكون تفصيلُه هناك مبيِّنا لما أجمل هنا.

وأما إيراد ﴿اٰمَنُوا وَعَمِلُوا﴾ على صيغة الماضي هنا، مع إيراد ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ و﴿يُنْفِقُونَ﴾ هناك بصيغة المضارع فللإشارة إلى أن مقامَ المدح والتشويق على الخدمة شأنُه المضارع. وأما مقامُ المكافأة والجزاء فالمناسب الماضي، إذ الأجرة بعد الخدمة..

وأما واو ﴿وَعَمِلُوا﴾ فإشارة -بسرّ المغايرة- إلى أن العمل ليس داخلاً في الإيمان كما قالت المعتزلة. وإلى أن الإيمان بغير عمل لا يكفي. ولفظُ العمل رمز إلى أن ما يُبشَّر به كالأجرة..

أما ﴿الصَّالِحَاتِ﴾ فمُبهَمة ومُجمَلة. قال «شيخ محمد عبده المصريّ»: الإطلاق هنا حوالة على الاشتهار وتعارفِ الصالحات بين الناس. أقول: وكذا أُطلقت اعتماداً على رأس السورة.

وأما جملة ﴿اَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الْاَنْهَارُ﴾ :

فاعلم أن هيئاتها -مِن تحقيق ﴿اَنَّ﴾، وتخصيصِ «اللام»، وتقديمِ ﴿لَهُمْ﴾، وجمعِ «الجنة»، وتنكيرِها، وذكر الجريان، وذِكرِ ﴿مِنْ﴾ مع «تَحْتِ»، وتخصيصِ «نهر» وتعريفِه- تتعاون وتتجاوب على إمداد الغرض الأساسيّ؛ الذي هو السرور ولذةُ المكافأة، كالأرض النّشِفة الرطبة؛ ترشح بجوانبها الحوض المركزيّ… لأن ﴿اَنَّ﴾ إشارةٌ إلى أن البشارة بما هو في هذه الدرجة من العظمة يتردد فيها العقلُ فتحتاج إلى التأكيد.. وأيضاً من شأن مقام السرور طردُ الأوهام؛ إذ طَرَيان أدنى وَهْم يكسر الخيالَ ويطير السرورَ.. وكذا إيماءٌ إلى أن هذا ليس وعداً صِرفاً بل حقيقةٌ من الحقائق.

ولام ﴿لَهُمْ﴾ إشارة إلى الاختصاص والتملّك والاستحقاق الفضليّ لتكميل اللذة وزيادة السرور. وإلّا فكثيراً ما يضيِّف مَلِكٌ مسكيناً.

وتقديمُ ﴿لَهُمْ﴾ إشارة إلى اختصاصهم بين الناس بالجنة، إذ ملاحظة حالِ أهل النار سببٌ لظهور قيمة لذة الجنة.

وجمع ﴿جَنَّاتٍ﴾ إشارة إلى تعدّد الجنان وتنوّعِ مراتبها على نسبة تنوع مراتب الأعمال.. وكذا رمز إلى أن كلَّ جزء من الجنة جنةٌ.. وكذا إيماء إلى أن ما يصيب حصةَ كلٍّ -لِوُسْعَته- كأنه كالجنة بتمامها لا كأنه يساق بجماعتهم إلى موضع..

وتنكير ﴿جَنَّاتٍ﴾ يتلو على ذهن السامع: «فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر». وكذا يُحيل على أذهان السامعين حتى يتصورها كلٌّ على الطرز الذي يستحسنُه.. وكذا كأن التنوين بدل: ﴿وَفيهَا مَا تَشْتَهيهِ الْاَنْفُسُ﴾ (الزخرف:71).

وأما ﴿تَجْري﴾ فاعلم أن أحسنَ الرياض ما فيها ماء، ثم أحسنُها ما يسيل ماؤها، ثم أحسنُها ما استمر السيلان. فبِلفظ ﴿تَجْري﴾ أشار إلى تصوير دوام الجريان..

وأما ﴿مِنْ تَحْتِهَا فاعلم أن أحسنَ الماء الجاري في الخضراوات أن ينبعَ صافياً من تلك الروضة، ويمر مُتَخَرْخِراً تحت قصورها، ويسيل منتشراً بين أشجارها فأشار بـ ﴿مِنْ تَحْتِهَاإلى هذه الثلاثة..

وأما ﴿الْاَنْهَارُ﴾ فاعلم أن أحسن الماء الجاري في الجنان أن يكون كثيراً، ثم أحسنُه أن تتلاحق الأمثالُ من جداوله. فإنَّ بتناظر الأمثال يتزايد الحُسن على قيمة الأجزاء. ثم أحسنُه أن يكون الماء عذباً فراتاً لذيذاً كما قال: ﴿مَٓاءٍ غَيْرِ اٰسِنٍ﴾ (محمد:15) فبلفظ «نهر» وجمعِه وتعريفِه أشار إلى هذه.

أما جملة ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هٰذَا الَّذي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾

فاعلم أن هيئاتها تتضمن كثيرةً من الجُمل الضمنية؛ فاستينافُها جوابٌ لسؤال مقدَّر، وذلك السؤال ممزوج من ثمانية أسئلة متسلسلة؛ إذ لمّا بُشّروا بمسكن هكذا عالٍ، يتبادر لذهن السامع: أفيه رزقٌ أم لا؟ وإذا كان فيه رزق فمن أين يجيء ويحصل؟ وإذا حصل من تلك الجنة، فمن أي شيء منها؟ وإذا كان من ثمرتِها، فهل هي تشبه ثمارَ الدنيا؟ وإذا شابهتها، فهل يشبه بعضها بعضاً؟ وإذا تشابهت، فهل تختلف طعومُها؟ وإذا اختلفت وقد قُطعت، فهل تنقص أم يُمتلأ موضعُها؟ وإذا تبدلت بأخرى، فهل يدوم الأكل منها؟ وإذا دام فما حال الآكلين، أفلا يستبشرون؟ وإذا استبشروا فماذا يقولون؟

وإذ تفطنتَ لهذه الأسئلة، فانظر كيف أجاب القرآنُ عن هذه الأسئلة المتسلسلة بهيئات هذه الجملة.

أما لفظ ﴿كُلَّمَا﴾ فإشارة إلى الدوام والتحقيق.

وماضوية ﴿رُزِقُوا﴾ إشارة إلى تحقيق الوقوع.. وكذا إيماء إلى إخطار نظيره من رزق الدنيا إلى ذهنهم. وإيراده على بناء المفعول إشارةٌ إلى عدم المشقة وأنهم مخدومون يؤتى إليهم.

وإيثار ﴿مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ﴾ على «من ثمراتها» للتنصيص على جوابين عن سؤالين من الأسئلة المذكورة.

وتنكيرُ ﴿ثَمَرَةٍ﴾ المفيدُ للتعميم إشارة إلى أنه أيةَ ثمرة كانت فهي رزق.

وتنكير ﴿رِزْقًا﴾ إشارة إلى أنه ليس من الرزق الذي تعلمونه لدفع الجوع.

ولفظ ﴿قَالُوا﴾ -أي يتقاولون بعضهُم- لبعض إيماءٌ إلى الاستبشار والاستغراب اللازمَين للحُكم.

أما جملة ﴿هٰذَا الَّذي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ فاعلم أن هذا الإطلاق يتضمن أربعة معان:

أحدها: أن هذا ما رُزِقنا من العمل الصالح في الدنيا فبشدة الارتباط بين العمل والجزاء كأن العملَ تجسّم في الآخرة ثواباً. ومن هنا الاستبشار.

والثاني: أن هذا ما رُزِقنا من الأطعمة في الدنيا مع هذا التفاوت العظيم بين طعمَيهما. ومن هنا الاستغراب.

والثالث: أن هذا مثلُ ما أكلنا قبلَ هذا الآن مع اتحاد الصورة واختلاف المعنى لجمع لذّتَي الألفة والتجدد. ومن هنا الابتهاج.

والرابع: أن هذه التي على أغصان الشجرة هي التي أكلناها إذ ينبُت بدَلها دفعةً فكأنها إياها. ومن هنا يُعرف أنها لا تنقص.

وأما جملة ﴿وَاُتُوا بِه مُتَشَابِهًا﴾ فاعلم أنها فذلكة وتذييل واعتراضية لتصديق الحُكم السابق وتعليله.. وبناء المفعول في ﴿وَاُتُوا﴾ إشارة إلى أنّ لهم خَدَمَة.. وفي ﴿مُتَشَابِهًا﴾ ما عرفتَ من الإشارة إلى جمع اللذتين.

وأما جملة ﴿وَلَهُمْ فيهَٓا اَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ﴾:

فاعلم أن «الواو» بسر المناسبة العطفية إشارة إلى أنهم كما يحتاجون إلى المسكن لأجسامهم يفتقرون إلى السكَن لأرواحهم..

﴿وَلَهُمْ﴾ إشارة إلى الاختصاص والتملك، ورمزٌ إلى التخصيص والحصر، وإيماء إلى أن لهم غير النساء الدنيوية حُوراً عيناً خُلِقن لأجلهم.

و ﴿فيهَٓا﴾ إشارة إلى أن تلك الأزواج لائقةٌ بتلك الجنة، فعلى نسبة علوّ درجاتها يفوق حُسنُهن.. وكذا فيها إيماءٌ خفي إلى أن الجنة تزيّنت وتبرّجت بهن.

و ﴿مُطَهَّرَةٌ﴾ إشارة إلى أن مطهِّراً طهّرهُنّ، فما ظنّك بمن طهّرهُن ونزّههن يد القدرة؟.. وكذا إيماء بالتعدية أن نساء الدنيا يُطَهَّرن ويُصفَّين فيَصرن حساناً كالحور العين المتطهرات في أنفسهن.

وأما جملة ﴿وَهُمْ فيهَا خَالِدُونَ﴾ فإشارة إلى أنهم، وكذا أزواجُهم، وكذا لذائذُ الجنة، وكذا الجنةُ كافةً؛ أبدية.