بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المقدمة([1])

الدكتور محسن عبد الحميد 

أستاذ التفسير والفكر الإسلامي

جامعة بغداد      

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على مَن أُنزل عليه القرآن الحكيم محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء والرسل، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد؛

فيكاد يجمع المنصفون من العلماء والدارسين المطلعين على تطور أوضاع المسلمين في العصور الأخيرة، أن الأستاذ الجليل «بديع الزمان سعيد النُّورْسي» كان شخصية إسلامية كبيرة، صادق الإيمان، عظيم الإخلاص، عزيز النفس، عارفاً بحقائق التوحيد، نابغة من نوابغ الزمان، غزير العلم، نافذ الفكر، داعية ثبتاً إلى الله تعالى على بصيرة، حَمل همومَ المسلمين منذ شبابه، وقضى حياته في الجهاد الدائب في سبيل توضيح عقيدة الإسلام وبيان عِلل أحكامه، ودحضِ الأفكار المنحرفة والفلسفات الجاحدة المناقضة له، والتخطيط العملي لأجل إنقاذ المسلمين من الغزو الفكري الجارف الذي تعرضوا له منذ أوائل القرن الرابع عشر الهجري، بل قبلَه.

ولقد لقيَ -رحمه الله تعالى- في سبيل ذلك ما لقي، مما ليس جزاؤه إلّا عند الله تعالى البصير بعباده الصالحين وأوليائه الصادقين وعلمائه المجاهدين، الذين صدقوا العهد مع الله تعالى، ولم يخشوا فيه سبحانه لومة لائم.

وهذا الكتاب الذي بين يديك -قارئي العزيز- جليلُ القدر، رصينُ السبك، قوي الحُجة، يمثل أجلى تمثيل القُدرة السَرَيانية الفائقة للأستاذ «النورسي»، وراءَ المعاني الدقيقة في كتاباته كلها، لاسيما العلمية المختصة منها. ولقد كانت تلك موهبة عبقرية، وهَبه الله تعالى إياها، لينظر في كتاب الله تعالى من خلالها ببصيرة نافذة، ومعرفة كلامية وبلاغية عميقة، وذوق ذاتي رفيع، ومنهج عقلي سديد، يلتمس الكشفَ عن الحقيقة، ويبغي إيصال الإنسان إلى اقتناع كامل بكون هذا القرآن معجزاً، بحيث يجد العقلاء والفصحاء في أنفسهم ضرورةَ الإيمان والاعتراف بأنه الكتاب الحق الذي نزل من عند علام الغيوب على رسوله الأكرم محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، كي يضع الإنسانية على طريق دعوة الحق، وينور بصيرتها بنور الإيمان، وإدراك اليقين للوصول إلى العبودية الخالصة لرب العالمين.

لقد استطاع الأستاذ النُّورسي أن يصقُل موهبته الفذة بدراسة العلوم الإسلامية والفلسفات القديمة والعلوم الإنسانية والصرفة المعاصرة، زيادةً على اطلاعه الواسع على الأدب والبلاغة العربية في كتب أمثال «الجاحظ» و«الزمخشري» و«السكاكي» لاسيما كتب النحوي البلاغي الكبير الإمام «عبد القاهر الجرجاني» حيث آمن بنظريته المشهورة في النظم وأعجب بها أيّما إعجاب في هذا الكتاب.

ولم تكن «نظرية النظم» جديدة اخترعها «الجرجاني» من غير مقدمات، وإنما لفتَ النظرَ إليها «الجاحظُ» في كتابه «نظم القرآن»، و«الواسطي» في كتابه «إعجاز القرآن في نظمه»، و«الباقلاني» في كتابه «إعجاز القرآن»، غير أن «الجرجاني» شرحها شرحاً نحوياً بيانياً وافياً مترابطاً، وصاغ منها نظرية متكاملة تقوم على أساس عدم الفصل بين اللفظ ومعناه وبين الشكل والمضمون، وقرر أن البلاغة في النظم لا في الكلمة المفردة ولا في مجرد المعاني دون تصوير الألفاظ لها. وبناءً على ذلك فإنه يعرّف النظم بأنه: «تعليق الكلمة بعضها على بعض، وجعل بعضها بسبب من بعض»، أي تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله وتعرف مناهجه فلا تزيغ عنها.

وكأني بالأستاذ النورسي درس نظرية النظم هذه دراسة متقنة ثم ظهر له أن المفسرين الذين سبقوه كـالزمخشري والرازي وأبي السعود لم يحاولوا تطبيقها من حيث هي منظومة متكاملة تشمل ترتيب السور والآيات والألفاظ سورة بعد سورة وآية بعد آية ولفظاً بعد لفظ، بتفاصيلها الكاملة، فأراد أن يقتدي بهؤلاء المفسرين العظام فيؤلف تفسيراً يطبق فيه نظريةَ النظم تطبيقاً تفصيلياً شاملاً من حيث المباني والمعاني ومن حيث المعارف اللغوية والعقلية والذوقية، الكلية منها والجزئية، والتي اعتمد عليها في الكشف عن تفاصيل المنظومة القرآنية التي بها يظهر الإعجاز، وتتكشف دقائق خصائص الأسلوب القرآني التي خالفت خصائص التعبير العربي البليغ قبله، والتي حيّرت البلغاء وأخرست الفصحاء، ليحقّ عليهم التحدي المعجز إلى يوم القيامة.

ولم تتوجه جهود النورسي إلى بيان نظرية النظم، مقدمةً لإثبات إعجاز القرآن البلاغي فحسب، بل اتجهت كذلك إلى التغلغل في معاني الآيات، حيث أراد بناءها تفصيلاً على المرتكزات العقلية للوصول إلى إظهار العقائد الإسلامية وارتباطها بحقائق الوجود.

ومن الواضح جداً لمَن تأمل في الكتاب وترتيبه أنه كان يريد أن يؤلف تفسيراً كاملاً في هذا الاتجاه. ولو قُدِّر للأستاذ -رحمه الله تعالى- أن ينهي عمله العظيم هذا كاملاً، إذن لقدّم تفسيراً بلاغياً وعقلياً كاملاً شاملاً، كان جديراً بأن يأخذ منه عمره كله، حيث كان من المحقق أن يحوي حينئذ عشرات المجلدات الضخام، لو أنه مشى في ضوء منهجه هذا الذي نقرؤه في هذا الكتاب.

ولكن الله سبحانه وتعالى قدّر له الأفضل من ذلك؛ إذ وفّقه لعمل أجلّ من ذلك وأعظم، عملٍ استطاع فيه أن يضع مسلمِي بلدِه في ظروف عصره في مواجهة القرآن الكريم، دون إشغالهم بقضايا بلاغته وإعجازه اللغوي والتي لم تكن مشكلة عصره من خلال التحقيق في جزئيات دقيقة لا يقوى على فهمها إلا الخواصُّ جداً. وكان من المؤكد حينئذ أن يبقى الجمهورُ الأعظم من المسلمين في عصره بمعزل عن الاستفادة من مواهبه الفذة وحماسه الإيماني المنقطع النظير، وكذلك بمعزل عن الصراع الفكري الحضاري الرهيب غير المتكافئ مع الغزو الفكري المادي الجاحد، الذي بدأ يتسلل رويداً رويداً إلى الحياة الإسلامية حتى تصدر السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والفن والإعلام في كثير من بلاد الإسلام.

من أجل ذلك، وقف النورسي عند هذا المجلد من التفسير، ودفعته ظروفُ عصره وبلده إلى أتون الصراع، ولكن في قالب جديد ممثلا بـ«سعيد الجديد» سمتُه الهدوء، والتدرج، والبناء، والنفوذ المُحكم إلى عقول المسلمين وقلوبهم دون صراخ عاطفي أو تهريج مدمّر، أو صدامات فوقية، لم يكن الوضع الإسلامي يومئذ مهيَّأ لها ويقوى فيها على مجابهة الأعداء الأقوياء في الداخل والخارج.

لقد كان أسلوب «رسائل النور» في وضوحه الحاسم، وهدوئه العلمي الباهر، وبيانه الذوقي الرفيع، وحججه العقلية الدامغة هو البديل العصري الذكي لأسلوب إثبات إعجاز القرآن اللغوي والبياني والعقلي من خلال نظرية النظم، لأن ما أثاره الأعداء لم يكن يتصل بالطعن في بلاغة القرآن أو مناقشة ما يتعلق بإعجازه أو بتناسب سوَره وآيه وكلماته، وإنما كان يركز على شن هجوم عام شامل على أصول الإيمان، وحكمة التشريعات، ومحاولة تفكيك النظام الأخلاقي الذي جاء به القرآن الكريم.

لقد وعى الأستاذ النورسي التغييرات الهائلة التي أحدثها الصراع الجديد فتوجّه إليها بحقائق القرآن التي قدّمها من خلال أصول المنطق العقلي الفطري وعلومِ ومعارفِ عصره.

إنه استطاع أن يُثبت من خلال جزء كامل من هذا الكتاب إعجازَ القرآن الكريم، وبرهن للدارسين وطلاب الحقيقة أنه من السهل أن يستمر في ضوء منهجه العلمي والعقلي والذوقي الرفيع إلى النهاية، إذن فليكن هذا كافياً، وليتوجه بكليته وبقية حياته العامرة إلى القضية الأساس، وهي إنقاذ إيمان المسلمين في عصر الصراع الإعلامي الرهيب، فأنتج في هذا المجال أيما إنتاج من خلال عشرات الكتب والرسائل التي وجهها إلى النشء الجديد، لإلحاق الهزيمة العقدية والفكرية بأعداء الإسلام من الملاحدة وأرباب التغريب.

على أنني أظلم هذا الكتاب إذا ادّعيت أنه خلا من منهج مواجهة الصراع الجديد، بل أزعم هنا -على قدر ما لي من علم بأفكار النورسي من خلال قراءتي لبعض رسائله في عهده الجديد- أنه ما من فكرة شرحها أو بسطها أو مثَّل عليها إلا وتجد لها بذوراً موجزة أو مفصلة في هذا الكتاب العلمي الرصين الذي بين يديك، لاسيما في عرض أصول العقائد الإسلامية بأسلوب عصري علمي. غير أنه اتجه في كتابه هذا إلى مخاطبةِ خاصةِ تلامذته من خلال دمج المصطلحات الكلامية القديمة ببدايات منهجه الجديد الذي استقر عليه فيما بعد في رسائل النور.

ولعل هذا هو سر تسمية رسائل النور بأنها تفسير حقيقي للقرآن الكريم. والحق أن تفسير القرآن ومخاطبة المسلمين بآياته لم يبارح قط فكر النورسي إلى آخر لحظة من لحظات حياته الحافلة بالمِحن والأحزان، والعلم والدعوة إلى التمسك بكتاب الله وسنة نبيه ﷺ.

إنَّ نشر هذا الكتاب بثوبه الجديد هذا سيضع نموذجاً تحليلياً بلاغياً رائعاً أمام المهتمين بالدراسات الإعجازية والبلاغية والنقدية المعاصرة. لاسيما في الأوساط العلمية. وسيجد المهتمون بدراسات العقائد الإسلامية من وجهة المنطق العقلاني زادهم فيه من خلال المباحث العقلية والعلمية العميقة التي قدمها الأستاذ تعليقاً على الآيات التي حللها من أوائل سورة البقرة.

لقد أحسن الأستاذ الفاضل «إحسان قاسم الصالحي» بتحقيقه هذا الكتاب من جديد، حيث أغناه بتدقيقاته المفيدة وشروحه القيمة في الحواشي. وهذا فضل يكمل به أفضاله السابقة على قراء العربية حين قضى سنوات عدة في ترجمة مجموعة متنوعة من رسائل النور التي دبجها يراع الإمام المُمتحن سعيد النورسي حجة الإسلام بحق في حياة تركيا الحديثة.

فجزى الله الأستاذ النورسي خير الجزاء ونفع المسلمين بعلمه وحججه الدامغة وكلماته النورانية الصادقة في خدمة كتاب الله تعالى وسنة رسوله الأكرم ﷺ.

وفي ختام هذه الكلمات أدعو الله تعالى أن يوفق المحقق الكريم إلى تقديم ترجمة كاملة لـرسائل النور إلى قراء العربية المجيدة.([2])

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

د. محسن عبد الحميد  

كلية التربية – جامعة بغداد
2 شعبان 1407هـ   


[1] ثبتنا مقدمة الدكتور محسن عبد الحميد التي قدّمها مشكوراً للطبعة الأولى المطبوعة في العراق سنة 1409هـ-1989م. (المحقق).

[2] لقد استجاب المولى الكريم هذا الدعاء وأمثاله من الدعوات الخالصة لإخوة كرام بررة فوفقنا لترجمة كاملة لكليات رسائل النور وطبعها ونشرها، فالحمد لله أولاً وآخراً. (المحقق).