ذيل الحبة

يا ناظر!

أظنني أحفر بآثاري المشوّشة عن أمرٍ عظيم بنوع اضطرارٍ مني.

فيا ليت شعري هل كَشَفتُ..

أوسينكشفُ..

أوأنا وسيلة لتسهيل الطريق لكشّافه الآتي.

لا حولَ ولا قوّةَ إلّا بالله..

حَسْبُنا الله ونِعمَ الوَكيل.

اَللَّهُمَّ لا تُخرِجنا مِنَ الدُّنيا إلّا مَعَ الشَّهادة والإيمان.


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

اَلْحَمْدُ لله عَلَى نِعْمَةِ الإيمَانِ وَالإسْلَامِ بِعَدَدِ قَطَرَاتِ اْلأمْطَارِ، وَأمْوَاجِ البِحَارِ، وَثَمَرَاتِ اْلأشْجَارِ، وَنُقُوشِ الأزْهَارِ، وَنَغَمَاتِ الأطْيَارِ، وَلَمَعَاتِ اْلأنْوَارِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلى كُلٍّ مِنْ نِعَمِهِ فِي اْلأطْوَارِ، بِعَدَدِ كُلِّ نِعَمِهِ فِي الأدْوَارِ.

وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلى سَيِّدِ اْلأبْرَارِ وَاْلأخْيَارِ مُحَمَّدٍ المُخْتاَرِ وَعَلى آلِهِ الأطْهَارِ وَأصْحَابِهِ نُجُومِ الْهِدَايَةِ ذَوِى اْلأنْوَارِ مَادَامَ الَّيْلُ وَالنَّهَارُ.

اعلم أن المسافر كما يُصادف في سيره منازلَ، لكلِّ منـزلٍ شرائطُ تخصّهُ.. كذلك للذاهب في طريق الله مقامات ومراتب وحالاتٌ وحُجبٌ وأطوار، لكل واحدٍ طورٌ يَخصهُ؛ مَن خلَطَ غلطَ. كمثل مَن نزل في قرية اصطبلا سمع فيه صهيل الفرس، ثم في بلدٍ نزل قصرا فسمع تَرَنُّمَ العندليب، فتوهم الترنمَ صهيلا، وأراد أن يستمع منه صهيل الفرس مغالطا لنفسه.

اعلم أن مما زيّن في عينك هذه الحياةَ تلألُؤ تماثيلِ نجوم الهداية من أماثل الأسلاف في مرآة الدنيا، بسرّ: أن المستقبل مرآة الماضي، والماضي يلتحق بالبرزخ -بمعناه- ويُودع صورتَه ودنياه في مرآة الاستقبال والتاريخِ وأذهانِ الناس. مثلك في حب الحياة بحبهم كمثل مَن صادف في وجه طريقه مرآةً عظيمة فرأى فيها تماثيل رفقائه وأحبابه الذاهبين إلى الشرق (مغرّبين في المرآة) فيتوحش من الشرق فيهرول مغربا. ولوكُشِفَ عن وجهك غطاءُ الغفلة لرأيتَك تسرعُ في بيداءَ خاليةٍ يابسة لسراب وعذاب، لا لِعَذْبٍ وشراب..

اعلم أن من عظيم علوالقرآن وأصدق دليل حقانيته: محافَظَتَه لكلِّ لوازمات التوحيد بمراتبه.. ومراعاتَهُ لموازنة الحقائق العالية الإلهية.. واشتماله على مقتضيات الأسماء الحسنى، والتناسب بينها.. وجمعَه لشؤونات الربوبية والألوهية بكمال الموازنة. وهذه خاصيّةٌ ما وُجدَت قطُّ في أثر البشر وفي نتائج أفكار أعاظم الإنسان من الأولياء المارين إلى الملكوت، والإشراقيين الذاهبين إلى بواطن الأمور، والروحانيين النافذين إلى عالم الغيب.

فإنهم لا يحيطون بالحقيقة المطلقة بأنظارهم المقيدة، بل إنما يشاهدون طَرفا منها فيتشبثون به وينحبسون عليه ويتصرفون فيه بالإفراط والتفريط.. فتختل الموازنة ويزول التناسبُ.

مَثلهم كمثل غوّاصين في البحر لكشف كنـزٍ متزين ممتلئ بما لا يحصى من أصناف الجواهر، فبعضٌ صادف يدُه ألماسا مستطيلا مثلا، فيحكمُ بأن الكنـزَ عبارةٌ عن ألماسٍ طويل، وإذا سمع من رفقائه وجودَ سائر الجواهر فيه يتخيلها فصوصَ ألماسه، وصادف آخرُ ياقوتا كرويا وآخر كهربا مربعا وهكذا. وكل واحد يعتقد مشهودَه جرثومَ الكنـز ومعظمه، ويزعم مسموعَه زوائدَه وتفرعاتِه، فتختل الموازنة ويزول التناسب، فيضطرون للتأويل والتصلف والتكلف حتى قد ينجرّون إلى الإنكار والتعطيل. ومَن تأمل في آثار الإشراقيين والمتصوفين المعتمدين على مشهوداتهم بلا توزين بميزان السُّنة لم يتردد فيما قلت.

ثم انظر إلى القرآن فإنه أيضا غواص لكن له عينٌ مفتوحة تحيط بالكنـز وما فيه، فيصف الكنـزَ كما هوعليه، بتناسب وانتظام واطراد.

مثلا: يشتمل على ما تقتضيه عظمةُ مَن: ﴿وَالْاَرْضُ جَميعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيٰمَةِ وَالسَّمٰوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمينِه﴾ (الزمر:67).. وكما قال: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَٓاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾ (الأنبياء:104) مع أنه: ﴿يُصَوِّرُكُمْ فِي الْاَرْحَامِ كَيْفَ يَشَٓاءُ﴾ (آل عمران:6) ﴿مَا مِنْ دَٓابَّةٍ اِلَّا هو اٰخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾ (هود:56) و﴿خَلَقَ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضَ﴾ (الأنعام:73) مع أنه: ﴿خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ (الصافات:96) ﴿وَيُحْيِ الْاَرْضَ﴾ (الروم:50) ﴿وَاَوْحٰى رَبُّكَ اِلَى النَّحْلِ﴾ (النحل:68) ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِاَمْرِه﴾ (الأعراف:54) ﴿اَوَلَمْ يَرَوْا اِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَٓافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَۜ مَا يُمْسِكُهُنَّ اِلَّا الرَّحْمٰنُۜ اِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصيرٌ﴾ (الملك:19) ويكتب صحيفة السماء بنجومها وشموسها ككتابة صحيفةِ جناح النحلة بحجيراته وذراته ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضَ﴾ (البقرة:255) مع أنه: ﴿وَهومَعَكُمْ اَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ (الحديد:4) ﴿هوالْاَوَّلُ وَالْاٰخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُۚ وَهوبِكُلِّ شَيْءٍ عَليمٌ﴾ (الحديد:3) وهكذا.. وقس عليها.. وما يشاهد في نوع البشر من أنواع الفرق الضالة، إنما نشأت من قصور أئمتهم المارين إلى الباطن، المعتمدين على مشهوداتهم، الراجعين من أثناء الطريق، المصداقين لما قيل: «حفظت شيئا وغابت عنك أشياء».

اعلم أن توصيفَ السماء بالدنيا في: ﴿وَزَيَّنَّا السَّمَٓاءَ الدُّنْيَا (فصلت:12) ومقابلة الدنيا للآخرة، تشير إلى أن السماوات الست الأُخر ناظرةٌ إلى عوالم أخرى، من البرزخ إلى الجنة، والمشهودةُ بنجومها وطبقاتها سماء الدنيا. والله أعلم.

اعلم أنه جِيءَ بك من العدمِ إلى الوجود، ثم رقّاك موجِدُك من أدنى أطوارِ الوجود حتى أوصَلكَ بإنعامه إلى صورة الإنسان المسلم. فما تخلل بينك وبين مبدإ حركتك من المنازل الكثيرة المتعددة كلٌّ منها نعمةٌ عليك، وفيك ثمرةٌ وصبغةٌ من كلِّ واحدٍ. فصرتَ كقلادةٍ منظّمة، وعنقودٍ نضيدٍ بحبات النِعَم، وسنبلةٍ منضدة من الرأس إلى القدم، كأنك فهرستة لطبقات نِعَمه تعالى؛ ولأن الوجودَ يقتضي علّةً، والعدمَ لا يقتضي.. كما تقرر في العقول.. تُسأل ويُسألُ عنك في كل منزل في مراتب الوجود من الذرة إلى العدم: كيف وصلت إلى هذه النعمة؟ وبِمَ استحققتَها وبـ«هل شكرتَ؟» ولا يَسأل من له مسكةُ عقلٍ عن حَجَر لماذا ما صار شجرا، وعن شجرةٍ لماذا ما صارت إنسانا…

فيا أيها السعيد المسكين المغرور! أنت نقطةٌ في وسط سلسلةِ الموجودات، فعليك نِعَمٌ بعددِ ما تحتَك إلى العدم الصرف، وأنت مسؤولٌ عن شُكرها. وأما ما فوقك فليس لك ولا لأحدٍ أن يسأل لماذا ما وصلتَ إلى أعلى مما أنت فيه، كما لا حقَّ للذرة أن تقول: «أي واه» لِمَ ما صرتُ شمسا، ولا للنحلةِ أن تقول لصانعها: هلا خلقتَني نخلةً مثمرة؟.. إذ ما تحتك وقوعاتٌ، وما فَوقك عدمات إمكانات شبيهة الممتنعات..

اعلم يا أنا! أن مما أهلككَ وأهواكَ وأوهمك وأهذاك وأذلك وأضلك؛ أنك لا تعطي كلَّ ذي حقٍ مقدارَ حقّه، وكل ذي حِمل حملَهُ بوسعه، بل تَفرِطُ وتُفرِّطُ فتحمِّل على نفرٍ ممثلٍ للجيش كلّ لوازمات الجيش العَرَمْرم، وتتحرى في تمثال الشمس في عين القطرة أووجهِ الزهرة كلّ لوازمات عظمة شجرة الشمس المثمرة بالسيارات. نعم، القطرة والزهرة تصفان ولا تتصفان.

اعلم أن المُلكَ له، وأمانتُه، واشتراه، لا فائدة في «المرق». لا خير فيما لا يبقى. وإياك ونقضَ العهد معه. وعليك بالموت، والموتُ المنجرّ إلى الحياة أولى من هذه الحياة المنقلبة إلى الموت.

اعلم أن ما في المرآة كما أنه «ليس عينا ولا غيرا» فهو«عين وغيرٌ»، فمن حيث إنه مظروفُ ملكوتِ المرآة «عينٌ» فأحكامُه أحكامُ الأصل. ومن حيث إنه صفةُ مُلكِ المرآة المتلألئة به «غيرٌ»، فله أوصافٌ ناظرة إلى المرآة، لا إلى الأصل فقط. ومن الحيثيتين «لا عينٌ ولا غيرٌ». كما أن الشيء في مرآة الذهن -من وجهِ أنه مظروفه- معلومٌ، ومن جهةِ أنه صفته علمٌ مع تغاير لوازمهما…

اعلم أنه لا تزاحم بين العوالم المختلفة في نوع الوجود. فإن شئتَ فادخل في ليلة مظلمة منـزلا منوّرا بالمصابيح وأربع جدرانه من الزجاجة التي هي نوع مشكاةٍ للعالم المثالي؛

فأولا: ترى فيها -باتصالِ الحقيقي بالمثالي- منازلَ عديدةً متنورة عمّت البلد كأنه لا ظلمة بمقدار مد النظر..

وثانيا: تراك تتصرف بالتغيير والتبديل بكمال السهولة في تلك المنازل..

وثالثا: ترى السراج الحقيقي أقربَ إلى أبعد السُرُج المثالية من لصيقهِ، بل من نفسه لأنه قيّومه

ورابعا: ترى أن حبةً من هذا الوجود تقتدر أن تقل وتحمل عالما من ذلك الوجود.

فهذه الأحكام الأربعة تجري في موادَّ كثيرةٍ حتى بين الواجب وعالم الممكنات التي وجوداتها ظلال أنوار الواجب، فوجودها في مرتبة الوهم، لكن استقرّ وثَبتَ -بأمره تعالى له – وجودٌ خارجي، فليس خارجيا حقيقة بالذات ولا وَهميا محضا ولا ظليا زائلا بل له وجودٌ بإيجاد الواجب الوجود. فتأمل..

اعلم أنه كما أنه محال أن لا يكون لهذا المُلك المُعتَنى به مالكٌ، كذلك محالٌ أن لا يتعرفَ ذلك المالكُ إلى الإنسان الذي يدرك درجاتِ محاسنِ الملك الدالة على كمالات المالك، مع أن ذلك الإنسان كالخليفة في مهده الممهّد له يتصرف فيه كيف يشاء؛ بل في السقف المحفوظ السماوي أيضا بعقله. ومع ذلك إن الإنسان أشرفُ المخلوقات بشهادة تصرفاته العجيبة الخارقة مع صغره وضعفه، وإنه أوسعُ الأسباب اختيارا بالبداهة. فبالضرورة يرسل المالك من يعرّف المالكَ إلى مماليكه الغافلين عنه ويخبرهم ما يَرضى به ويطلبه منهم ذلك المالك جل جلاله..

اعلم أن كلَّ الحواس حتى الوهم والفرض والخيال يتفقون في النهاية على الحق ويَلتَجِئون إليه، ولا يبقى عندهم للباطل إمكان. فيقرون بأن الكائنات لا يمكن أن تكون إلّا على ما أخبَر به القرآن.. هكذا شاهدتُ وعقلي معي.

اعلم أنه كما لا تزاحم ولا تصادم بين عالم الضياء وعالم الحرارة وعالم الهواء وعالم الكهرباء (والألكتريقية) وعالم الجاذبة إلى عالم الأثير والمثال والبرزخ. تجتمع الكلُّ بلا اختلاط معك في مكانك بلا تشكٍّ من أحدٍ منكم، من مزاحمةِ أخيه.. فهكذا يمكن أن يجتمعَ كثيرٌ من أنواع العوالم الغيبية الواسعة في عالم أرضنا الضيقة. وكما لا يعوقنا الهواءُ من السير ولا يمنعنا الماءُ من الذهاب ولا يمنع الزجاجُ مرورَ الضياء ولا يعوقُ الكثيف أيضا نفوذَ شعاع «رونتكن» ونورِ العقل وروح المَلَك، ولا يمنع الحديدُ سيلانَ الحرارة وجريان «الألكتريق» ولا يعوق شيءٌ سريانَ الجاذبة وجولانَ الروح وخدّامه وسيرانَ نور العقل وآلاتِه.. كذلك هذا العالَمُ الكثيف لا يمنع ولا يعوق الروحانياتِ من الدوران، والجنَّ من الجولان، والشيطانَ من الجريان، والمَلَك من السيران..

اعلم أن النور والنوراني كالعين والسراج والشمس، يتساوى لها الجزئي والنوع والجزء والكل والواحد والأُلوف. فانظر إلى الشمس كيف انصبغت بتماثيلها السياراتُ والبحورُ والحياضُ والحبابات والقطَرات والرشاشات (والشَّبنَمات) والذرات الزجاجية دفعةً، بالسهولة والمساواةِ بين السيارات والذرات.

كذلك – ﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى – تصرفاتُ شمسِ الأزل نورِ الأنوار في كتاب الكائنات هكذا.. يكتُب كلَّ أبوابه وفصوله وصحفه وسطوره وجمله وحروفه دفعةً بلا كُلفة كما قال: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ اِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ (لقمان:28).. آمَنّا..

اعلم أن من تأمل في ذرات الأشياء وسَرَيانها إلى حدود، ثم توقِفها عندها لفوائدَ وثمراتٍ، تيقّن أن عند الحدود من يأمر الذرات بـ: قفي وانثني! كما يأمر القالبُ الذهبَ الذائبَ بلسان حديد، وينهى بـ: لا تَسِل واستقر! فيما عَيَّنَتْه لك معاطفي وتلافيفي المصنوعة لحِكم.

وآمرُ الذرات ما هو إلّا علمٌ محيطٌ يتجلى ذلك العلمُ قدَرا، فينعكس القدَرُ مِقدارا فينطبع المقدارُ قالبا..

…………

اعلم أن القرآن كما يفسّر بعضُه بعضا، كذلك إن كتاب العالم يفسِّر بعضُ آياته بعضها. فكما أن العالَم المادي يحتاج احتياجا حقيقيا إلى شمس تفيض منها عليه أنوارُ نعمته تعالى، كذلك العالمُ المعنوي يحتاج أيضا إلى شمس النبوة لفيضان أضواء رحمته تعالى. فنبوةُ أحمد عليه الصلاة والسلام في الظهور والوضوح والقطعية بدرجة الشمس في وسط النهار، وهل يحتاج النهارُ إلى دليل؟..

اعلم أن الثمرات المترتبةَ على وجود الحي لا تنظر إلى الحي وبقائه ونفعِه وكمالِه فقط، بل إليه بحصةٍ ودرجة، وإلى المحيي جل جلاله بدرجات غير محصورة.. فحصةُ الحي قد لا تحصل إلا بزمان مديد، لكن ما ينظُرُ إلى المحيي قد يحصل في آنٍ سيال، كإظهار الحي -بمعكسيته ومظهريته لتجليات الأسماء الحسنى- حمدَ خالقهِ بتوصيفه بأوصافِ كماله وجماله وجلاله بلسان الحال..

اعلم أن فردَ الإنسان كنوع سائر الأنواع، بسر: أن فرد الإنسان له ماضٍ ومستقبل يجتمع في الشخص -معنىً- كلُّ مَن مات منه من أفراد نفسه؛ إذ في كل سنةٍ يموت منه فردان صورةً ويورثان فيه معنَييْهما من الآلام والآثام والآمال وغيرها، فكأنه فردٌ كلي.. وإحاطةُ فكره وعقله ووُسعة قلبه وغيرها تعطيه نوعَ كليةٍ.. وكونَ فرده كنوعه في الخلافة والمركزية لعالمٍ خاص كالعالم العام.. والعلاقةُ الشعورية مع أجزاء العالم وتصرفُه في كثير من أنواع النباتي والحيواني والمعدني تحويلا وتغييرا خلافا لسائر الحيوانات وغيرها، أيضا تعطي له نوعَ كليةٍ، كأنَّ كلَّ فردٍ نوعٌ منحصر في الشخص.. ودعاء المؤمن لعموم أهل السماوات والأرض يشير إلى أن الشخص يصير بالإيمان كعالَم، أومركزِه. فما تجري في نوع الحيوان من القيامات المكررة النوعية المشهودة في كل سنة -فإن شئت فَانظُر إلى آثارِ رحمة الله في كل سنة في الثمرات المتجددةِ الأمثالِ كأنها أعيانُها، وإلى حشر أنواع الهوام والحشرات بكمال سهولة من القيامة- تجري بالحدس القطعي في كل فرد من أفراد الإنسان، فيدل كتاب العالَم في هذه الآيات التكوينية على قيام القيامة الكبرى لأبناء البشر، كما يدل القرآن عليه بالآيات التنـزيلية.. فالدلائل العقلية على القيامة ذكرتُها في «إشارات الإعجاز» وفي الباب الثالث في «نقطة» فراجعهما إن شئت، فإن فيهما ما يطرد عنك الوساوسَ ويطيّر عنك الأوهام..

اعلم أنك إذا استمعت القرآن فألبس لكلّ نغمةٍ -من نغماتهِ المتطوّرة على الحُجُب، والمتنوعة في المراتب الإرشادية، والمنصبغة بحسيات الوسائط، من جبرائيل عليه السلام إلى من تسمع منه- ما يناسبها.

فلك أن تَمُرّ بسمعك من القارئ في مجلسك إلى الاستماع من النبيِّ ﷺ الذي يقرؤه في ذروة شاهق النبوة في مجلس الأرض على أبنائها من بني آدم وغيرهم.

ولك أيضا أن تستمعَ من جبرائيل وهويخاطب النبيَّ في الأفق الأعلى عليهما الصلاة والسلام.

ولك أن تستمع من خلف سبعين ألف حجابٍ من المتكلم الأزلي، وهويتكلم مع النبي في قاب قوسين أوأدنى. فألبسْ إن استطعتَ لكلٍّ ما يليقُ به!

اعلم أن ما يتعلق بك منك من الشعور والعلم، إنما هوبدرجةِ ما يرجع إليك منك، بسر عدم الإسراف، ومناسبةِ السبب للمسبَّب، والقوةِ للعمل. وما يرجع إليك بالنسبة إلى ما يرجع إلى مَن خَلَقَك كنسبة شعرةٍ إلى حبل، وخيط إلى ثوب. فنسبةُ علمِك وشعورك المتعلقين بك بالنسبة إلى علمِه وبصره المتعلقين بك كنسبة «تنور الذباب» الذي يبرق منه النور كنُجيمة بتلمعه في النهار تحت ضياء الشمس المحيط به. وأنت في ظلمات الغفلة، وليل الطبيعة ترى لمعتَك نجما ثاقبا..

اعلم أن فيما بين أفعال الله تناسبا، وبين آثاره تشابها، وبين أسمائه تعاكسا، وبين أوصافه تداخلا، وبين شؤوناته تمازجا. إلّا أن لكلٍ طورا يخصُّه، يستتبع ما سواه في طوره. فلا يُتوجّه قصدا في بيته ودائرة حُكمه إلى غيره، ولا يُطلَب لوازمُ الغير منه، لأن لازم اللازم ليس بلازم إلّا بقصدٍ جديد. إذ التابع لا يُستتبع، كما أن الحرف التبعي لا يُحكم عليه.

فإذا نظرت من آثاره إلى الجامدات فتوجّه قصدا إلى القُدرة والعظمة، ويتراءى لك تجليات سائر الأسماء استطرادا وتَبَعيا.

فإذا نظرتَ إلى الحيوانات الغير الناطقة فألبس لها طورها، فهكذا ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عندهُ بِمِقْدَارٍ (الرعد:8) ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْديرًا (الفرقان:2).

اعلم أن «لاَ حَولَ ولاَ قُوّةَ إلاّ بالله» ينظر إلى مراتب أطوار الإنسان وأدوار وجوده من الذرات إلى الوجود الحي، معدنا جامدا، ونباتا ناميا، وحيوانا حساسا، وإنسانا مؤمنا، ففي كل مقام من تلك المنازل، ولكل لطيفة من لطائفه آلامٌ وآمال:

فلا حولَ عن العدم ولا قوةَ على الوجود إلّا باللّه..

لا حول عن الزوال ولا قوةَ على البقاء إلّا باللّه..

لا حول عن المضار ولا قوةَ على المنافع إلّا باللّه..

لا حول عن المصائب ولا قوةَ على المطالب إلّا باللّه..

لا حول عن المعاصي ولا قوةَ على الطاعات إلّا باللّه..

لا حول عن النقم ولا قوةَ على النعم إلّا باللّه..

لا حول عن المساوئ ولا قوةَ على المحاسن إلّا باللّه..

لا حول عن الآلام ولا قوةَ على الآمال إلّا باللّه..

لا حول عن الظلمات الهائلة ولا قوة على الأنوار المتلألئة إلّا باللّه العلي العظيم.