﴿اُولٰٓئِكَ عَلٰى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَاُولٰٓئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿5﴾﴾

﴿اُولٰٓئِكَ عَلٰى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾

اعلم أن المظان التي تتلمّع فيها النُّكَتُ: هي نظمُها مع سابقها، ثم المحسوسيةُ في ﴿اُولٰٓئِكَ﴾، ثم البُعْدية فيها، ثم العلوّ في ﴿عَلٰى﴾، ثم التنكير في ﴿هُدًى﴾، ثم لفظ ﴿مِنْ﴾، ثم التربية في ﴿رَبِّهِمْ﴾.

أما النظم، فاعلم أن هذه مرتبطةٌ بسابقها بخطوطِ مناسبات. منها الاستيناف، أي جوابٌ لثلاثة أسئلة مقدَّرة:

منها: السؤالُ عن المثال، كأن السامعَ بعدما سمِع أن القرآن من شأنه الهدايةُ لأشخاص من شأنهم -بسبب الهداية- الاتّصاف بأوصافٍ، أحبَّ أن يراهم وهم بالفعل تلبّسوا بتلك الأوصاف متكئين على أرائك الهداية. فأجاب مُريئاً للسامع بقوله:

﴿اُولٰٓئِكَ عَلٰى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾

ومنها: السؤال عن العلّة، كأن السائل يقول: ما بالُ هؤلاء استحقوا الهداية واختصّوا بها؟ فأجاب: بأن هؤلاء الذين امتزجت واجتمعت فيهم تلك الأوصافُ -إن تأملتَ- لجديرون بنور الهداية.

 فإن قلت: التفصيلُ السابق أجلى للعلّة من الإجمال في ﴿اُولٰٓئِكَ﴾؟

قيل لك: قد يكون الإجمال أوضحَ من التفصيل لاسيما إذا كان المطلوبُ متولداً من المجموع؛ إذ بسبب جزئيةِ ذهن السامع، والتدرّجِ في أجزاء التفصيل، وتداخلِ النسيان بينها، وتجلِّي العلّةِ من مزج الأجزاء قد لا يُتفَطّن لتولد العلّةِ. فالإجمال في ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ لأجل الامتزاج أجلى للعلّية.

ومنها: السؤالُ عن نتيجة الهداية وثمرتِها، والنعمةِ واللذة فيها؛ كأن السامع يقول: ما اللذةُ والنعمة؟ فأجاب بأن فيها سعادةَ الدارين. أي إنَّ نتيجة الهدايةِ نفسُها، وثمرتَها عينُها، إذ هي بذاتها نعمةٌ عظمى ولذةٌ وجدانية، بل جنةُ الروح؛ كما أن الضلالةَ جهنمُها. ثم بعد ذلك تثمر الفلاحَ في الآخرة.

وأما المحسوسية في ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ فإشارةٌ إلى أن ذكر الأوصاف الكثيرة سببٌ للتجسّم في الذهن، والحضور في العقل، والمحسوسيةِ للخيال. فمن العهد الذِكْريّ ينفتح بابٌ إلى العهد الخارجيّ، ومن العهد الخارجي ينتقل إلى امتيازهم، وينظر إلى تلألئهم في نوع البشر كأنه مَن رفعَ رأسَه وفتح عينيه لا يتراءى له إلَّا هؤلاء.

وأما البُعدية في ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ مع قُربيتهم في الجملة، فللإشارة إلى تعالِي رتبتِهم؛ إذ الناظر إلى البُعَداء لا يرى إلَّا أطولَهم قامةً، مع أن حقيقة البُعد الزماني والمكاني أقضى لحقّ البلاغة؛ إذ هذه الآية كما أن عصرَ السعادة لسانٌ ذاكر لها وهي تَنـزل، كذلك كلٌّ من الأعصار الاستقبالية كأنه لسانٌ ذاكرٌ لها، وهي شابةٌ طريةٌ كأنها إذ ذاك نزلَت لا أنها نزلت ثم حُكِيت. فأوائلُ الصفوف المشار إليهم بـ ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ يتراءَون من بُعْدٍ. ولأجل الرؤيةِ مع بُعدهم يُعلَم عظمتُهم وعلوُّ رتبتهم.

وأما لفظ ﴿عَلٰى﴾ فاعلم أن سرّ المناسبة بين الأشياء صيَّر أكثرَ الأمور كالمرايا التي تتراءى في أنفسها؛ هذه في تلك، وتلك في هذه. فكما أن قطعةَ زجاجةٍ تريك صحراءَ واسعة؛ كذلك كثيراً ما تذكِّرك كلمةٌ فذة خيالاً طويلاً، وتمثِّل نُصبَ عينيك هيئةُ كلمةٍ حكايةً عجيبةً. ويجول بذهنك كلامٌ في عالم المثال المثالي. كما أن لفظ «بارَزَ» يفتح لك معركة الحرب، ولفظ «ثمرة» في الآية يفتح لك باب الجنة، وقِس! فعلى هذا لفظُ ﴿عَلٰى﴾ للذهن كالكُوَّة إلى أُسلوبٍ تمثيلي، هو أنَّ هدايةَ القرآن بُراقٌ إلهيّ أهداه للمؤمنين ليَسلكوا-وهم عليه- في الطريق المستقيم سائرين إلى عرش الكمالات.

وأما التنكير في ﴿هُـدًى﴾ فيشير إلى أنه غير ﴿هُـدًى لِلْمُتَّقينَ﴾ إذ المنكَّر المكرّر غيرُ الأول في الأغلب؛ فذاك مصدرٌ وهذا حاصلٌ بالمصدر.. وهو صفة محسوسة قارَّة كثمرة الأول.

وأما لفظ ﴿مِنْ﴾ فيشير إلى أن الخلق والتوفيق في اهتدائهم -المكسوبِ لهم- من الله.

وأما لفظ الـ«رب» فيشير إلى أن الهداية من شأن الربوبية؛ فكما يربّيهم بالرزق يغذّيهم بالهداية.

﴿وَاُولٰٓئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾

اعلم أن مظانّ تحري النُكت هي: عطفُ «الواو»، ثم تكرار ﴿اُولٰٓئِكَ﴾، ثم «ضمير الفصل»، ثم الألف واللام، ثم إطلاق «مفلحون» وعدمُ تعيين وجه الفلاح.

أما العطف فمبنيٌّ على المناسبة؛ إذ كما أن ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ الأولَ إشارة إلى ثمرة الهداية من السعادة العاجلة؛ فهذا إشارةٌ إلى ثمرتها من السعادة الآجلة. ثم إنه مع أن كلاًّ منهما ثمرةٌ لكلِّ ما مرَّ، إلّا أن الأولى أنّ ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ الأول يرتبط عِرْقُه بـ ﴿اَلَّذينَ ﴾ الأولِ، الظاهر أنهم المؤمنون من الأميين، ويأخذ قوتَه من أركان الإسلامية، وينظر إلى ما قبل ﴿وَبِالْاٰخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾. و ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ الثاني ينظر برمز خفي إلى ﴿اَلَّذينَ ﴾ الثاني، الظاهر أنهم مؤمنو أهل الكتاب. ويكون مأخذُه أركان الإيمان واليقين بالآخرة. فتأمل!

وأما تكرار ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ فإشارةٌ إلى استقلال كلٍّ من هاتين الثمرتين في العلّة الغائية للهداية والسببية لتميّزهم ومدحِهم، إلّا أن الأولى أن يكون ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ الثاني إشارةً إلى الأول مع حكمه كما تقول: ذلك عالمٌ وذلك مكرَّم.

وأما ضميرُ الفصل فمع أنه تأكيدُ الحصر الذي فيه تعريضٌ بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالنبيّ عليه السلام، فيه نكتةٌ لطيفة وهي: أن توسُّط ﴿هُم﴾ بين المبتدأ والخبر من شأنه أن يحوّل المبتدأ للخبر الواحد موضوعاً لأحكام كثيرةٍ يُذكَر البعضُ ويُحال الباقيةُ على الخيال؛ لأن ﴿هُم﴾ ينَبِّه الخيال على عدم التحديد ويشوّقه على تحرّي الأحكام المناسبة. فكما أنك تضع «زيداً» بين عيني السامع فتأخذ تغزل منه الأحكام قائلا: هو عالمٌ، هو عامل، هو كذا وكذا. ثم تقول قس! كذلك لما قال ﴿اُولٰٓئِكَثم جاء ﴿هُمهيّج الخيالَ لأن يجتني ويثني بواسطة الضمير أحكاماً مناسبة لصفاتهم،كـ: أولئك هم على هدى.. هم مفلحون.. هم فائزون من النار.. هم فائزون بالجنة.. هم ظافرون برؤية جمال الله تعالى…إلى آخره.

وأما الألف واللام فلتصوير الحقيقة. كأنه يقول: إن أحببتَ أن ترى حقيقةَ المفلحين، فانظر في مرآة ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ لتمثّل لك..أو لتمييز ذواتهم، كأنه يقول: الذين سمعتَ أنهم من أهل الفلاح إن أردتَ أن تعرفهم فعليك بـ ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ فهم هم.. أو لظهور الحُكم وبداهته نظير «والدُه العبدُ» إذ كون والدِه عبداً معلومٌ ظاهر..

وأما إطلاق «مفلحون» فللتعميم؛ إذ مخاطَب القرآن على طبقاتٍ، مطالِبُهم مختلفةٌ. فبعضُهم يطلب الفوزَ من النار.. وبعضٌ إنما يقصد الفوزَ بالجنة.. وبعضٌ إنما يتحرّى الرضاء الإلهي.. وبعضٌ ما يحبّ إلّا رؤيةَ جمالِه.. وهلمَّ جرّاً.. فأطلق هنا لتعمّ مائدةُ إحسانه فيجتني كلٌّ مشتهاه.

* * *