بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مقدمة المحقق

الحمد لله والصلاة والسلام على رسولنا محمد ومن والاه، وبعد..

إن مما دفعني إلى القيام بتحقيق هذا الكتاب بهذا النمط من التحقيق المتواضع هو:

أولا: حاجتي الماسة إلى من يرشدني إلى دروب النفس الأمارة بالسوء، ويكشف لي عن دقائق مسالكها وخبايا دسائسها، ويضع أمامي علاج أمراضها المتنوعة، ومن ثم يأخذ بيدي إلى منابع الإيمان في رياض الكون الفسيح لأنهلَ منها ما أنهلُ حتى يرتوي القلبُ ويشبعَ العقل وتنبسط الروح.. بمعنى أنني قمت بهذا التحقيق لنفسي قبل كل أحد.

ثانيا: وجدت أن كثيرا من الباحثين والمفكرين يرومون الوصول إلى أصول فكر الأستاذ النورسي، ويهمهم أن يوغلوا معه في أعماق تجاربه مع النفس، وأن يرافقوه في سَرَيان روحه في أرجاء الكائنات، ويُعملوا فكرهم في ما نَصَبه من موازين علمية ومعايير منطقية ومناهج فطرية؛ فأردت أن أضع بين يديْ هؤلاء الأفاضل هذا السِفرَ النفيس من مؤلفات الأستاذ الذي عدَّه «مشتلَ رسائل النور وغراسها»، حيث فيه خلاصة أفكاره، بل إن أغلب ما أزهر من أفكاره -في رسائل النور- بذورُه كامنة في هذا الكتاب.

ولما كان الغوص في هذه الأمواج الزاخرة من الأفكار والخواطر والمسائل وإخراجُ لآلئها الثمينة ودررِها النفيسة ليس في طوقي، اكتفيت بهذا التحقيق، ليجد أولئك الكرام بين يديهم نسخة كاملة من الكتاب، فيبذلوا فيه جهدهم لعل المولى القدير يقيّض منهم من يضطلع للقيام بتلك المهمة التي أعجزُ عنها، فيسدّ جوعة الروح وهزال الفكر التي يعانى منها الكثيرون.. بمعنى أنني قمت بهذا التحقيق لهؤلاء الأكارم.

ثالثا: إنَّ كل مسلم بل كل إنسان يشعر في قرارة نفسه أنه بحاجة إلى تربية روحه وتزكية نفسه وتنمية عقله وتوسيع آفاق خياله، فتراه يتلمس مبتغاه من مظانه من الكتب.. فأردت أن أضع هذا الكتاب القيم أمام كل مسلم، بل كل إنسان ليرى نمطا جديدا وفريدا من أساليب التزكية والتربية، قلما يجده في كتاب آخر؛ حيث إنه يمزج أدق الموازين العقلية والمقاييس المنطقية بأرفع الأشواق القلبية وأسطع التفجرات الروحية ضمن أمثلة ملموسة لا تكاد تخفى على أحد، آخذا بيد القارئ برفق، متجولا معه في ميادين النفس والآفاق، مبينا له ما توصل إليه من نتائج يقينية، بعد تجارب حقيقية خاض غمارها تحت إرشاد القرآن الكريم.. بمعنى أنني أردت أن أبيّن بهذا التحقيق هذا المنهج القرآني الفريد لكل مسلم، بل لكل إنسان.

قبل كل ذلك وبعده؛ فإن قطرة من عمل خالص لوجه الله أعظم من بحر من الأعمال المشوبة، فأَمَلي بالله عظيم أن يتقبل هذا التحقيق المتواضع خالصا لوجهه الكريم، وأتضرع إليه تعالى أن يهيئ في مقبل الأيام من يوفي حق هذا الكتاب من الشرح والبيان ليعم النفع ويجزل الثواب.

* * *

ولقد سار التحقيق هذا وفق الخطوات الآتية:

1- المقابلة بين النسخ المتوفرة لديّ وهي:

أ- الطبعة الأولى من الكتاب، المطبوع في إستانبول سنة 1340-1341 هـ (1922م) وقد رمزت إليها بـ«ط1»

ب- نسخة خطية بـ«الرونيو» بخط «أحمد نظيف» أحد طلبة الأستاذ النورسي، مصحح من قبل الأستاذ نفسه، حيث كتب في الختام دعاءً رقيقا للكاتب ومساعديه.

ج- مخطوط بخط «جيلان جالشقان» الذي خدم الأستاذ النورسي وهومازال شابا ولازمه حتى وفاته. والمخطوط مصحح من قبل الأستاذ نفسه.

د- الطبعة الأخيرة من الكتاب، المطبوع في مطبعة النور سنة 1958م في أنقرة، وتتميز هذه الطبعة بتصحيح كثير من أخطاء الطبعة الأولى، ولكن ما زالت فيها أخطاء مطبعية كثيرة، فعالجتُ تلك الأخطاء واعتبرت هذه الطبعة هي المعول عليها في التحقيق.

هـ- الترجمة التركية للكتاب، وقد قام بها شقيق الأستاذ النورسي: الملا عبدالمجيد، وطبعَتْها «دار سوزلر» في إستانبول سنة 1976 وقد رمزت إليها بـ«ت».

و- مخطوط الترجمة التركية بخط «علي الصغير» أحد طلبة الأستاذ والذي كان يلقّبه بـ«ذي الروح العظيمة» وقد سجل له دعاءً لطيفا في الختام، والمخطوط هذا بالحروف العربية بخلاف المطبوع الذي هوبالحروف اللاتينية.

2- وضع بعض الفقرات، وإفادات المرام التي لا توجد إلّا في «ط1» في الهامش مع الإشارة إلى مواضعها.

3- استخراج الآيات الكريمة من القرآن الكريم ووضع اسم السورة ورقم الآية.

4- تخريج الأحاديث الشريفة الواردة على الأغلب بالمعنى، اعتمادا على كتب موثوقة.

5- استخراج الأمثال الواردة من كتاب «مجمع الأمثال للميداني».

6- رسم إملاء الكتاب حسب قواعد الإملاء الشائع اليوم، حيث كان رسم الإملاء في النسخ الأصلية والمطبوعة على الرسم القديم. مثل: الصلوة. الحيوة.

7- درج معاني بعض الكلمات في الهامش باختصار شديد؛ إذ قد صعب عليّ معاني بعض الكلمات، مما دفعني إلى مراجعة قواميس اللغة وبخاصة: القاموس المحيط للفيروزآبادي، ومختار الصحاح للرازي.

8- القيام بترجمة كل ما ورد في الكتاب بالتركية من عبارات وفقرات ورسائل. ألخّصها بالآتي:

أ- مقدمة الكتاب، حيث قد كتبها الأستاذ النورسي سنة (1954) أي بعد ما يقارب أكثر من ثلاثين سنة على تأليفه، وقد قام أخوه عبد المجيد بترجمة هذه المقدمة إلى اللغة العربية، فأعدتُ النظر فيها لتكون أكثر مشابهة بالنص.

ب- البيان الذي أُلقي في مجلس الأمة التركي.

ج- رسالة «نقطة من نور معرفة الله جلّ جلاله» كاملة.

د- بعض الهوامش أوالمقدمات المقتضبة التي وردت، وقد وضعتها بين قوسين مركنين [ ] لتمييزها عن الأصل العربي.

أما الفقرات التي وردت في الكتاب باللغة الفارسية فقد تفضل بترجمتها مشكورا الأخ الكريم «فاروق رسول يحيى» الذي وفقه الله تعالى لترجمة ونشر العديد من رسائل النور باللغة الكردية. وقد حصرنا هذه الفقرات المترجمة عن الفارسية بين قوسين مركنين مزدوجين [[ ]].

9- الإشارة في الهوامش إلى تلك المسائل التي وضّحها المؤلف -فيما بعد- في رسائل النور والتي وفقَنا المولى الكريم إلى ترجمتها.

10- توضيح بعض العبارات أوالجمل في ضوء ما جاء في الترجمة التركية للكتاب والإشارة إليها بـ«ت» ورقم الصفحة في الهامش.

11- تشكيل بعض الكلمات، ووضع علامات الترقيم لإزالة اللبس.

12- وضْع تراجم لقسم من الأعلام الواردة في الكتاب.

13- تعريف بعض المصطلحات، مع ترك الكثير منها، حيث الكتاب نفسه كفيل بشرحه، وبخاصة إذا استُعين «بالفهرس التحليلي».

14- وضْع فهارس عامة وتحليلية للموضوعات والأعلام والأماكن وغيرها تسهيلا للقارئ الكريم.

15- وأخيرا نشر رسالة «نور من أنوار نجوم القرآن» لأول مرة بإلحاقها بهذا المجلد (المثنوي) لشدة الترابط والتشابه في مباحثهما. وذلك بعد إجراء التحقيق على مخطوطها الوحيد المكتوب بخط «الحافظ توفيق الشامي» أحد طلاب الأستاذ النورسي في منفاه «بارلا». علما أن المخطوط صُحح من قبل المؤلف.

* * *

وبعد القيام بهذه الخطوات وفي أثنائها، لفتت نظري مسائلُ نحوية لغوية لا تستقيم مع ما تعلمناه في دراستنا المدرسية. فألجأتني إلى البحث عنها في بطون الكتب القديمة المعتمدة كالمغني والأشموني، والاستفسار عنها ممن لهم الباع الطويل في معرفة دقائق اللغة، فأرشدوني إلى ما فيه الصواب، جزاهم الله خيرا، حتى اطمأن القلب إلى أن ما كتبه الأستاذ النورسي هوالصحيح أوفيه الجواز. وأن ما ألِفناه ودرسناه من قواعد اللغة لا يرقى ليكون محكا في مثل هذه المسائل.

وأرى من الأفضل تلخيص عدد من تلك المسائل التي ربما تلفت نظر القارئ الكريم أيضا مع أنها لا تخفى عليه. وهي:

1- إيثاره استعمال جمع العقلاء لغير العاقل؛ إشارة إلى أن كل جزء من أجزاء العالم حيّ عاقل يسبّح لله، وعملا بما في الآية الكريمة: ﴿رَاَيْتُهُمْ لي سَاجِدينَ (يوسف:4).

2- تغليب التذكير على التأنيث، ولاسيما في الأفعال المتقدمة على الفاعل المؤنث المجازي بخلاف المتأخرة عن الفاعل.

3- استعماله الوجوه المختلفة للكلمات التي يجوز فيها التذكير والتأنيث، كالروح. وربما يستغرب القارئ من إيراد كلمة «النفس» أحيانا بصيغة التذكير، إلّا أن استغرابه يزول بمجرد قراءة العبارات التي تليها، حيث يجد أن المقصود منها «أنا» أي ذات الإنسان.

4- استعماله لمعدود «المائة» و«الألف» بصيغة الجمع أحيانا، أوتأنيثُ وتذكيرُ الصدر دون العجز في الأعداد المركبة.

وأمثالها من الأمور التي لم نألفها.

ولا يخفى أن لهذه الوجوه تخريجاتِها اللغوية وشواهدها التي تُسندها، إلّا أننا لم نوردها في مواضعها لئلا نُشغل القارئ الكريم عن الهدف الأساس من الكتاب.

5- كلمة «الذات» الدالة على الله سبحانه ترد بصيغة التذكير فمثلا: الذات الأقدس، إذ جعلها اسما للحقيقة من كل شيء فزال عنه التأنيث.

6- الإكثار من استعمال جمع المؤنث السالم، حتى في بعض الجموع، مثل: لوازمات، شؤونات، نواتات…

7- لقد تخللت الجملَ كلماتٌ تركية، استعملها الأستاذ لزيادة الإيضاح -أوقالها أثناء التدريس- وهي موضوعة بين قوسين () للتمييز، ويعقبها على الأغلب معناها بالعربية. فمثلا: إن هذا (التَّمَلْ جوروك) الأساس فاسد.. أو(شِمَنْدوفر) القطار.. (فابْريقة) المعمل.

8- استعماله كلمة «غير» معرّفة بـ«ألـ» مما لا تُستعمل في الأسلوب الحديث([1]) وقد بعث إليّ العالِم الجليل «عمر الريشاوي» رسالة يوضح فيها هذه المسألة أدرج هنا ملخصها لإزالة اللبس:

«إننا إذا أردنا كلمة «غير» صفةً للمعرفة، فلا نملك سوى اختيار أحد الطريقين:

أ- تحليتها بـ«ألـ» لتصبح معرفة وتصلحُ بالتالي صفة للمعرفة كما هومقرر نحويا.

ب- أضافتها إلى المعرفة.

ولما كان الطريق الثاني لا يحقق هدفنا، إذ بإضافتها إلى المعرفة لا تصبح معرفة، تعيّن اتخاذ الطريق الأول وهوتحليتها بـ«ألـ» ولا محيد عن ذلك، هذه من ناحية القواعد النحوية، وأما من حيث الاستعمال، فتبدوندرة استعمالها مع «ألـ»، أولا نجدها إلّا في كلام المجدِّدين.

والخلاصة: أن الكاتب أوالمتحدث يجب عليه رعاية أحد الأمرين:

إما رعاية ناحية الاستعمال وإضافتها إلى المعرفة وقبول التأويل؛ وهوأن هذه الكلمة عوملت معاملة المعرفة، كما في قوله تعالى: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ (الفاتحة:7) و﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنينَ غَيْرُ اُو۬لِي الضَّرَرِ﴾ (النساء:95).

وإما مراعاة ناحية القواعد وهوتحليتها بـ«ألـ» لأن المقام -وهوكون الاسم صفة للمعرفة- يقتضي ذلك نحويا».

ثم أبدى الأخ الكريم ملاحظة مهمة وهي:

أولا: إن المشكلة التي أصبحت مثار البحث حالة واحدة وهي كون «غير» صفة للمعرفة، أما حالاته الأخرى: فاعلا أومجرورا أومضافا أوصفة للنكرة أوحالا أوبدلا أوغير ذلك من الحالات الإعرابية الأخرى فلا أتصور أية مشكلة فيها نحوية أواستعمالية.

ثانيا: قرر المجمع اللغوي المنعقد في القاهرة في دورته الخامسة والثلاثين في شهر شباط 1969 بقبول الرأي القائل: «إن كلمة «غير» الواقعة بين متضادين تكتسب التعريف من المضاف إليه المعرفة. ويصحّ في هذه الصورة التي تقع بين متضادين، وليست مضافة أن تقترن بـ«ألـ» فتستفيد التعريف». اهـ.

* * *

وربّ سؤال يرد للخاطر:

لماذا ألّف الأستاذ النورسي هذه الرسائل باللغة العربية، والمخاطبون لا يتقنونها، علما أنه كتب رسائل النور بالتركية؟

فالجواب -والله أعلم-: أن اللغة العربية كانت هي لغة العلم في تلك الفترة (أي إلى منتصف العشرينات) وقبل استبدال الحروف العربية، رغم أن المحادثات الجارية بين الناس كانت بالتركية..

ثم إن هذه الرسائل العربية بحد ذاتها أصول وقواعد، ومناهج، وموازين مستلهَمة من نور القران الكريم، خاطب بها الأستاذ النورسي نفسَه أولا، وألزمها الحُجةَ حتى أرغمها على التسليم، فهي أعلمُ بلغته وتعابيره. ومما يُثبت ما نذهب إليه هو أن الأستاذ النورسي قد صبّ هذه المعانيَ ووسّع منها وكشف عن دقائقها في الرسائل التي ألّفها بالتركية -فيما بعدَ 1927م- تلك هي رسائل النور التي غَدَت موضعَ استفادة العالِم والمتعلم والكبير والصغير. فأدّت مهمتها المرجوة في حفظ الإيمان تجاه تيار الكفر والطغيان.

أما ما يرِد من سؤال حول تسمية الكتاب. أي لماذا سّماه الأستاذ المؤلف بـ«المثنوي» الذي يعني في الشعر أبيات مثنى مثنى، علما أن الكتاب ليس ديوانا للشعر؟

فالجواب: لقد سمّى الأستاذ النورسي هذه الرسائل بـ«الرسائل العربية» أو«المجموعة العربية» وقد كُتب على مجلد الطبعة الأولى: «قطرات من فيوضات الفرقان الحكيم». ولكن لأن فعل هذه الرسائل في القلب والعقل والروح والنفس يشبه فعل «المثنوي» لجلال الدين الرومي المشهورِ والمتداول بين أوساط الناس ولاسيما في تركيا، وأن عمله في تجديد الإيمان وترسيخه في القلب وبعثه الروح الخامد في النفوس يشبه «المثنوي الرومي» فقد سماه الأستاذ النورسي بـ«المثنوي». ولأجل تمييزه عن «المثنوي الرومي» الذي كُتب بالفارسية سماه «المثنوي العربي». ولأنه أساسٌ لرسائل النور وغراس لأفكارها ومسائلِها أضيف إليه «النوري» فأصبح الكتاب يحمل عنوان: «المثنوي العربي النوري».

ومما يجدر الإشارة إليه أن الكتاب مع أنه جامع لكثير من أساليب البيان وأنماط الاستعارة وأنواع التشبيه والجناس والطباق وغيرها من أساليب البلاغة، فإن كل قارئ -مهما كان تذوقه البلاغي- يظل مشدودا مع بلاغة المعنى وجمال المغزى أكثرَ من انشداده مع بلاغة المبنى وجمال اللفظ؛ إذ إن عمق المعاني وسعة الأفكار ودقة المسائل التي يطرقها تجعل القارئ يقول: حقا «إن الكلام البليغ هوما استفاد منه العقل والوجدان معا».

هذا ولقد أغنانا الأستاذ نفسه عن تقديم أي كلام حول سبب تأليفه للكتاب وفترة تأليفه له، حيث سجل ذلك في مقدمته البديعة، وفي إفادات المرام مستهلَّ كل رسالة.

والله نسأل أن يوفقنا إلى حسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل..

وصلّ اَللَّهُمَّ على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.

إحسان قاسم الصالحي


[1] وقد أشرنا إلى هذا أيضا في المجلد الخامس من كليات رسائل النور «إشارات الإعجاز» فمن شاء فليراجعه.