﴿اِنَّ اللّٰهَ لَا يَسْتَحْيٓ اَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَاَمَّا الَّذينَ اٰمَنُوا فَيَعْلَمُونَ اَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَاَمَّا الَّذينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَٓا اَرَادَ اللّٰهُ بِهٰذَا مَثَلًاۢ يُضِلُّ بِه كَثيرًا وَيَهْدي بِه كَثيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهٓ اِلَّا الْفَاسِقينَ ﴿26﴾ اَلَّذينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ميثَاقِهۖ وَيَقْطَعُونَ مَٓا اَمَرَ اللّٰهُ بِهٓ اَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْاَرْضِ اُولٰٓئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴿27﴾﴾

اعلم أن في هذه الآية أيضاً الوجوهَ الثلاثة النظمية، وأن مآل المجموع ينظر إلى سوابقه وإلى لواحقه وإلى مجموع القرآن.

وأما نظمُها بالنظر إلى لواحقها فاعلم أن القرآن لمّا مثّل بالذباب والعنكبوت وبحث عن النمل والنحل انتهز الفرصةَ -للاعتراض- اليهودُ وأهلُ النفاق والشركِ فتحمّقوا وقالوا: أَيتنـزّل الله تعالى مع عظمته إلى البحث عن هذه الأمور الخسيسة التي يستحي من بحثها أهلُ الكمال؟ فضرب القرآنُ بهذه الآية ضرباً على أفواههم.

وأما نظمُها بالقياس إلى سوابقها، فاعلم أن القرآن لما أثبت النبوّةَ بالإعجاز والإعجاز بالتحدِّي والتحدِّي بسكوتهم، وكذلك أثبت في رأس السورة أن القرآن مشتملٌ على صفات عالية ومزايا كاملة لا تجتمع في كلام… سكتوا في نقطة التحدي حتى لم ينبض لهم عرقُ عصبية. لكن اعترضوا وغالطوا في نقطة كماله وقالوا: إن التمثيل في أمثالِ ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾
و﴿كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَٓاءِ﴾ من الأمور العادية سببٌ لنـزالة درجة الكلام فيشبه المحاورةَ العاديةَ بين الناس؛ فالقرآن ألقَمهم حجراً وأفحمهم بهذه الآية.

وإيضاحه: أن لهم شبهات واهية منشؤها أوهامٌ متسلسلة مبناها مغالطات:

إحداها: القياس مع الفارق، ومنشؤه أنهم ينظرون إلى كل شيء بمرآة مألوفهم؛ فحينما يرَون الإنسان ذهنُه جزئي وفكرُه جزئي ولسانه جزئي وسمعه جزئي؛ لا يتعلق كلٌّ بأمرين معا بالذات، ويعرفون أن مقياس الهمّة موضوعُ المَشْغَلة والاهتمام، ويرون أن القيمةَ العظمة بنسبة الهمّة حتى إنهم لا يُسنِدون أمراً حقيراً نزيلاً إلى شخص عالٍ جليل؛ ظناً منهم
أنه لا يتنـزّل للاشتغال بمثلِه ولا يسع ذلك الأمر الحقير همّتَه العظيمة… ينظرون بهذا النظر المشبط إلى الواجب تعالى، ويقولون: كيف يتنـزّل بعظمته وجلاله للتكلّم مع البشر بمثل محاورة الإنسان وللبحث عن هذه الأمور الجزئية لاسيما هذه الأشياء المحقَّرة؟ أفلا يعقِل هؤلاء السفهاءُ أن إرادةَ الله تعالى وعلمَه وقدرتَه كليةٌ عموميةٌ شاملة محيطة، وليس مقياسُ عظمته تعالى إلّا مجموعَ آثاره، وما ميزانُ تجلّيه إلّا كافةَ كلماته التي لو كان البحرُ مداداً لها ما نفدَت. مثلاً – ﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى﴾ -: إذا ألقت الشمسُ -بعد فرض كونها مختارةً عاقلةً- ضياءها على ذرّة ملوّثة، أَيقال لها: كيف تنزّلتْ -بعظمتها- للاشتغال والاهتمام بمثل هذه الذرة؟

نعم، إن الله تعالى كما خلَق العالَم وأتقنه صُنعاً واهتم به؛ كذلك خلَق الجوهرَ الفردَ وأتقن صُنعه. ففي نظر القدرةِ الجواهرُ الفردةُ كالنجوم السيارة، لأن قدرتَه تعالى وعلمَه وإرادتَه وكلامَه لازمةٌ للذّات، وذاتية، فليست متجددةً ولا قابلةً للزيادة والنقصان ولا متغيرةً حتى يتداخل فيها المراتبُ؛ إذ العجزُ ضدٌّ لها لا يمكن تداخلُه بينها. فلا فرق بين الذرة والشمس. إذ الممكنُ بتساوي طرفَيه كالميزان ذي الكفتين، لا فرقَ في صرف القوة التي ترفعُ كفةً وتضع أخرى بين أن يكون في الكفتين شمسان أو ذرتان، وهكذا نسبةُ المقدورات بالنسبة إلى القدرة الذاتية اللازمة. وأما بالنسبة إلى قوة الممكنات العارضَة المتغيرةِ المتداخلِ بينها العجزُ فلا موازنةَ.

والحاصل: أنَّ الذرات والأمور الخسيسة لمّا كانت مخلوقةً له تعالى كانت معلومةً له بالضرورة، فلا مُشاحَّة بالبداهة أن يبحث عنها. وعلى هذا السر قال: ﴿اَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الْخَبيرُ﴾ (الملك:14) فكيف لا يبحث عنها ولا يتكلم بها مَنْ عَلِم وهو العزيز الحكيم.

وثانية المغالطات: هي أنهم يزعمون أنهم يرون في أسلوب القرآن خلفَ المتكلم تمثالَ إنسانٍ، بدليل البحث عن هذه الأشياء الحقيرة والأمور العادية كأسلوب محاورة البشر. أفلا يتذكر هؤلاء المتجاهلون أنّ الكلام كما ينظر إلى متكلِّمه بجهة؛ كذلك ينظر إلى المخاطَب به بجهات، على ما تقتضيه البلاغة للتطبيق على مقتضى حال المخاطب. فلما كان المخاطَب بشراً وكان البحثُ عن أحواله والمقصدُ تفهيمه، لبِس القرآنُ أسلوبَ البشر الممزوج بحسيّاته المسمى بـ«التنـزّلات الإلهية إلى عقول البشر» للتأنيس.. ألَا تراك إذا حاورتَ مع صبيّ تتصبّى له؟

 فإن قلت: إنَّ حقارة الأشياء وخساستها تنافي عظمةَ القدرة ونزاهةَ الكلام؟

قيل لك: إنَّ الحقارةَ والخساسة والقُبح وأمثالَها إنما هي بالنظر إلى مُلك الأشياء وجهتِها الناظرة إلينا وبالنظر إلى نظرنا السطحي، وقد وُضعَت الأسبابُ الظاهرية للتوسط في هذه الجهة لتنـزيه العظمةِ، وأما بالنظر إلى ملكوتية الأشياء فكلُّها شفّافةٌ عالية، وهذه الجهة هي محلُّ تعلّق القدرة، لا يخرج من التعلّق شيءٌ؛ فكما اقتضت العظمةُ وضعَ الأسباب في الظاهر، كذلك تستلزم الوحدةُ والعزة شمولَ القدرة لكلٍّ وإحاطةَ الكلام به؛ على أن القرآنَ المكتوبَ على ذرّة بالجواهر الفردة ليس بأقلَّ جزالةً من القرآن المكتوب على صحيفة السماء بمِداد النجوم، وأن خِلقةَ الذباب ليست بأدنى صنعاً من خِلقة الفيل. فالكلام كالقدرة.

 فإن قلت: إلى أيّ شيء تعود الحقارةُ الظاهرية في هذه التمثيلات؟

قيل لك: إنما تعود إلى الممثَّل له دون الممثِّل، فكلما كانت مطابقتُه للممثَّل له أحسنَ، كانت درجةُ الكلام أعلى ونظام البلاغة أرفع. ألا ترى أن السلطان إذا أعطى راعيه ما يليق به من اللباس وألقى إلى الكلب ما يشتهيه من العظم.. الخ، لا يقال إنه فعلَ بدعةً، بل يقال إنه أحسن بوضع كل شيء في موضعه. فإذن كلما كان الممثَّل له حقيراً كان مثالُه حقيراً، وإن كان عظيماً فعظيماً. ولما كانت الأصنام أدنى الأمور سلَّط الله الذبابَ على رؤوسها. ولما كانت عبادتُها أهونَ الأشياء جعل الله تعالى نسجَ العنكبوت عنوانها.

وثالثة المغالطات: أنهم يقولون ما الحاجة إلى أمثال هذه التمثيلات المومِئَة إلى العجز عن إظهار الحقيقة؟.

الجواب: لما كان المقصد من إنزال التنـزيل إرشادَ الجمهور، والجمهورُ عوامُّ، والعوام لا يرون الحقائق المحضة والمجرداتِ الصرفة عراةً عن متخيلاتهم، ألبَس الله تعالى بلُطفه وإحسانه الحقائقَ لباسَ مألوفاتهم لتحسن ألفتهم كما عرفتَ في سرّ المتشابهات.

أما نظم الجمَلِ بعضٍ مع بعضٍ، فاعلم أن ﴿اِنَّ اللّٰهَ لَا يَسْتَحْيٓ اَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ ردٌّ وطردٌ لاعتراضات متسلسلة. كأنهم يقولون: أيّةُ حكمةٍ في مكالمة الله تعالى مع البشر، وعتابِه عليهم، والتشكِّي منهم؛ فإنها علامةُ أن للإنسان أيضاً تصرفاً آخرَ في العالم؛ لاسيما كالمحاورة الجارية بين الناس فإنها علامةُ أنه كلامُ البشر.. ولاسيما يتراءى من خلف الكلام تمثالُ إنسان.. ولاسيما بتصويراتٍ وتمثيلات فإنها علامةُ العجز عن إظهار الحقيقة.. ولاسيما إذا كانت التمثيلات عادية فإنها علامةُ انحصار ذهن المتكلم.. ولا سيما بأمور حقيرة فإنها علامة خفّة المتكلم.. ولاسيما إذا كانت مما لا اضطرار إليه وكان تركُه أَولى.. ولاسيما إذا كان بعض تلك الأمور مما يستحي أهلُ العزّة عن البحث عنه.. ولاسيما إذا كان الباحث ذا العظمة والجلال.. فأجاب القرآن هدماً لهذه السلسلة من المبدأ إلى المنتهى بضربةٍ واحدة فقال: ﴿اِنَّ اللّٰهَ لَا يَسْتَحْيٓ…﴾ الخ؛ لأن جهة الملكوتية لا تنافي العظمةَ والجلالَ فلا يتركها ولا يهملها؛ إذ الألوهيةُ تقتضي كذلك.

فإذن يمثَّل بالأمور المحقَّرة للمعاني المحقّرة؛ إذ حكمتُه مع سر البلاغة هكذا تقتضي.. فإذن يذكر التمثيلات العادية بناء على أنها الموافقة للتربية والإرشاد.. فإذن يصوّر الحقائق بتمثيلات بناءً على ما تقتضيه العنايةُ مع التنـزّلات الإلهية.. فإذن يختار أسلوب محاورة البشر بعض مع بعض بناءً على ما تقتضيه الربوبية مع التربية.. فإذن يتكلم مع الناس بناءً على ما تقتضيه الحكمة مع النظام.

والحاصل: أن الله تعالى لمّا أودع في الإنسان جزءاً اختيارياً وجعله مصدراً لعالم الأفعال، أرسل كلامَه لينظم ذلك العالم.

وأن نظم جملةِ ﴿فَاَمَّا الَّذينَ اٰمَنُوا فَيَعْلَمُونَ اَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ هو أنه لما ذكر في الأولى المدعى، أشار بهذه إلى طريق دليله. وكذا رمَزَ وأومأ إلى وجه دفع الأوهام، أي مَن نظرَ بنور الإيمان ومن جانب الله تعالى ومن جهة قدرته -جاعلاً حكمتَه وعنايتَه وربوبيتَه نصبَ العين- عَلِم أنه حق وبلاغة. وأما من نظر من جانب حضيض نفسِه، ومن جهة الممكنات، فلا جرم ستهوي به الأوهامُ.. ومثَلُهما كمثل شخصين مُصْعِداً منحدِراً رأَيَا جداولَ ماء؛ أما أحدُهما فيصعد ويرى رأس العين ويذوق فيعلم أن الماء كلَّه عذب؛ فكلما يصادف قطعة ماء من تفرعات الجداول يتفطن -ولو بأمارة ضعيفة- أنه عذب، فلا تقدِر الأوهامُ -ولو قويةً- على تغليطه. وأما الآخر فيَتَسَفَّل وينظر من جانب التفرعات ولا يرى منبع العين فيحتاج لمعرفة عذوبة كلِّ قطعةِ ماء إلى دليل قطعي. فأدنى وهمٍ يُورّطه في الشبهة. أو كمثال شخصين بينهما مرآة ينظر أحدهما إلى الوجه الشفّاف، والآخر إلى الوجه الملوّن.

والحاصل: أنه لابد في النظر إلى صنعه تعالى أن يُنظر إليه من جانبه تعالى، مع ملاحظة عنايته وربوبيته. وليس هذا النظر إلّا بنور الإيمان، ولا تكون الأوهامُ حينئذ -ولو قوية- إلّا أوهَن من بيت العنكبوت. ولو نظر إليه من جهة الممكنات بنظر المشتري وبفكره الجزئي لقويت في عينه الأوهامُ الضعيفة فيتستر عنه الحقيقةُ كما يمنع جناحُ بعوضةٍ رؤيةَ العين لجبل الجوديّ.

وأن نظم جملةِ ﴿وَاَمَّا الَّذينَ كَفَرُوا..﴾ الخ هو: أنه لمّا أرى طريقَ فهم حكمة أسلوب التمثيلات -وهي النظر بنور الإيمان من جانب الواجب الوجود- بيّنَ هنا الطريقَ المقابل الذي هو منشأ الأوهام والتعللات، بأن ينظر من طَرَف نفسه بظلمةِ الكفر التي تصوِّر كلَّ شيء مظلماً مع مرض القلب الذي يَثقُل به أخفُّ وَهْمٍ، ثم يضلّ طريقَ الحق ثم يتردد ثم يستفهم ثم يُنكِر. فالقرآن بالإيجاز والكناية أورد -إشارة إلى استفهامهم الإنكاري- قولَه:
﴿مَاذَٓا اَرَادَ اللّٰهُ بِهٰذَا مَثَلًا﴾ بدلَ «لا يعلمون» مع أنه المطابق للسابق ظاهراً.

وأن نظم جملةِ ﴿يُضِلُّ بِه كَثيرًا وَيَهْدي بِه كَثيرًا﴾ هو: أنها جوابٌ عن صورة استفهامهم؛ فلغاية الإيجاز نُزّلَ الغايةُ والعاقبةُ منـزلةَ العلّة الغائية، كأنهم يسألون ويقولون: لأي شيء كان هكذا؟ ولِمَ لم يكن إعجازُه بدهيا؟ ولِمَ لم يكن كونُه كلامَ الله ضرورياً؟ ولِمَ صار معرضَ الأوهام بسبب هذه الأمثال؟ فأجاب القرآنُ بقوله: ﴿يُضِلُّ بِه كَثيرًا وَيَهْدي بِه كَثيرًا﴾ أي لأجل أنّ مَن تفكّر فيه بنور الإيمان ازداد نوراً، ومن تفكر بظلمة الكفر والتنقيد ازداد ظلمةً.. وهذا لأجل أنه نظريّ ليس بدهياً.. وهذا لأجل تفريق الأرواح الصافية العُلوية عن الأرواح الكدِرة السفلية.. وهذا لأجل تمييز الاستعدادات العالية بالنشوء والنماء عن الاستعدادات الخبيثة.. وهذا لأجل تمييز الفطرة الصحيحة بالتكمّل والمجاهدة والاجتهاد عن الفطرة المتفسخة الفاسدة.. وهذا لأجل أن امتحان البشر يستلزمه..

وهذا لأجل أن الابتلاء يقتضيه.. وهذا لأجل أن سرَّ التكليف لتكميل البشر وسعادته يستلزمه. فأوجزَ التنـزيلُ في الجواب.

 إن قلت: قد قلتَ إنَّ التكليف لتأمين سعادة البشر مع أنه يكون سبباً لوقوع الأكثر في الشقاوة، ولولاه لما صار التفاوتُ بهذه الدرجة؟.

قيل لك: إنَّ الله تعالى كما كلّف الجزءَ الاختياريَّ بكسبه تشكيلَ عالَم الأفعال الاختيارية؛ كذلك جعل التكليف سببَ إسقاء وإنبات البذور الغير المحصورة المودعة في روح البشر. ولولاه لبقيَت الحبوباتُ يابسة. وإذا تأملتَ في أحوال النوع بنظر نافذٍ رأيت كلَّ ترقيات الروح المعنوية، وكلَّ تكملات الوجدان الإلهية، وتكملاتِ العقل، وترقياتِ الفكر المُثمرة بدرجة تحيّر فيها العقولُ إنما وُجِدت كافةً بالتكليف.. وإنما استيقظت ببعثةِ الأنبياء..وإنما تلقّحت بالشرائع.. وإنما أُلهمَت من الأديان. ولولاها لبقي الإنسانُ حيواناً ولانعدمت هذه الكمالاتُ الوجدانية وتلك المحاسن الأخلاقية. أما القسم القليل فقبِلوا التكليف اختياراً ففازوا بالسعادة الشخصية وصاروا سبباً للسعادة النوعية. وأما القسم الكثير كميةً فهم وإن كفروا بقلوبهم وفيما هم فيه مختارون، لكن لمّا لم يكن كلُّ حالِ كلِّ كافرٍ كافراً وكلُّ صفتِه كافرةً يابسة، كانوا بسبب إيقاظ البعثة للحسِّيات الوجدانية، وتنبيهِ النبوةِ للسجايا الأخلاقية، وبتسامع الشرائعِ، وتعارفِ آثارِها بحيث قد قَبلوا أنواعاً من التكليف اضطراراً.

 فإن قلت: سعادة القليل مع شقاوة الكثير كيف تكون مَظهراً لسعادة النوع حتى تكون الشريعةُ رحمةً، مع أن سعادة النوع إنما تكون بالكلِّ أو الأكثر؟

قيل لك: إذا كان لك مائةُ بيضة ووضعتَها تحت طير، فافرخَتْ عشرين وأفسدت ثمانين؛ أفلا تقول قد تكمّل هذا النوع؟ إذ حياةُ عشرين تساوي ألوفَ بيضةٍ. أو كان لك مائةُ نواةِ تمرٍ فأسقيتها بالماء فصار عشرون منها نخلات باسقات وتفسخ ثمانون، أفلا تقول: الماءُ سعادةٌ لهذا النوع؟ أو كان لك معدن فسلطتَ عليه النارَ فأصفَت خُمسَه ذهباً وصيَّرتِ الباقي فحماً ورماداً، أفلا تكون النارُ سببَ كماله وسعادته؟ وقس على هذا! فإذن نشوءُ الحسيّات العالية ونموّ الأخلاق إنما هو بالمجاهدة، وتكمُّلُ الأشياء إنما هو بمقابلة الأضداد ومزاحمتها. ألا ترى أن حكومة إذا جاهَدت ينمو فيها الجسارةُ وإذا تركت انطفأت.. تأمل!

وأن نظم جملةِ ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهٓ اِلَّا الْفَاسِقينَ﴾ هو:

أنه لمّا أبهمَ في ﴿يُضِلُّ بِه كَثيرًا﴾ انتبه ذهنُ السامع وخاف فاستفسر قائلاً:
مَن هم الضالون؟ وما السبب؟ وكيف تجيء الظُلمةُ من نور القرآن؟.. فأجاب بأنهم الفاسقون، وأن الإضلال جزاءٌ لفسقهم، وبالفسق ينقلب النورُ في حق الفاسق ناراً والضياءُ ظلمةً. ألا ترى أن ضياء الشمس يعفّن ما استقذرت مادتُه.

وأن وجه التوصيف بقوله: ﴿اَلَّذينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ميثَاقِهۖ وَيَقْطَعُونَ مَٓا اَمَرَ اللّٰهُ بِهٓ اَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْاَرْضِ﴾ هو أنه شرحٌ وكشفٌ للفسق. إذ الفسق عدولٌ عن الحق، وتجاوزٌ عن الحد، وخروجٌ من القشر الحصين. وأن الفسق إنما هو بالإفراط أو التفريط في القوى الثلاث التي هي: القوّة العقلية، والغضبية، والشهوية.. وأن الإفراط والتفريط سببان للعصيان في مقابلة الدلائل التي كالعهود الإلهية في الفطرة.. وكذا وسيلتان لمرض الحياة النفسية وأُشير إلى هذا بالصفة الأولى.. وكذلك محرِّكان للعصيان في مقابلة الحياة الاجتماعية وتمزيق الروابط والقوانين الاجتماعية وأُشير إلى هذا بالصفة الثانية.. وأيضاً هما سببان للفساد والاختلال المنجر إلى فساد نظام الأرض وأُشير إلى هذا بالصفة الثالثة. نعم، إن الفاسق بتجاوز القوةِ العقلية عن حدّ الاعتدال يكسر رابطةَ العقائد ويمزّق القشر الحصين أي الحياة الأبدية.. وبتجاوز القوةِ الغضبية يمزّق قشرَ الحياة الاجتماعية.. وبتجاوز القوةِ البهيمية واتباع الهوى يزيل عن قلبه الشفقةَ الجنسية فيفسُد ويورّط الناسَ فيما تورط فيه، فيكون سبباً لضرر النوع وفساد نظام الأرض.

وأن نظم جملةِ ﴿اُولٰٓئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ هو: أنه لمّا ذكر جنايات الفاسق ورهّب بها أكّد التهديد بنتيجتها وجزائها ليؤثر الترهيبُ. فقال: هم الذين خسروا ببيع الآخرة بالدنيا واستبدال الهدى بالهوى.

ولنشرع في نظم هيئات جملةٍ جملةٍ، فاعلم أن الآيات وجمَلَها وهيئاتِها كأميال الساعة التي تعدّ الثواني والدقائقَ والساعاتِ، فكلما يُثبت هذا شيئاً يؤيّده ذاك بدرجته ويمدّه ذلك بنسبته، وكذا إذا أراد هذا شيئاً عاوَنه ذاك وساعده الآخر بحيث يُخطِر الحالُ ما قيل:

عِبَارَاتُنا شَتَّى وَحُسْنُكَ وَاحِدٌ    وَكُلٌ إلى ذَاكَ الْجَمالِ يُشِيرُ

ولهذا السر قد بلغت سلاسةُ القرآن وعلوُّ طبقته ودقةُ نقشه إلى مرتبة الإعجاز.

أما هيئاتُ جملةِ ﴿اِنَّ اللّٰهَ لَا يَسْتَحْيٓ اَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ فاعلم؛

أن ﴿اِنَّ﴾ للتحقيق وردِّ التردد والإنكار فهي إشارة إلى الترددات المتسلسلة المذكورة..

وأن لفظة ﴿اللّٰهَ﴾ لتنبيه الذهن على الخطأ في القياس المذكور.

وأن إيثار ﴿لَا يَسْتَحْيٓ﴾ على «لا يترك» مع أن الحياء -وهو انقباض النفس- محالٌ في حقّه تعالى ونفيُ المحال لا فائدة فيه، إشارةٌ إلى أن الأسباب من الحكمة والبلاغة وغيرهما تقتضي حسنَ التمثيل، فلا علّة للترك إلّا الحياء، والحياءُ عليه تعالى محالٌ، فلا سبب للترك أصلاً فألزمَهم أشدَّ إلزام وألطفَه.. وكذا رمزَ بمشاكلة الصُّحبة إلى كلمتهم الحمقاء من قولهم: «أما يستحي ربُّ محمد من التمثيل بهذه المحقَّرات»..

وأن إيثار ﴿اَنْ يَضْرِبَ﴾ على «من المثل الحقير» مع أنه الأنسب، إشارةٌ إلى أسلوب لطيف وهو أن التمثيل كضرب الخاتم للتصديق والإثبات، أو كضرب السكة للقيمة والاعتبار. وفي الإشارة رمز إلى حسن التمثيل طرداً للأوهام، وكذا إشارة إلى أن التمثيل منهاجٌ مشهور مستحسَن، لأن ضروب الأمثال من القواعد المعروفة.

وأن إيثار ﴿اَنْ يَضْرِبَ﴾ على «ضَرْب» مع أنه الأوجز للإيماء إلى أن منشأ الاعتراض ليس إلّا الخساسة؛ لأن ﴿اَنْ يَضْرِبَ﴾ لعدم استقلاله كأنه لطيفٌ يُمِرّ القصدَ إلى المفعول.. وأما «ضَرْب» فلاستقلاله كأنه كثيف يستوقف القصدَ.

وأن ﴿مَثَلًا﴾ إيماء إلى خاصية التمثيل من تصوير المعقول بالمحسوس، والموهومِ بالمحقق، والغائب بالشاهد. ومنه إيماء إلى ردِّ الوَهم.. وتنكير ﴿مَثَلًا﴾ رمز إلى أن مدار النظر هو ذاتُ التمثيل، وأما الصفات فمحمولةٌ على طبيعة المقام وحال الممثَّل له.

وأن التعميم في ﴿مَا﴾ إشارة إلى تعميم القاعدة لئلا يختص الجواب بما اعترضوا به فالممثَّل له أيّةَ صورة اقتضى استحسنتها البلاغةُ.

وأن تخصيص ﴿بَعُوضَةً﴾ إشارةٌ إلى كثرة استعمال البلغاء للتمثيل بها، كقولهم: «أضعفُ من البعوضة» و«أشدُّ عناداً من البعوضة» و«كلفتني مخَّ البعوضة» و«أعزُّ من مخ البعوضة» و«قالت البعوضة للنخلة استمسكي أنا أطير» و«الدنيا لا توزن عند الله جناح بعوضة» وقس.. وفي الإشارة رمز إلى ضعف وَهمهم.. وأن المعنيّ بـ ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ ما دونها في الصغر وما فوقها في قيمة البلاغة أو في الصغر أيضاً، فالتعبير بـ ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ إشارة إلى أن الصغير أغربُ بلاغةً وأعجب خِلقةً.

واعلم أن الهيئات كخيوط الحرير؛ باجتماعها يظهر النقشُ الحسَن.

وأما هيئات جملةِ ﴿فَاَمَّا الَّذينَ اٰمَنُوا فَيَعْلَمُونَ اَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَاَمَّا الَّذينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَٓا اَرَادَ اللّٰهُ بِهٰذَا مَثَلًا﴾:

فاعلم أن «الفاء» للتفريع، والتفريع إشارة إلى دليل ضمني ينتج هذه الجملةَ ذات الشقين: أي لا يترك التمثيل لأن البلاغة تقتضيه؛ فمن أنصف يعرف أنه بليغ وحق وكلام الله تعالى. ومن نظر بالعناد لا يعلم الحكمة، فيتردد، فيسأل، فينكر، فيستحقر… فأنتج: إن المؤمن -لأنه منصف- يصدِّق أنه كلام الله، والكافر -لأنه معاند- يقول: ما الفائدة فيه؟

وأن ﴿اَمَّا﴾ فلأنها شرطية لزومية في الوضع إشارة إلى أن الخبر لازم للمبتدأ وضروريّ له، يعني من شأن المبتدأ هذا الخبر.

وأن إيراد ﴿الَّذينَ اٰمَنُوا﴾ بدل «المؤمنين» إشارة إلى التنصيص على أن الإيمان هو سبب العلم بحقيته، وأن العلم بحقّيته إيمان.

وأن ﴿اَنَّهُ الْحَقُّ﴾ بدلَ «أنه البليغ» الأنسبِ بالمقام إشارة إلى آخِر نتيجة اعتراضهم، إذ غرضُهم نفيُ كونه كلام الله.

وأنّ حصْرَ ﴿اَنَّهُ الْحَقُّ﴾ إشارة إلى أن هذا هو المستحسن الذي لا يُستقبَح بخلاف ما يزعمون؛ إذ السلامةُ من العيب لا تُثبت الكمالَ.

وأن ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ إشارة إلى أن هدف غرضهم إنكار النـزول.

وأن ﴿اَمَّا﴾ في ﴿وَاَمَّا الَّذينَ كَفَرُوا﴾ للتأكيد والتحقيق والتفصيل.

وأن إيراد ﴿الَّذينَ كَفَرُوا﴾ بدل «الكافرين» الأوجزِ إيماءٌ -كما مرَّ- إلى أن إنكارهم يجيء من الكفر ويذهب إلى الكفر.

وأن إيثار ﴿فَيَقُولُونَ﴾ على «فلا يعلمون» -مع أنه الظاهر كما مرَّ- فلاختيار طريق الكناية للإيجاز أي مَن كفر لا يعرف الحقيقةَ فينجرّ إلى التردد.. فينجر إلى الإنكار.. فينجر إلى الاستحقار بصورة الاستفهام.

وأيضاً في ﴿يَقُولُونَ﴾ رمز إلى أنهم كما كانوا ضالّين، كذلك كانوا مُضلّين بأقوالهم.

وأما هيئات جملةِ ﴿يُضِلُّ بِه كَثيرًا وَيَهْدي بِه كَثيرًا﴾، فاعلم أن الترتيب يقتضي تقديمَ الثانية لكن لما كان الغرضُ ردّ اعتراض المتردِّد المستفهِم المستنكِر المستقبِح، كان ﴿يُضِلُّ﴾ أهمَّ. أما العدولُ عن «الضلالة والهداية» المناسِبتين للسؤال إلى صورة
الفعل المضارع فإشارة إلى أن كفرهم يتكاثف ظلمةً على ظلمةٍ بنسبة تزايد النـزول تجدداً؛ كما أن المؤمن يتزايد إيمانُه بدرجات النـزول نوراً على نور.. وكذا في الفعل -بناء على كونه جواباً- رمزٌ إلى بيان حال الفريقين وبيان السبب.

وأما ﴿كَثيرًا﴾ ففي الأُولى كميةً وعدداً، وفي الثانية قيمةً وكيفيةً. نعم، إن كرامَ الناس كثيرون وإن قلّوا. فالتعبير بالكثير في الثانية رمز إلى سرّ كون القرآن رحمة للبشر. تأمل.

وأما جملةُ ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهٓ اِلَّا الْفَاسِقينَ﴾: فاعلم أنه لما ذكر الكثير في الأولى دفع الوسوسة والخوف والتردد وتهمة النقص في القرآن ببيانِ أن الضالين مَن هم؟ وأن منشأ الضلالة فسقُهم، وأن سببَها كسبُهم، وأن القصورَ منهم لا من القرآن، وأن خلق الضلالة جزاءٌ لفعلهم..

ثم اعلم أن كل واحدة من هذه الجمل كما أنها كشّافةٌ لسابقتها؛ كذلك مفسَّرةٌ بلاحقتها كأنها دليل للسابقة نتيجة للاحقة.

وإيضاحه: أن فيها سلسلتين.

إحداها هكذا: إنه لا يستحيي.. لأنه لا يترك.. لأنه بليغ.. لأنه حق.. لأنه كلام الله.. لأن المؤمن يعلمه.

والثانية هكذا: إنه لا يستحيي كما يقول المنكِرُ.. لأنهم يقولون: يلزم تركه.. لأنهم لا يعلمون حكمتَه.. لأنهم يقولون: ما الفائدة فيه.. لأنهم ينكرونه.. لأنهم يستحقرونه.. لأنهم يقعون في الضلالة بسماعه.. لأنهم يضلّهم القرآن.. لأنهم هم الذين فسقوا وخرجوا عن قشرهم.. لأنهم نقضوا عهد الله.. لأنهم مزّقوا ما اتصل بأمر التكوين والتشريع.. لأنهم يفسدون النظام الإلهيّ في الأرض. فإذن هم الخاسرون في الدنيا باضطراب الوجدان، وبقلق القلب، وبتوحش الروح، وفي الآخرة بالعذاب الأبديّ وبغضب الله… فتأمل في سلاسة السلسلتين!

وأما هيئات جملةِ ﴿اَلَّذينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ميثَاقِهۖ وَيَقْطَعُونَ مَٓا اَمَرَ اللّٰهُ بِهٓ اَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْاَرْضِ﴾: فاعلم أن توصيف الفاسقين المشكِكين في إعجازه ونظمه بهذه الأوصاف في هذا المقام، إنما هو لمناسبةٍ لطيفةٍ عاليةٍ. كأن القرآن يقول: ليس ببعيد من الفساق -الذين لم يروا إعجاز القدرة في نظام الكائنات التي هي القرآن الأكبر- أن يترددوا ويجهلوا إعجاز نظم القرآن؛ إذ كما يرون نظام الكائنات تصادفياً، والتحولاتِ المثمرةَ عبثاً اتفاقيةً فتستر عنهم -لفساد روحهم- حِكَمُه؛ كذلك بفطرتهم السقيمة وتهوّسهم الفاسد رأوا النظْمَ المعجِز مشوَّشاً ومقدماتِه عقيمةً وثمراتِه مُرّةً.

أما جملةُ ﴿يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ﴾ فـ-لأن النقض لغةً تفريق خيوط الحبل وتمزيقُها- إشارةٌ إلى أسلوب عال، كأن عهده تعالى حبل نوراني فُتِلَ بالحكمة والعناية والمشيئة فامتد من الأزل إلى أن اتصل بالأبد، فتجلّى في الكائنات بصورة النظام العمومي، وأَرسلتْ تلك السلسلةُ سلاسلَها إلى الأنواع وامتدّ أَعْجُبُها إلى نوع البشر فأورثَت وأثمَرت في روح البشر بذورَ استعداداتٍ وقابلياتٍ تُسقَى وتتزاهر بالجزء الاختياريّ المعدَّل بالأمر التشريعيّ، أي الدلائل النقلية. فوفاءُ العهد: صرف الاستعدادات فيما وُضعَت له؛ ونقضُ العهد خلافُه وتفريقُه، كالإيمان ببعض الأنبياء وتكذيب بعض، وقبولِ بعض الأحكام وردِّ بعض، واستحسانِ بعض الآيات واستنكار بعض. فإنه يخل بالنظام والنظم والانتظام.

وأما جملة: ﴿وَيَقْطَعُونَ مَٓا اَمَرَ اللّٰهُ بِهٓ اَنْ يُوصَلَ﴾ : فاعلم أن هذا الأمر عام للأمر التشريعيِّ والأمر التكوينيِّ المندمج في القوانين الفطرية والعادات الإلهية. فالقطعُ لِما أُمر بوصله شرعاً كقطع صلة الرحم، وقطع قلوب المؤمنين بعضٍ عن بعض. وعلى هذا القياس. وتكويناً كقطع العمل عن العلم، وقطعِ العلم عن الذكاء، وقطع الذكاء عن الاستعداد، وقطعِ معرفة الله عن العقل، وقطعِ السعي عن القوة، وقطعِ الجهاد عن الجسارة وهكذا.. إذ إعطاءُ القوةِ أمرٌ معنوي تكويني بالسعي، وإعطاءُ الذكاء أمر معنويّ بالعلم.. إلى آخره.

وأما جملة: ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْاَرْضِ﴾: فاعلم أن من فسدَ وتورّط في الوحَل يطلب أن يكون له رفقاءُ متورطون ليتخفف عنه دهشةُ الحال بسرِ «إذا عمّت البلية طابت»، وكذا إذا وقع في قلب أحدٍ اختلالٌ، يتخرّب في قلبه الكمالاتُ وتتساقط الحسياتُ العالية، فيتولد فيه ميلُ التخريب فينتج له لذة في التخريب فيتحرى لذتَه في الإفساد والاختلال.

 فإن قلت: كيف يؤثر إفسادُ فاسق في عموم الأرض المشار إليه بلفظ «في الأرض»؟

قيل لك: الذي فيه نظام ففيه موازنة، حتى إن النظام مبنيٌ على الموازنة، فتداخل شيء حقير بين دواليب ماكينة تتأثر به، وإن لم يُحَس. والميزان الذي في كفتيه جبلان يتأثر بوضع جوزة على كفة.

وأما جملة: ﴿اُولٰٓئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ : فاعلم أن حق العبارة «هم خاسرون في عدم الهداية به» فلفظ ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ ولفظ ﴿هُمُ﴾ والتعريفُ والإطلاقُ لنكت:

أما ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ فلأن وضعَه لإِحضار محسوسٍ، فالإِحضار المستفاد منه إشارة إلى أن السامع إذا سمع حالَهم الخبيثة، من شأنه أن يحصل له حدّةٌ عليهم ونفرةٌ منهم. فلتطمين نفرته وتشفّي حدّتِه يطلب أن يُستحضَروا إلى خياله ليشاهدهم وقت اتصافهم بالعاقبة الوخيمة.. والمحسوسيةُ إشارة إلى أن أوصافَهم الرذيلة تكثّرت بدرجة تُجسّمُهم محسوسين نصبَ نظر النفرة. فمن الإِشارة إيماء إلى علة الحكم بالخسارة.. والبُعدية إشارة إلى أنهم قد بعدوا عن طريق الحق بدرجة لا يرجعون، فيستحقون الذم والتشنيع بخلاف من كان في معرض الندامة ومسافة الرجوع.

و ﴿هُمُ﴾ إشارة إلى أن الخسارة منحصرةٌ عليهم حتى إن خسارات المؤمنين لبعض اللذائذ الدنيوية ليست خسارة. وكذا خسارات أهل الدنيا في تجاراتهم ليست خسارة بالنسبة إلى خساراتهم.

و«الألف واللام» إشارة إلى تصوير الحقيقة أي مَن أراد أن يرى حقيقة الخاسرين فلينظر إليهم.. وكذا إيماء إلى أن مسلكَهم محضُ خسارة لا كالخسارات الأُخر التي فيها وجوهٌ من النفع لكن الضرَّ أكثر. فالتعريف إما للكمال أو للبداهة أو لتصوير الحقيقة.

وإطلاق الخسارة إشارة -بإعانة المقام الخطابيّ- إلى عموم أنواع الخسارات، أي خسروا في وفاء العهد بالنقض، وفي صلة الرحم بالقطيعة، وفي الإصلاح بالإفساد، وفي الإيمان بالكفر، وبالشقاوة خسروا السعادة الأبدية.

* * *