[تعديل الشفقة المفرطة]

حقيقة تعيد الصواب للمنساقين إلى مسالك البدع والضلالة بشفقتهم المفرطة

لما كانت شفقة الإنسان تجلياً من تجليات الرحمة الربانية، فلا ينبغي تجاوز درجة الرحمة الإلهيــة والمغالاة أكثر من رحمة من هو رحمة للعالمين ﷺ، فلو تجاوزها وغالى بها فإنها ليســت رحمة ولا رأفــة قط، بـل هي مرض روحي وســـقم قلبي يفضي إلى الضـلالـة والإلحاد.

فمثلاً: إن الانسياق إلى تأويل عذاب الكفار والمنافقين في جهنم، وما يترتب على الجهاد وأمثالها من الحوادث -من جراء ضيق شفقة المرء عن استيعابه وعدم تحملها له- إنكار لقِسم عظيم من القرآن الكريم والأديان السماوية وتكذيب له، وهو ظلم عظيم وعدم رحمة في منتهى الجور في الوقت نفسه؛ لأن حماية الوحوش الكاسرة والعطفَ عليها، وهي التي تمزق الحيوانات البريئة، غدر عظيم تجاه تلك الحيوانات البريئة، ووحشية بالغة نابعة من فقدان الوجدان والضمير.

فالتعاطف إذن وموالاةُ أولئك الذين يبيدون حياة ألوف المسلمين الأبدية ويمحونها، ويسوقون مئات المؤمنين إلى سوء العاقبة بدفعهم إلى ارتكاب الذنوب والخطايا، والدعاءُ لأولئك الكفار والمنافقين، رحمةً بهم وعطفاً عليهم لينجوا من العقاب الشديد، لا شك أنه ظلم عظيم وغدر شنيع تجاه أولئك المؤمنين المظلومين.

وقد أثبتتْ رسائل النور إثباتاً قاطعاً: أن الكفر والضلالة تحقير عظيم للكائنات وظلم شنيع للموجودات، ووسيلة لرفع الرحمة الإلهية ونزول المصائب والبلايا، حتى وردت روايات من أن الأسماك التي في قعر البحر تشكو إلى الله ظلم الجناة، لسلبهم راحتها.

ولهذا فالذي يرأف ويعطف على تجرع الكافر صنوف العذاب في النار، يعني أنه لا يرأف ولا يعطف على أبرياء لا يحصيهم العد ممن هم أليق بالرأفة وأجدر بالعطف بل ولا يشفق عليهم، بل يظلمهم ظلماً فاضحاً.

ولكن هناك أمر آخر وهو أن البلاء عندما ينـزل بالمستحقين له، يُبتلى به الأبرياء أيضاً.

وعندها لا يمكن عدم الرأفة بهم. إلّا أن هناك رحمة خفية لأولئك الأبرياء المظلومين الذين تضرروا من ذلك البلاء النازل بالجناة.

ولقد كنت -في وقت ما في الحرب العالمية الأولى- أتألم كثيراً من المظالم والقتل الذي يرتكبه الأعداء تجاه المسلمين ولاسيما تجاه أطفالهم وعوائلهم، وكنت أتعذّب عذاباً يفوق طاقتي -لما فيّ من شفقة مفرطة ورأفة متزايدة- وحينها ورد على القلب فجأة الآتي:

إن أولئك الأبرياء المقتولين يُستشهدون ويصبحون أولياء صالحين، وإن حياتهم الفانية تُبدل إلى حياة باقية، وإن أموالهم الضائعة تصبح بحكم الصدقة فتبدل أموالاً باقية. بل حتى لو كان أولئك المظلومون كفاراً فإن لهم من خزينة الرحمة الإلهية مكافآت كثيرة بالنسبة لهم -مقابل ما عانَوا من البلاء في الدنيا- بحيث لو رفع ستار الغيب فإن ما ينالونه من رحمة ظاهرة يدفعهم إلى أن يلهجوا بـــ«الشكر لله والحمد لله».

عرفتُ هذا، واقتنعت به قناعة تامة، ونجوت بفضل الله من الألم الشديد الناشئ من الشفقة المفرطة.

* * *

[نظرة إلى رسالة «المناظرات»]

لقد ألقيت نظرة إلى رسالة «المناظرات» وذلك بعد مرور خمس وثلاثين سنة على تأليفها، فرأيت فيها وفي أمثالها من مؤلفات «سعيد القديم» أخطاءً وهفوات. إذ ألّف تلك الآثارَ في حالة روحية ولّدها الانقلاب السياسي.([1]) وأنشأتها مؤثرات خارجية وعوامل محيطة به.

إنني أستغفر الله بكل حولي وقوتي من تلك التقصيرات راجيا من رحمته تعالى أن يغفر تلك الخطايا التي ارتكبتُها بنية حسنة وبقصد جميل، لدفع اليأس المخيّم على المؤمنين.

إن أساسين مهمّين يهيمنان على آثار «سعيد القديم» -كهذه الرسالة- والأساسان ذوا حقيقة ولكن، كما تحتاج كشفيات الأولياء إلى تأويل، والرؤى الصادقة إلى تعبير، فإن ما أحس به «سعيد القديم» بإحساس مسبق -أي قبل وقوع الأمر- بحاجة كذلك إلى تعبير، بل إلى تعبير دقيق. إلّا أن إخباره عما توقع حدوثَه، وبيانه تلكما الحقيقتين بلا تأويل ولا تعبير، أدّى إلى ظهور شيء من النقص والقصور وخلاف الواقع فيما أخبر عنه.

الأساس الأول: هو ما زفّه من بشرى سارة للمؤمنين بظهور نورٍ في المستقبل. زفّ هذه البشرى ليزيل بها يأسهم ويرفع عنهم القنوط، فلقد أحسّ بإحساس مسبق أن رسائل النور ستنقذ إيمان كثير من المؤمنين، وستشد أزرهم في زمان عصيب عاصف. إلّا أنه نظر إلى هذا النور، من خلال الأحداث السياسية التي واكَبت الانقلاب وحاول تطبيق ما رآه من نور على واقع الحال من دون تعبير ولا تأويل. فوقع في ظنه أن ذلك النور سيَظهر في عالم السياسة وفي مجال القوة وفي ميدان فسيح. فقد أحسّ إحساسا صادقا إلّا أنه لم يوفّق في التعبير عن بُشراه توفيقا كاملا.

الأساس الثاني: لقد أحس «سعيد القديم» ما أحسّ به عدد من دهاة السياسة وفطاحل الأدباء؛ بأن استبداداً مريعاً مقبلٌ على الأمة، فتصدّوا له، ولكن هذا الإحساس المسبَق كان بحاجة إلى تأويل وتعبير، إذ هاجموا ما رأوه من ظل ضعيف لاستبدادات تأتي بعد مدة مديدة وألقت في نفوسهم الرعب، فحسبوا ظل استبداد ليس له إلّا الاسم استبداداً أصيلاً، فهاجموه. فالغاية صحيحة إلّا أن الهدف خطأ.

وهكذا فلقد أحسّ «سعيد القديم» أيضا بمثل هذا الاستبداد المخيف فيما مضى. وفي بعض آثاره توضيحات بالهجوم عليه، وكان يرى أن المشروطية الشرعية وسيلة نجاةٍ من تلك الاستبدادات المرعبة. لذا سعى في تأييدها بالحرية الشرعية والشورى ضمن نطاق أحكام القرآن، آملا أن تدفعا تلك المصيبة.

نعم، لقد أظهر الزمانُ أن دولة تسمى داعيةَ الحرية قد كبّلت بثلاثمائةٍ من موظفيها المستبدين ثلاثمائة مليونٍ من الهنود، منذ ثلاثمائة سنة، وسيطرت عليهم كأنهم ثلاثمائة رجل لا غير، حتى لم تتركهم يحرّكون ساكنا. ونفذّت قانونها الجائر عليهم بأقسى صورة من صور الظلم، آخذةً آلاف الأبرياء بجريرةِ مجرم واحد. وأعطت لقانونها الجائر هذا اسمَ العدالة والانضباط. فخَدَعت العالَم ودفعته إلى نار الظلم. هذه الدولة غدت مقتدى ذلك الاستبداد القادم في المستقبل.

وفي رسالة «المناظرات» هوامش قصيرة، وملاحظات وردت على صورة طُرف ولطائف، فهي من قبيل الملاطفة مع قسم من طلابه الظرفاء في تأليفه القديم ذاك، إذ قد وضّح لهم الأمور بأسلوب الدرس والإرشاد.

ثم إن زبدةَ هذه الرسالة «المناظرات» وروحَها وأساسها، هي ما في خاتمتها من حقيقةِ إقامةِ «مدرسة الزهراء»، وما هي إلّا المهد الذي سيشهد ظهور «رسائل النور» في المستقبل. فكان يُساق إلى تأسيسها دون إرادة منه. ويتحرى -بحس مسبق- عن تلك الحقيقة النورانية في صورة مادية حتى بدت جهتها المادية أيضا، إذ مَنَح السلطان رشاد تسع عشرة ألف ليرة ذهبية لتأسيس تلك المدرسة، وأُرسيت قواعدُها فعلا، إلّا أن اندلاع الحرب العالمية الأولى حال دون إكمال المشروع.

ثم بعد حوالي ست سنوات ذهبتُ إلى أنقرة، وسعيت في إنجاز تلك الحقيقة. وفعلاً وافق مائة وثلاثة وستون نائباً في مجلس الأمة من بين مائتي عضو على تخصيص خمسة عشر ألف ليرة ورقية لبناء مدرستنا، ولكن يا للأسف -ألف ألف مرة- سُدّت جميع المدارس الدينية، ولم أستطع أن أنسجم معهم فتأخر المشروع أيضاً.

بيد أن المولى القدير أسس برحمته الواسعة الخصائص المعنوية لتلك المدرسة وهويتها في «إسبارطة» فأظهر «رسائل النور» للوجود. وسيوفق -إن شاء الله- طلاب النور إلى تأسيس الجهة المادية لتلك الحقيقة أيضا.

إن سعيدا القديم على الرغم من معارضته الشديدة لمنظمة «الاتحاد والترقي» فإنه مال إلى حكومتها ولاسيما إلى الجيش، حيث وقف منهم موقف تقدير وإعجاب والتزام وطاعة. وما ذاك إلّا بما كان يحس به من إحساس مسبَق من أن تلك الجماعات العسكرية والجمعية الملية سيظهر منهم بعد سبع سنوات مليون من الشهداء الذين هم بمرتبة الأولياء. فمال إليهم طوال أربع سنوات دون اختيار منه، وبما يخالف مشرَبه. ولكن بحلول الحرب العالمية وخضّها لهم أُفرز الدهن المبارك من اللبن فتحول إلى مخيض لا قيمة له. فعاد «سعيد الجديد» إلى الاستمرار في جهاده وخالف سعيدا القديم.

* * *

[حول المؤلفات الأخرى]

إلى إخوتي «الخواص» من طلاب رسائل النور، وهم أصحابها و وارثوها وإلى «الأركان» وهم ركائز رسائل النور وخواص الخواص، أبيّن ما يأتي لمناسبة حادثة وقعت في هذه الأيام:

إن رسائل النور تسد الحاجة التي تخص الحقائق الإسلامية، فلا تدع حاجةً إلى مراجعة مؤلفات أخرى.

ولقد عُلم بتجارب كثيرة قاطعة؛ أن أقصرَ طريق وأسهلَه لإنقاذ الإيمان وتقويته وجعله تحقيقيا هو في رسائل النور.

نعم، إن رسائل النور تقطع ذلك الطريق في خمسة عشر أسبوعا بدلا من خمس عشرة سنة، فتبلغ بالمرء الإيمانَ الحقيقي.

وبينما كان أخوكم هذا الفقير شغوفا بالمطالعة قبل عشرين سنة، حتى كان يطالع -بفهم- كتابا مجلدا أحيانا في يوم واحد، فقد كفاه منذ ما يقرب من عشرين سنة القرآنُ الكريم ورسائل النور المفاضة منه. فلم أحتج حتى إلى كتاب واحد. ولم أحتفظ بأي كتاب عندي.

وعلى الرغم من أن أبحاث رسائل النور تدور حول حقائق متنوعة جدا، فإنني لم أجد حاجة إلى مراجعة أي كتاب كان في أثناء تأليفها منذ عشرين سنة. فلا شك أنكم لا تحتاجون كذلك إلى مؤلفات أخرى وتستغنون عنها أكثر مني بعشرين درجة.

ثم إنني لما كنت قد اعتمدت عليكم وما زلت معتمدا، فلا ألتفت إلى غيركم، ولا أنشغل بسواكم. فينبغي لكم أيضا أن تثقوا برسائل النور وتطمئنوا بها، بل هذا هو الألزم في هذا الوقت.

ثم إنه لمباينة المسلك والمشرب في مؤلفات بعض المؤلفين الجدد في الوقت الحاضر ومسايرتها البدع، فإن إحدى مهمات رسائل النور هي الحفاظ على الحروف والخط القرآني فضلا عن حفاظها على الحقائق الإيمانية تجاه الزندقة. ولقد اشترى أحد الخواص مؤلفات يستعملها بعض العلماء -تحت ستار العلوم الدينية- في إنـزال الضربات القوية على الحروف والخط القرآني، اشتراه لهوى مجهول مع أنه يدرّس الحروف القرآنية. فشعرت -دون علمي به- امتعاضا نحو أولئك الطلاب الخواص وأنا في الجبل. ثم نبهتهم فانتبهوا بفضل الله. نسأله تعالى نجاتهم نجاة تامةً.

إخوتي!

إن مسلكنا دفاعٌ لا اعتداء، ترميم لا تخريب، ونحن محكومون لا حكام. فالذين يتعدّون علينا كثيرون لا يُحصون. ولا شك أن في مسلكهم حقائقَ مهمة هي بضاعتُنا نحن، فلا حاجة لهم إلينا في انتشار تلك الحقائق، فلهم الألوف ممن يقرؤونها وينشرونها. فنحن بسعينا لمعاونتهم تتزعزع كثير من الوظائف التي وُضعت على كاهلنا ونكون وسيلة إلى ضياع ما يجب محافظته من أسس وحقائق رفيعة تخص الطوائف، كلا على حدة.

فمثلا: لقد أُلّفت مؤلفات تهيئ لنوع من العداء للأولياء متخذةً بعض الرخص الشرعية ستارا، وأحداثَ الزمان حجةً، فإن الوظيفة الأساس لرسائل النور -من دون أن تشملها العموم- هي الحفاظ على أساس الولاية الجارية ضمن الحقائق الإسلامية، وأساسِ التقوى، وأساسِ الأخذ بالعزيمة، وأسسِ السنة النبوية الشريفة وأمثالها من الأسس الدقيقة المهمة، فلا يمكن ترك تلك الأسس بحجة الضرورة وحادثات الزمان.

* * *

[تأويل حديث متشابه]

لعدم وضوح المعاني الحقيقية لأحاديث صحيحة تخص نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان وقتله الدجال، فإن قسما من العلماء الظاهريين -أخذاً بظاهر تلك الروايات والأحاديث- قد وقعوا في الشبهات أو أنكروا صحتها، أو ألبسوها معنى خرافيا بما يشبه انتظار صورة محالة، فيضرون عوام المسلمين. أما الملحدون فينشرون أمثال هذه الأحاديث البعيدة عن العقل ظاهرا، فيشنون هجوما على الحقائق الإسلامية مستخِفّين بها.

أما رسائل النور فقد أظهرت -بفيض القرآن- التأويلاتِ الحقيقية لأمثال هذه الأحاديث المتشابهة.

والآن نقدم مثالا واحدا كأنموذج وهو الآتي:

هناك رواية تفيد أن عيسى عليه السلام عند جهاده الدجال وأثناء قتله له يقفز بمقدار عشرة أذرع ليتمكن من ضرب ركبة الدجال بسيفه.

بمعنى أن جسم الدجال أضخم من عيسى عليه السلام بهذه الدرجة. وعلى هذا المعنى يلزم أن يكون طول الدجال عشرة أمثال طول عيسى عليه السلام بل عشرين مثلا.

فالمعنى الظاهري لهذه الرواية مناف لحكمة التكليف الإلهي وحكمة الامتحان، مثلما لا يوافق عادة الله الجارية في البشرية.

والحال أنه ظهر معنى من المعاني الكثيرة لهذه الرواية ولهذا الحديث حتى في هذا الزمان. بما يُسكت الزنادقة الذين يظنونها خرافة -حاش لله- وينبه العلماء الظاهريين المعتقدين الظاهرَ عينَ الحقيقة والذين مازالوا منتظرين تحقّق الحديث، رغم مشاهدتهم لقسم من حقائقه.

نعم، لقد ظهر حتى في هذا الزمان معنى من معانيه الكثيرة، تلك المعاني التي هي عين الحقيقة والانسجام التام مع الواقع.

والمعنى هو الآتي: إن حكومةً تسعى لنشر الدين العيسوي وتحاول الحفاظ على عاداته المستمرة، تحاربها حكومةٌ تعلن مساعدتها رسميا للإلحاد وللبلشفية، لأجل منافعها الخسيسة، بل تسعى للدعاية لها. وحكومة أخرى تنحاز إلى بث الإلحاد بين أوساط المسلمين وفي آسيا عامة لأجل منافعها الخسيسة الفاسدة وتحالِف حكومات دساسة جبارة. فلو تَمثّل الشخصُ المعنوي للحكومة الأولى، وتجسّم الشخص المعنوي للمتحالفين المنحازين للإلحاد، لظهر معنىً من المعاني العديدة لهذا الحديث في هذا الزمان بجهات ثلاث. فإن أحرزت تلك الحكومة الغالبةُ النصرَ نتيجة الحرب ارتفع هذا المعنى الإشاري إلى درجة المعنى الصريح، وإن لم تُحرز النصر تماما فهذا المعنى أيضا هو معنى إشاري موافق.

الجهة الأولى: جماعة الروحانيين المتمسكين بالدين العيسوي الحقيقي، وفي مقابلهم الجماعة التي بدأت تروّج للإلحاد، فإذا ما تجسمت تلكما الجماعتان بصورة إنسان، فإن الجماعة الأولى لا تصبح حتى بقدر طفل أمام إنسان بارتفاع منارة.

الجهة الثانية: حكومة تُعد أفرادها مائة مليون نسمة تعلن رسميا: إنني سأزيل الإلحاد وأحمي الإسلام والمسلمين، تحارب حكومة تحكم أربعمائة مليون ومتحالفة مع الصين وأمريكا -أي بأربعمائة مليون نسمة- هذه الحكومات متحالفة علنا مع البلاشفة. فلو تجسم المحاربون في الحكومة الأولى الذين يُنـزلون ضرباتهم القاصمة بأولئك المتحالفين وتَجَسَّمَ الملحدون والمتحالفون معهم في شخص معنوي آخر، لظهرت صورةُ إنسان صغير تجاه إنسان بارتفاع منارة. هذا وقد ورد في رواية أن الدجال يحكم الدنيا، فهذه الرواية تعني أن الغالبية العظمى تميل إليه. كما هو واقع الآن!

الجهة الثالثة: أن حكومة لا تساوي مساحتها ربع مساحة أوروبا -وهي أصغر القارات الأربع- تحارب منتصرةً حكومةً تسيطر على أغلب بقاع العالم من آسيا وإفريقيا وأمريكا وأستراليا، وإن الحكومة الأولى تستند إلى الدين وفي حلف مع دولة تدّعى الوكالة عن سيدنا عيسى عليه السلام، تجاه التيارات الإلحادية المستبدة، وتنـزل الأولى عليهم بالمظلات. فلو تجسمت الأولى والأخريات وصُوّرت بصورة إنسان -كما كانت الجرائد ترسم الصور «الكاريكاتيرية» لإظهار قوة الدول ومكانة الحكومات- فإن معنى من المعاني العديدة لما يخبر به الحديث الشريف سيظهر مطابقا تماما في جريدة الأرض وفي صحيفة هذا العصر.

حتى إن معنىً إشاريا لما يشير إليه الحديث من نزول شخص عيسى عليه السلام من السماوات هو أن طائفة ممثِّلة لسيدنا عيسى عليه السلام وسالكة سلوكه تنـزل بمظلات من الطائرات كبلاء سماوي -بما لم يُسمع به لحد الآن ولم يُشاهَد قط- خلف الأعداء مما يظهر المعنى المادي لنـزول عيسى عليه السلام.

نعم، إن ما يفيده الحديث الشريف من نزول عيسى عليه السلام ثابت قطعا إلّا أن المعنى الإشاري كما يشير بإعجاز إلى هذه الحقيقة فهو يشير إلى معاني أخرى أيضا.

عندما شرعتُ في كتابة بضعة أسطر حول هذه المسألة -بناء على سؤالِ «فيضي وأمين» وإصرارهما- إنقاذا لإيمان بعض العوام الضعفاء كتّبتْ مطولةً خارج إرادتي. ولم ندرك حكمتها، فتركناها كما هي، لعل فيها حكمة ما. نرجو عفوكم وسماحكم إذ لم نجد متسعا من الوقت لتصحيح هذا البحث وتدقيقه فظل مشوشا.

* * *

[صداقة الأبطال]

باسمه سبحانه

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بعدد حروفات القرآن..

بارك الله فيكم، وجعلكم سعداء. إن سعيكم الجاد ونشاطكم المستمر يبث الشوق ويثير الهمم هنا وفي أماكن أخرى أيضا. فحمدا لله بما لا يتناهى من الحمد، إن فتوحاتِ رسائل النور تتزايد يوما بعد يوم. فإن أهل الإيمان يشعرون بجروحهم ويضمدونها برسائل النور.

لله الحمد، إن طلاب النور في هذا الزمان الذين حظوا بالإيمان الكامل ضمن السنة الشريفة، قد أخذوا مسلكا يَلفِت إليهم أنظار الأولياء والمرشدين. لذا فإن المرشدين الحقيقيين الذين يَظهرون في كل عصر سيحاولون بلا شك كسب طلاب النور إلى صفهم، إذ لو كسبَ أحدُهم طالبا لرسائل النور فإنه يُنـزله منـزلة عشرين مريد.

أُرسِلُ الحقيقة التي بيّنتُها لـ«فيضي» حول المشقات الحاصلة من خدمة رسائل النور وما فيها من مجاهدة وبذل، تجاه الأذواق والجاذبية المترشحة من الولاية، أرسلها لكم لعل فيها فائدة في تلك المناطق.

بلغوا سلامي إلى إخواني عامة فردا فردا.

أخي فيضي! إن كنت ترغب أن تكون مثيل أبطال ولاية إسبارطة، فعليك أن تُشبههم وتكون مثلهم تماماً. فلقد كان معنا في السجن شيخ عظيم ومرشد مرموق ذو جاذبية من أولياء الطريقة النقشبندية -رحمه الله- جالَسَ ما يقرب من ستين من طلاب النور طوال أربعة أشهر وحاورهم محاورات مغرية لجلبهم إلى الطريقة، إلّا أنه لم يتمكن إلّا من ضم واحدٍ منهم إلى صفه، وبصورة مؤقتة. أما الباقون فقد ظلوا مستغنين عنه وهو الولي الصالح، إذ كفتهم الخدمةُ الإيمانية الرفيعة التي تقدمها رسائل النور، واطمأنوا بها. ولقد فقه أولئك الأبطال بقلوبهم الواعية ورأوا ببصيرتهم النافذة الحقيقةَ الآتية:

إن خدمة رسائل النور هي إنقاذ الإيمان، أما الطريقة والمشيخة فهي تُكسب المرء مراتب الولاية. وإن إنقاذ إيمان شخص من الضلال أهم بكثير وأجزل ثواباً من رفع عشرة من المؤمنين إلى مرتبة الولاية؛ حيث إن الإيمان بمنحه للإنسان السعادة الأبدية يضمن له ملكاً أوسع من الأرض كلها. أما الولاية فإنها توسّع من جنة المؤمن وتجعلها أسطع وأبهر. وكما أن رفع مرتبة إنسان اعتيادي إلى سلطان، أعظمُ من رفع عشرة من الجنود إلى مرتبة القائد، كذلك الثواب في إنقاذ إيمان إنسان من الضلالة أعظمُ وأجزل من رفع عشرة من الناس إلى مرتبة أولياء صالحين. فهذا السر الدقيق هو الذي أبصرته القلوب النفاذّة لإخوانك في إسبارطة، وإن لم تره عقول قسم منهم. ولهذا فضّلوا صداقة شخص ضعيف مذنب مثلي، على صداقة أولياء عظام بل على مجتهدين إن وُجدوا.

فبناء على هذه الحقيقة لو أن قطباً من أقطاب الأولياء أو شيخاً جليلاً كالكيلاني، أتى إلى هذه المدينة وقال لك: «سأرفع مرتبتك إلى مرتبة الولاية في عشرة أيام»، وذهبت إليه تاركاً رسائل النور، فلا تستطيع أن تصادق أبطال إسبارطة.

* * *

[ميزان دقيق في محاورة]

محاورة خطرت على الـقلب، كتبتها لتقويم الإفراط لدى قسم من إخوتي طلاب النور، لتعديل حسن ظنهم بي بما يفوق حدي بكثير

قبل حوالي خمسين سنة جرت بيني وبين أخي الكبير «الملا عبد الله» رحمه الله هذه المحاورة، سأوردها لكم:

كان أخي المرحوم من خواص مريدي الشيخ ضياء الدين قدس سره. وهو من الأولياء الصالحين. وأهلُ الطرق الصوفية لا يرون بأساً في الإفراط في حب مرشدهم والمبالغة في حسن الظن بهم، بل يرضون بهذا الإفراط والمبالغة، لذا قال لي أخي ذات يوم: «إن الشيخ ضياء الدين على علم واسع جداً واطلاع على ما يجري في الكون، بمثل اطلاع القطب الأعظم»، ثم سَرَد الكثير من الأمثلة على خوارق أعماله وعلو مقامه.. كل ذلك ليغريني بالانتساب إليه والارتباط به.

ولكني قلت له: «يا أخي الكريم، أنت تغالي، فلو قابلتُ الشيخ ضياء الدين نفسَه لألزمته الحجة في كثير من المسائل، وإنك لا تحبه حباً حقيقياً مثلي، لأنك يا أخي الكريم تحب ضياء الدين الذي تتخيله في ذهنك على صورة قطب أعظم له علم بما في الكون. فأنت مرتبط معه بهذا العنوان وتحبه لأجل هذه الصفة، فلو رُفع الحجاب وبانت حقيقته، لزالت محبتك له أو قلّت كثيراً؛ أما أنا -يا أخي- فأُحب ذلك الشخص الصالح والولي المبارك حباً شديداً بمثل حبك له، بل أوقره توقيراً يليق به وأجلّه وأحترمه كثيراً، لأنه مرشد عظيم لأهل الإيمان في طريق الحقيقة المستهدية بالسنة النبوية الشريفة. فليكن مقامه الحقيقي ما يكون، فأنا مستعد لأن أضحي بروحي لأجل خدمته الإيمانَ. فلو أُميط اللثام عن مقامه الحقيقي فلا أتراجع ولا أتخلى عنه ولا أقلل من محبتي له، بل أوثق الارتباط به أكثر، وأُوليه محبة أعظم وأبالغ في توقيره. فأنا إذن يا أخي الكريم أُحب ضياء الدين كما هو وعلى حقيقته؛ أما أنت فتحب ضياء الدين الذي في خيالك».([2])

ولما كان أخي المرحوم عالماً منصفا حقاً، فقد رضي بوجهة نظري وقبلها وقدرها.

فيا إخوتي، أيها السعداء المحظوظون الذين يضحون بأنفسهم في سبيل الله. إن مبالغتكم في حسن الظن بشخصي، وإن كان لا يضركم بالذات، إلا أن أمثالكم ممن ينشدون الحق ويرون الحقيقة، ينبغي لهم أن ينظروا إلى الشخص من زاوية خدمته للقرآن الكريم ومدى إنجازه لمهامه نحوه، فلو كُشف النقاب وظهرت أمامكم هويتي الملطخة بالتقصيرات من قمة رأسي إلى أخمص قدمي لأشفقتم عليّ ولتألمتم لحالي. ولكن لئلا أنفّركم من محبة الأخوّة التي تربطنا، ولئلا تندموا عليها فلا تربطوا أنفسكم بما تتصورونه من مقامات تُضفونها عليّ، وهي فوق حدي بكثير. فأنا لست سوى أخ لكم لا غير، وليس في طوقي ادعاء الإرشاد والتوجيه ولا الأستاذية عليكم.. وكل ما في الأمر هو أنى زميلكم في تلقي درس الإيمان. فلا تنتظروا مني همّة ومددا بل أنا المحتاج إلى معاونتكم وهممكم وأرجو دعواتكم المشفقة على تقصيراتي.

ولقد أنعم الله علينا جميعا -بفضله وكرمه- واستخدَمنا في أقدس خدمة وأجلّها وأنفعها لأهل الإيمان.. تلك هي خدمة القرآن. وندَبنا للقيام بها على وفق تقسيم الأعمال فيما بيننا، فحَسْبُنا أستاذيةُ وإرشادُ الشخص المعنوي النابع من سر أخوّتكم واتحادكم.

فما دامت خدمة الإيمان والقرآن أسمى من أية خدمة في هذا العصر، وأن النوعية تفضل الكمية، وأن التيارات السياسية المتحولة المتغيرة وأحداثها المؤقتة الزائلة لا أهمية لها أمام خدمات الإيمان الثابتة الدائمة، بل لا تَرقَى لمقارنتها ولا يمكن أن تكون محورا لها، فينبغي الاطمئنان بما منَحَنا ربُنا سبحانه وتعالى من مرتبة نورانية مفاضة علينا من نور القرآن المبين.

فيا إخوتي الأحبة! الثباتَ الثباتَ، الوفاءَ الوفاءَ… إن طريقنا في السمو والرقي هو الغلو في الارتباط والتساند فيما بيننا والسعي لنيل الإخلاص والأخوة الحقة، بدلا من الغلو في حسن الظن والتطلع إلى مقامات أعلى من حدنا.

* * *

[من وظائف السيد المهدي]

إخوتى الأعزاء!

كتبت لكم الفقرتين الآتيتين قبل يومين تتمة لما كُتب لكم سابقا من جواب حول حسن ظنكم النابع من وفائكم الخالص بما يفوق حدي بكثير جدا. إذ إن الحكمة في جوابي السابق -قبل أسبوع- والذي يجرح إلى حدٍّ ما حسن ظنكم المفرط، لرسالتكم المترشحة من وفائكم الخالص وهممكم العالية هي الآتية:

في هذا العصر تيارات قوية ومسيطرة إلى درجة تستحوذ على كل شيء، وتستولي عليه، و تمتلكه لنفسها، وتسخره لأجلها، فلو أتى ذلك الذي يُنتظر مجيؤه حقا في هذا العصر، فإنني أرى أنه يغيّر هدفَه، ويجرّد نفسه من الأجواء والأحوال الدائرة في عالم السياسة، حفاظا على أعماله من أن تغتصبها تلك التيارات.

ثم إن هناك ثلاث مسائل هي: الحياة.. الشريعة.. الإيمان.

وأن مسألة «الإيمان» هي أهم هذه المسائل الثلاث وأعظمُها في نظر الحقيقة. بيد أن «الحياة» و«الشريعة» تبدوان في نظر الناس عامة وضمن متطلبات أوضاع العالم أهم تلك المسائل. ولما كان تغيير أوضاع المسائل الثلاث كلها دفعة واحدة في الأرض كافة لا يوافق سنة الله الجارية في البشرية، فإن ذلك الشخص المنتظر لو كان موجودا في الوقت الحاضر لاتخذ أعظمَ تلك المسائل وأهمها أساسا له دون المسائل الأخرى، وذلك لئلا تَفقد خدمةُ الإيمان نزاهتَها وصفاءها لدى الناس عامة، ولكي يتحقق لدى عقول عوام الناس -الذين يمكن أن يُستَغفلوا ببساطة- أن تلك الخدمة ليست أداة لأي مقصد آخر.

ثم إن معاول الهدم ومطارق التخريب تعمل منذ عشرين عاما مقترفة أشدَّ أنواع الظلم وأقسى ضروب التعسف لإفساد الأخلاق حتى ضاعت الثقة والوفاء إلى درجة لم يعد يوثق بشخص واحد من كل عشرة أشخاص، بل من كل عشرين شخصا.

فتجاه هذه الحالات المحيرة لابد من ثبات عظيم وصلابة تامة ووفاء خالص وغيرة على الإسلام تفوق كل شيء.. وبخلافه ستبقى خدمةُ الإيمان عقيمةً بائرة، وتكون ضارة. بمعنى أن أخلصَ خدمة وأسماها وأهمها وأولاها بالتوفيق هي الخدمة السامية التي يعمل فيها طلاب رسائل النور.

وعلى كل حال يكفي هذا القدر لهذه المسألة في الوقت الحاضر.

* * *


[1] المقصود إعلان المشروطية، وهي إدارة البلد على النمط الغربي من مجلس نيابي ودستور ووزارة مسؤولة أمام المجلس النيابي.(المترجم).

[2] لأنك تطلب لمحبتك ثمناً غالياً جداً، إذ تفكر أن يقابل محبتك بما يفوق ثمنها مائة ضعف، والحال أن أعظم محبة لمقامه الحقيقي تظل زهيدة جداً. (المؤلف)