الفصل العاشر السنوات الأخيرة في إسبارطة

ما بعد سجن «أفيون» إلى سنة 1950

بعد أن قضى الأستاذ النُّورْسِيّ وطلابه مدة محكوميتهم في سجن أفيون أُفرج عنهم في 20/9/1949 ولكن لم يسمح للأستاذ بمغادرة أفيون إلّا في 2/12/1949 فتوجه إلى «أميرداغ» برفقة شرطي. للإقامة الإجبارية هناك، فأمضى فيها سنتين.

وفي هذه الفترة أرسل رسائل تهنئة إلى طلابه، وأرسل مجموعة كاملة من رسائل النور المصحّحة إلى رئيس الشؤون الدينية بوساطة تلميذه مصطفى صونغور.

رسالة شخصية إلى رئيس الشؤون الدينية

باسمه سبحانه

 ﴿وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾

«السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

حضرة السيد أحمد حمدي المحترم!

سأبين لكم حادثة روحية جرت لي:

قبل مدة مديدة كانت فكرة اتباع الرخصة الشرعية -بناء على الضرورة- وترك العزيمة لا ينسجم مع فكري، مثلما سلكتموه أنتم وعلماء معكم. فكنت أغضب وأحتدّ عليكم وعليهم. وأقول: لِمَ يتركون العزيمة متبعين الرخصة؟. لذا ما كنت أبعث إليكم رسائل النور مباشرة.

ولكن قبل حوالي أربع سنوات ورد إلى قلبي أسف شديد مشحون بالانتقاد. وفجأة خطر على القلب ما يأتي:

إن هؤلاء الأفاضل أصدقاؤك وزملاؤك في المدرسة الشرعية، وفي مقدمتهم السيد أحمد حمدي، قد هوّنوا الخطر الداهم -على الإسلام- إلى الرُّبع. وذلك بصرفهم قسماً من الوظيفة العلمية -حسب المستطاع- من أمام التخريبات الرهيبة العنيفة، حفاظاً على المقدسات، متبعين الدستور الشرعي «أهون الشرين» وسيكون عملهم هذا -إن شاء الله- كفارة لبعض نقائصهم وتقصيراتهم التي اضطروا إليها.

فبدأتُ من ذلك الوقت أنظر إليكم وإلى أمثالكم نظرة أُخوّة حقيقية -كالسابق- فأنتم إخوتي في المدرسة الشرعية وزملائي في الدراسة.

وحيث إنني كنت أترقب وفاتي من وراء تسميمي هذا، عزمت على تقديم مجموعة كاملة إليكم قبل ثلاث سنوات آملاً أن تكونوا الصاحب الحقيقي لرسائل النور وحاميها بدلاً عني. غير أن المجموعة ليست مصححة ولا كاملة، إلّا أنني قمت بشيء من التصحيح لمجموعة كاملة أكثر أجزائها استنسخها -قبل خمس عشرة سنة- ثلاثة طلاب لرسائل النور لهم شأنهم..

فما كنت أعطى هذه المجموعة النفيسة إلى غيرك، حيث إن كتابتها من قبل هؤلاء الثلاثة الأعزاء جعلتْ قيمتها تعادل عشر مجموعات كاملة. ومقابل هذا فإن ثمنها المعنوي ثلاثة أمور:

الأول: استنساخ ثلاثين نسخة تقريباً من كل منها بالرونيو بالحروف القديمة إن أمكن، وإلّا فبالحروف الجديدة، وتوزيعها على شُعب رئاسة الشؤون الدينية في البلاد. بشرط أن يكون أحد إخواننا الخواص مُعيناً على إجراء التصحيح وقائماً بأمره. لأن نشر أمثال هذه المؤلفات من مهمة رئاسة الشؤون الدينية.

الثاني: لما كانت رسائل النور بضاعة المدرسة الشرعية وملكها، وأنتم أساس المدرسة الشرعية ورؤساؤها وطلابها، فالرسائل إذن ملككم الحقيقي. فانشروا ما ترتأون منها وأجّلوا الأخرى!

الثالث: ليُطبع المصحف الشريف الذي يبين التوافقات في لفظ الجلالة، بالصورة الفوطوغرافية لتشاهَد لمعة الإعجاز في التوافقات. ويرجى عدم طبع التعاريف التركية حول التوافقات الموجودة في البداية مع المصحف الشريف، بل الأفضل طبعها في كراس مستقل باللغة التركية أو تترجم ترجمة أمينة إلى العربية».

رسالة صونغور من أنقرة إلى الأستاذ

باسمه سبحانه

 ﴿وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾

«حضرة الفاضل أستاذي العزيز المشفق المبارك المحبوب!

لقد سلّمت رسالتكم الغراء إلى حضرة السيد أحمد حمدي رئيس ديوان الشؤون الدينية، مع مجموعة من الرسائل. فوضعها بفرح بالغ في مكتبته الخاصة وقال: «سأعطي -إن شاء الله- هذه المجموعة إلى إخوتي الخاصين لقراءتها، وسنحاول -على هذه الصورة- طبعها تدريجياً» وقد قال أيضاً – يا سيدي ويا أستاذي المحبوب: إنه سيعمل حسب ما ورد في رسالتكم الكريمة، إلّا أنه لا يمكن نشر هذه المجموعات دفعة واحدة في الوقت الحاضر، إلّا أنني سأجعل إخوتي الخواص يقرؤونها وننشرها حسب اهتمام الناس بها والطلب عليها، وبإذن الله سأسعى لنشرها على أفضل ما يكون».

صونغور

سنة 1950

برقية إلى رئيس الجمهورية

جلال بايار / رئيس الجمهورية

«نهنئكم وندعو الله تعالى أن يوفقكم لخدمة الإسلام والوطن والأمة.

عن طلاب النور / سعيدالنُّورْسِيّ».([1])

وأجاب رئيس الجمهورية بالبرقية الآتية:

بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ – أميرداغ

أسعدتنا تهانيكم القلبية كثيراً أشكركم شكراً جزيلاً

 جلال بايار

بشارة إعادة الأذان الشرعي

«مع غلبة رسائل النور وظهورها ظهوراً معنوياً كاملاً يحاول ملحدو الماسونيين وزنادقة الشيوعيين أن يستهولوا صغائر الأمور، فيَحُولوا دون حرية نشر رسائل النور. حتى إنهم سببوا تأجيل محكمتنا -هذه المرة أيضاً- لخمسة وثلاثين يوماً. وأحدثوا ضجة ومشادة مع محامينا، ليمنعوا إعادة مصحفنا الشريف. إلّا أن العناية الإلهية جعلت جميع خططهم عقيمة بائرة حيث إن رسائل النور في إسطنبول وأنقرة تستقرئ نفسها للشباب بشوق كامل وترشدهم إلى الصواب. حتى أدّت الغلبة المعنوية هذه إلى إرسال البرقيات من قبل مئات الشباب المثقفين تعبيراً عن تهانيهم وشكرانهم إلى رئيس الوزراء الذي سعى لإعادة الأذان المحمدي «على الوجه الشرعي»».

سنة 1951

برقية من الفاتيكان

الفاتيكان 22 شباط 1951

مقام البابوية الرفيع

السكرتير الخاص

رئاسة القلم الخاص  رقم 232247

سيدي! تلقينا كتابكم المخطوط الجميل «ذوالفقار» بوساطة وكالة مقام البابوية باسطنبول، وتم تقديمه إلى حضرة البابا الذي رجانا أن نبلغكم بالغ سروره من هذه الالتفاتة الكريمة منكم، ودعواته من الله عز وجل أن يشملكم بلطفه وفضله. ونحن ننتهز هذه الفرصة لنبلغكم احتراماتنا.

التوقيع

  رئاسة سكرتارية الفاتيكان.

إلى السيد رئيس الجمهورية وأعضاء مجلس الوزراء – أنقرة

«نحن طلاب النور أصبحنا هدفاً لما لا مثيل له من ضروب التعذيب والإهانة طوال عشرين سنة، فصبرنا تجاه ذلك حتى أتى المولى الكريم بكم لمعاونتنا.

ونقدم محكمة التمييز ومحكمة دنيزلي شاهدين على عدم وجود أي سبب كان لتلك الإهانات منذ خمس وعشرين سنة حيث لم تتمكن ثلاث محاكم من وجدان السبب، لا حقيقة ولا قانوناً بعد تدقيقاتهم في مائة وثلاثين كتاباً وألوف المكاتيب.

وعلى الرغم من أنني تركت السياسة منذ ثلاثين سنة، فإنني اقدم تهانيّ إلى رئيس الجمهورية وإلى مجلس الوزراء الذين تولوا رئاسة الأحرار، وأقرن التهنئة بالإفصاح عن «حقيقة» وهي الآتية:

إن الذين يغيرون علينا ويعذبوننا في المحاكم قالوا: «ربما يستغل طلاب النور الدين في سبيل أغراض سياسية»! ونحن قلنا ونقول لأولئك الظالمين في دفاعاتنا ونسند قولنا بأُلوف الحجج:

إننا لا نجعل الدين أداة للسياسة، فليس لنا غاية إلّا رضاه تعالى، ولن نجعل الدين أداة لا للسياسة ولا للسلطة ولا للدنيا برمتها. هذا هو مسلكنا. وقد تحقق لدى أعدائنا، أنهم على الرغم من تدقيقاتهم المغرضة طوال ثلاث سنوات في ثلاثة أكياس مليئة بالكتب والمكاتيب لا يستطيعون إدانتنا، بل لا يجدون مبرراً للأحكام الاعتباطية التي حكموا علينا بها. وحيث إنهم لم يجدوا أي شيء علينا فسخت محكمة التمييز ذلك الحكم. فنحن لا نجعل الدين أداة للسياسة بل نتخذ السياسة آلة للدين وفي مصالحة ووئام معه عندما نجد أنفسنا مضطرين اضطراراً قاطعاً إلى أن ننظر إلى السياسة تجاه الذين يجعلون السياسة المستبدة أداة للإلحاد، إضراراً للبلاد والعباد، فعمَلُنا يحقق رابطة أخوية لثلاثمائة وخمسين مليونا مع إخوانهم في هذه البلاد.

حاصل الكلام: إننا سعينا لأجل إسعاد هذه الأمة والبلاد بجعل السياسة أداة للدين وفي وئام معه تجاه أولئك الذين جعلوا السياسة المستبدة آلة للإلحاد وعذّبونا..»

نصيحة للإخوة الديمقراطيين

«إن أمضى أسلحة عبيد العهد الماضي من الماسونيين الذين هدروا الدين والإيمان والأرواح في البلاد أثناء حكم الدكتاتورية والرئاسة الفردية وهم في أنفاسهم الأخيرة، الموجهة ضد الديمقراطيين، هي السعي في إظهارهم وكأنهم أقل ديناً مما كانوا عليه. ويتلبس نفر منهم بأزياء التدين فيشيعون بأن الديمقراطيين لن يفوا بوعودهم للشعب في إطلاق الحريات الدينية. ويتهم نفر آخر منهم الديمقراطيين بحماية «الرجعية الدينية» لصدهم عن معاضدة حرية الدين وتوجههم إلى تخريب الدين والمؤسسات الدينية وفرض الشدة على أهل الدين.

إن تصرف الحزب الديمقراطي بحزم ضد الشيوعيين منذ استلامه للسلطة، وإطلاق حرية الأذان المحمدي بصورته الشرعية وكسبه محبة الشعب لهذا السبب وحصوله على قوة تعدل قوته عشرين ضعفاً، أقلق حزب الشعب الجمهوري غاية القلق.

نحن نثق بأن الديمقراطيين لن يقعوا في الفخ لأنهم يدركون أن هذا الوضع الذي وقع فيه أولئك كان بسبب سياسة العهد الماضي الظالمة ضد أهل الدين وضد جماعة النور، أهل القرآن.

إن الشعار المعلن للنظام السابق معلوم للجميع. وينبغي للديمقراطيين، ما داموا يريدون البقاء، أن يتخذوا سياسة مناقضة لذلك الشعار مناقضة تامة: وهي التشدد ضد الشيوعية من جهة، وحماية الدين وأهل الدين من جهة أخرى. إنهم ملزمون بسلوك هذا السبيل في وضوح وجرأة. وأن أي بادرة ضعف كان أو بادرة فتور بهذا الشأن، يوقعهم في شراك حزب الشعب الجمهوري.

نحن، طلاب النور لا نشتغل في السياسة قطعاً. وأملنا الوحيد ضمان حرية الدين في الوطن، ورفع الظلم والتضييق الواقع منذ ربع قرن على الدين وأهله وجماعة النور، أهل القرآن. وننصح الإخوة الديمقرطيين ألّا ينخدعوا بحيل النظام السابق الشيطانية ومصائدهم، وألّا يخوضوا في الضلالة التي خاضوها، وألّا يستخفوا بروح الشعب وإرادته مثلما استخفوا. وليمضوا بعزم في الطريق السليم الذي سلكوه إزاء الشيوعية والدين».

 عن طلاب النور

 صادق وصونغور وضياء

أول زيارة حرة إلى أسكي شهر

بعد أن قضى الأستاذ في «أميرداغ» سنتين سافر إلى أسكي شهر في 29/11/1951 واستقر في فندق «يلدز» ما يقارب الشهر ونصف الشهر وبعث إلى طلابه الرسالة الآتية:

الحقيقة هي التي تتكلم

«لقد أثبتت رسائل النور أنه قد تنبثق عدالة من بين طيات الظلم، أي قد يتعرض أحدهم إلى الظلم وإلى الحيف فتصيبه نكبة، وقد يُحكم عليه بالحبس ويُرمى به في غياهب السجون.. لا شك أن مثل هذا الحكم ظلم واضح، ولكنه قد يكون سبباً لتجلي العدالة وظهورها، ذلك لأن القدر الإلهي قد يستخدم الظالم لتوجيه العقوبة إلى شخص استحقها بسبب آخر، وهذا نوع من أنواع تجلي العدالة الإلهية.

وأنا الآن أفكر.. لِمَ أُساق من محكمة إلى محكمة، ومن ولاية إلى ولاية، ومن مدينة إلى أخرى طوال ثمانيا وعشرين عاماً؟ وما التهمة الموجهة إليّ من قبل من ارتضوا لأنفسهم معاملتي بكل هذا التعذيب الظالم؟ أليست هي تهمة استغلال الدين في سبيل السياسة؟ ولكن لِمَ لا يستطيعون إثبات ذلك؟.. ذلك لأنه لا يوجد أي شيء من هذا القبيل في الحقيقة وفي الواقع. فهذه محكمة تقضي الشهور والسنوات في محاولة الحصول على أي دليل يدينني فلا تستطيع، وإذا بمحكمة أخرى تسوقني للتحقيق وللمحاكمة تحت التهمة نفسها وتقضي بدورها مدة في هذه المحاولة وفي الضغط عليّ وتعرّضني لأنواع شتى من التعذيب، وعندما لا تحصل على أية نتيجة تتركني، وإذا بمحكمة ثالثة تمسك بخناقي هذه المرة.. وهكذا أنتقل من مصيبة إلى مصيبة، ومن نكبة إلى أخرى. لقد انقضت ثمان وعشرون سنة من عمري على هذا المنوال، وأخيراً أيقنوا عدم وجود أي نصيب من الصحة للتهم المسندة إليَّ؛

وإني أتساءَل: سواء أكان ذلك قصداً أو وهماً فإنني أعلم علم اليقين عدم وجود أية علاقة لي بهذه التهمة، كما أن جميع أهل الإنصاف يعرفون بأنني لست بالرجل الذي يستغل الدين لغاية سياسية، بل إن الذين وجّهوا إليّ هذه التهمة يعرفون ذلك في قرارة نفوسهم. إذن فما السبب في إصرارهم على اقتراف هذا الظلم في حقي؟ ولماذا بقيتُ معرضاً على الدوام لهذا الظلم والتعذيب مع كوني بريئاً ودون أي ذنب؟ ولماذا لم أستطع التخلص من هذه المصائب؟ ألم تكن هذه الأحوال مخالفة للعدالة الإلهية؟

لقد بحثت عن أجوبة لهذه الأسئلة خلال ربع قرن من الزمن فلم أُوفق في ذلك. ولكني الآن عرفت السبب الحقيقي في قيامهم بظلمي وتعذيـبي. وأنا أقول وكلي أسف:

إن ذنبي هو اتخاذي خدماتي القرآنية وسيلة للترقي المعنوي والكمالات الروحية. والآن بدأتُ أفهم هذا وأحسه تماماً، وأنا أشكر الله تعالى آلاف المرات لأنه طوال سنوات طويلة وُضعت موانعُ معنوية وقوية جداً خارج إرادتي لكي لا أتخذ خدماتي الإيمانية وسيلة للترقيات المادية والمعنوية أو من أجل الخلاص من العذاب ومن جهنم أو حتى من أجل سعادتي الأبدية أو من أجل أية غاية أخرى.

لقد أذهلتني هذه الأحاسيس الداخلية العميقة والخواطر الإلهامية، فبينما نرى أن كل فرد له الحق في اكتساب المقامات التي يعشقها، وفي نيل السعادة الأخروية عن طريق الأعمال الصالحة، هذا زيادة على أنه لا ينتج أي ضرر لأي أحد، ومع هذا فقد رأيت أنني أُمنع -روحياً وقلبياً- من هذه الأحوال ومن سلوك هذا الطريق. وجُعل نصب عيني أن عليّ ألّا أهتم -بجانب الفوز بالرضى الإلهي- إلا بواجب خدمة الإيمان. ذلك لأن الزمن الحالي يحتاج إلى إعطاء نوع من الدرس القرآني الذي لا يكون في خدمة أي غرض آخر للذين لم يتوصلوا بفطرة العبودية الموجودة في أنفسهم إلى الحقائق الإيمانية التي هي فوق كل شيء، وإلى الذين هم بحاجة إلى فهم هذه الحقائق وذلك بأسلوب مؤثر، بحيث يستطيع إنقاذ الإيمان في مثل دنيا الاضطراب هذه التي اختلطت فيها الأمور، ويستطيع إقناع كل أحد حتى المعاندين وبعث الطمأنينة في نفوسهم، وبذلك يستطيع قصم ظهر الكفر المطلق والضلال المتمرد والمعاند وبذلك يهب القناعة الكاملة للجميع.

ولا تحصل مثل هذه القناعة في الظروف الحالية إلّا عندما يكون الدين بعيداً عن كونه وسيلة لأية غاية شخصية أو دنيوية أو أخروية، مادية كانت أو معنوية. وإذا لم يتحقق هذا فإن أي شخص كان مهما بلغ من المراتب المعنوية يقف عاجزاً تجاه التيار الرهيب -المتولد من المنظمات والجمعيات السرية- ضد الدين؛ لأنه لا يستطيع إزالة كل الشكوك والشبهات. ذلك لأن النفس الأمارة للشخص المعاند الذي يرغب في الدخول إلى حلقة الإيمان ستقول له: «إن ذلك الشخص زين لنا هذا بدهائه وبمستواه الرفيع واستطاع بهذا إقناعنا».. يقول هذا ويبقى الشك يساوره.

فلله الشكر ألوف ألوف المرات ففي طيّ تهمة القيام باستغلال الدين في السياسة قام القدر الإلهي -الذي هو العدل المحض- طوال ثمان وعشرين سنة بمنعي من جعل الدين -دون علمي ودون إرادة مني- آلة لأي غرض شخصي، وذلك باستخدام الأيدي الظالمة للبشر في توجيه الصفعات لي وفي تذكيري وتنبيهي.. هذه الصفعات التي كانت عدلاً محضاً وتحذرني قائلة: إياك إياك! أن تجعل الحقائق الإيمانية آلة لشخصك، وذلك لكي يعلم المحتاجون إلى الحقائق أن الحقائق وحدها هي التي تتكلم، ولكي لا تبقى هناك أوهام النفس ودسائس الشيطان، بل لتخرس وتصمت.

هذا هو سر تأثير رسائل النور في إشعال الحماس في القلوب وفي الأرواح كالأمواج في البحار الواسعة. وهذا هو سر تأثيرها في القلوب وفي الأرواح وليس شيئاً غيره. ومع أن هناك آلافاً من العلماء سجلوا الحقائق التي تتحدث عنها رسائل النور في مئات الآلاف من الكتب، والتي هي أكثر بلاغة من رسائل النور، لم تستطع إيقاف الكفر البواح. فإذ كانت رسائل النور قد وفّقت إلى حدّ ما في مقارعة الكفر البواح تحت هذه الظروف القاسية، فقد كان هذا هو سر هذا النجاح.. ففي هذا الموضوع لا وجود لـ«سعيد»، ولا وجود لقابلية سعيد وقدرته، فالحقيقة هي التي تتحدث عن نفسها.. نعم.. الحقيقة الإيمانية هي التي تتحدث.

وما دامت رسائل النور تؤثر في القلوب العطشى إلى الإيمان وإلى نور الحقائق، إذن لا يُفدّى بـسعيدٍ واحد بل بألف «سعيد وسعيد». وليكن كل ما قاسيته في غضون ثمانٍ وعشرين سنة من الأذى والمصائب حلالاً زلالاً. أما الذين ظلموني وجرجروني من مدينة إلى أخرى، والذين أرادوا أن يوصموني بمختلف التهم والإهانات، وأفردوا لي أماكن في الزنزانات فقد عفوت عنهم ذلك وتنازلت عن حقوقي تجاههم.

وأقول للقدر العادل: إنني كنت مستحقاً لصفعاتك العادلة لأنني سلكت مثل الآخرين طريقاً -هي بذاتها مشروعة ولا ضرر منها- فكرت فيها بشخصي، ولو لم أضح بمشاعري في الفيوضات المادية والمعنوية، لفقدت هذه القوة المعنوية الكبيرة في أثناء تأدية خدماتي من أجل الحفاظ على الإيمان. لقد ضحيت بكل شيء وتحملت كل أذى، وبذلك انتشرت الحقائق الإيمانية في كل مكان، ونشأ مئات الآلاف -بل ربما الملايين- من طلاب مدرسة النور ونهلوا من معارفها. وهؤلاء هم الذين سيستمرون في هذه الطريق في خدمة الإيمان، ولن يحيدوا عن طريقتي في التضحية بكل شيء مادياً كان أو معنوياً، إذ سيكون سعيهم لله سبحانه وتعالى وحده دون غيره.

إن الكثيرين من طلابي قد ابتلوا بشتى أنواع البلايا والمصائب، وتعرّضوا لصنوف العذاب والمتاعب، واجتازوا امتحانات عسيرة بفضل الله. إنني أطلب منهم أن يتجاوزوا -مثلي- عمن اقترف تلك المظالم وهضم الحقوق، لأن أولئك قد ارتكبوا تلك الأمور عن جهل منهم والذين آذونا وعذبونا، ساعدوا على نشر الحقائق الإيمانية دون أن يدركوا تجليات أسرار القدر الإلهي.. ووظيفتنا تجاه هؤلاء هي التمني لهم بالهداية.

أوصى طلابي ألّا يحمل أحد منهم شيئاً من روح الانتقام في قلبه ولو بمقدار ذرة، وأن يسعوا سعياً جاداً لنشر رسائل النور وليرتبطوا بها ارتباطا وثيقاً. إنني مريض جداً.. لا طاقة لي لا في الكتابة ولا في الحديث.. وقد يكون هذا آخر أقوالي.. فعلى طلاب رسائل النور لمدرسة الزهراء ألّا ينسوا وصيتي هذه».

 سنة 1952

قضية «مرشد الشباب»

بعد المكوث في مدينة «أسكي شهر» توجّه الأستاذ بديع الزمان إلى مدينة «إسبارطة» في أواخر سنة 1951 حيث بقي فيها سبعين يوماً، التقى طلابه مستعيداً ذكرى سنوات نفيه التي قضاها فيها.

في تلك الأيام قام بعض طلاب النور الجامعيين في إسطنبول بطبع رسالة «مرشد الشباب» بالحروف الجديدة مما تسبّب في إقامة دعوى ضده بحجة مخالفته ل»المادة 163» في الدستور التركي؛ وهي المادة التي تحظر أي نشاط يستهدف إقامة الدولة على أسس دينية.

وقد استُدعي الأستاذ بديع الزمان إلى إسطنبول للمثول أمام محكمة الجزاء الكبرى وحدد يوم 22/1/1952م للنظر في هذه الدعوى، فتوجّه بديع الزمان إلى إسطنبول في 15/1/1952. كانت هذه أول زيارة لمدينة إسطنبول بعد غيـبة دامت سبعة وعشرين عاماً. ولهذا تقاطر عليه الزوار في فندق «آق شهر» ثم في فندق «رشادية».

انعقدت المحكمة في يوم 22/1/1952. وجاء الأستاذ يحف به المئات من طلبة النور.

كانت قاعة المحكمة قد امتلأت بجموع من الشعب الذين حضروا لمتابعة هذه القضية ولرؤية هذا العالم الجليل الذي شغل تركيا كل هذه السنين. كما امتلأت ممرات المحكمة، وامتد الازدحام إلى الشارع.

جلس الأستاذ في المكان المخصص للمتهمين. وبدأ الادعاء العام بقراءة تقرير الخبراء المكلفين بتدقيق رسالة «مرشد الشباب» ثم تمّ استجواب الأستاذ. كان تقرير الخبراء يقول باختصار ما يأتي:

«إن المؤلف يحاول في رسالته هذه نشر الفكرة الدينية، وإنه يحاول رسم طريق معين للشباب بوساطة هذه الأفكار، وإنه يدعو النساء إلى الاحتشام وعدم السير والتجول بملابس تكشف عن أجسامهن لأن ذلك يصادم الفطرة، ويخالف الإسلام والآداب القرآنية.

كما أن المؤلف يدعو إلى تدريس الدين وهو بذلك يؤيد إقامة نظام الدولة على أسس دينية.. الخ».

وبعد الانتهاء من قراءة صيغة الاتهام قام الأستاذ بديع الزمان للردّ على ما ورد أعلاه.


[1]  الملاحق، ملحق أميرداغ 2. وقد أملى الأستاذ بديع الزمان هذه البرقية على طالبه زبير كوندوزآلب ثم التفت إليه قائلاً: أتدري لِمَ أُرسل برقية التهنئة هذه؟ وسكت الطالب، فوضّح الأستاذ:

     سيقول الجمهوريون للديمقراطيين: صحيح أن سعيداً ليس معنا فهو ليس معكم كذلك، بل له هدف آخر يستهدفه، ويخدعونهم بهذا الكلام ويدفعونهم إلى استعمال قوة الدولة التي في أيديهم ضد المتدينين وضد طلاب النور. ولكن ما إن يتسلم الديمقراطيون برقية التهنئة حتى يقولوا لهم: إن سعيداً صديق لنا. وعندها لا تستغل قوة الدولة على غير وجهها الصائب. (ش) 382.