الفصل الأول حالات متميزة

1- الانبساط والانقباض

«من أول صباوتي إلى الآن، تتفاوت حالي كأني أكون في حين على رأس المنارة، وفي وقت في قعر البئر.. وكم من حقائق هي أحبّتي ويعرفنني، تصير أجنبية أنكرها في آن.. ثم في حين آخر تجئ الحقيقة الدقيقة التي ما سمعت باسمها إلى يديّ بلا دعوة. وكم أكون أجهل من «باقل» قد أظن نفسي في السياسة كـ«سَحبان».

نعم، ما حيلتي.. هكذا ترد السانحات إلى القلب.. فبينما أجدني كأنني أتكلم فوق منارة عالية، إذا بي -في أحيان أخرى- أنادي من قعر بئر عميق».

2- رفض الهدايا

«كنت أرفض قبول أموال الناس وهداياهم منذ نعومة أظفاري. فما كنت أتنازل لإظهار حاجتي للآخرين رغم أنني كنت فقير الحال وفي حاجة إلى المال، وما كنت زاهداً ولا صوفياً ولا صاحب رياضة روحية، فضلاً عن أنني ما كنت من ذوي الحسب والنسب والشهرة.

فإزاء هذه الحالة كنت أحار من أمري كما كان يحار من يعرفني من الأصدقاء. ولقد فهمت حكمتها قبل بضع سنين، أنها كانت لأجل عدم الرضوخ للطمع والمال، ولأجل الحيلولة دون مجيء اعتراض على رسائل النور في مجاهداتها، فقد أنعم عليّ الباري عز وجل تلك الحالة الروحية.. وإلّا لكان أعدائي الرهيبون ينـزلون بي ضربتهم القاضية من تلك الناحية.

ويا إخوتي، تعلمون أنني لا أقبل الصدقات والمعونات، كما لا أكون وسيلة لأمثالها من المساعدات، لذا أبيع ملابسي الخاصة وحاجياتي الضرورية، لأبتاع بثمنها -من إخوتي- كتبي التي استنسخوها وذلك لأحول دون دخول منافع دنيوية في إخلاص رسائل النور، لئلا يصيبها ضرر. وليعتبر من ذلك الإخوة الآخرون، فلا يجعلوا الرسائل وسيلة لأي شيء كان.

إن السبب المهم للاستغناء عن الناس هو ما يقوله ابن حجر.  الموثوق حسب مذهبنا الشافعي: «يحرم قبول ما يوهب لك بنية الصلاح، إن لم تكن صالحاً».

نعم، إن إنسان هذا العصر يبيع هديته البخسة بثمن باهظ، لحرصه وطمعه، فيتصور شخصاً مذنباً عاجزاً مثلي ولياً صالحاً، ثم يعطيني رغيفاً هديةً. فإذا اعتقدت أنني صالح -حاش لله- فهذا علامة الغرور، ودليل على عدم الصلاح. وإن لم اعتقد بصلاحي، فقبول ذلك المال غير جائز لي.

وأيضاً إنّ أخذ الصدقة والهدية مقابل الأعمال المتوجهة للآخرة يعني قطف ثمراتٍ خالدة للآخرة، بصورة فانية في الدنيا.

هذا وإن أسباباً كثيرة تمنعني عن قبول الهدايا، أذكر أهمها وهو: الإخلال بالعلاقة الخالصة الحميمة بيني وبين طلاب النور، علاوة على أنني لست محتاجاً حاجة ماسة، وذلك بفضل الالتزام بالاقتصاد والقناعة والبركة، بل لا أستطيع أن أمدّ يدي إلى أموال الدنيا، فذلك خارج طوقي وإرادتي.

وسأبين سبباً دقيقاً واحداً من بين الأسباب الكثيرة:

أتي صديق حميم تاجر، بمقدار من الشاي يبلغ ثمنه ثلاثين قرشاً، فلم أقبله. فقال: لا تردّني خائباً يا أستاذي، لقد جلبته لك من إسطنبول! فقبلته ولكن دفعت له ضعف ثمنه. فقال: لِمَ تتعامل هكذا يا أستاذي، ما الحكمة فيه؟ قلت: لئلا أُنزل قيمة الدرس الذي تتلقاه -وهو بقيمة الألماس- إلى قيمة قطع زجاجية تافهة. فإنني أدع نفعي الخاص لأجل نفعك أنت!

نعم، إن درس الحقيقة الذي تأخذه من أستاذ لا يتنازل إلى حطام الدنيا ولا تزل قدمه إلى الطمع والذل، ولا يطلب عوضاً عن أدائه الحق والحقيقة، ولا يضطر إلى التصنع.. هذا الدرس هو بقيمة الألماس.

بينما الدرس الذي يُتلقى من أستاذ اضطر إلى أخذ الصدقات، وإلى التصنع للأغنياء وإلى التضحية حتى بعزته العلمية، في سبيل جلب أنظار الناس إليه، فمال إلى الرياء أمام الذين يتصدّقون عليه. وبهذا جوّز أخذ ثمرات الآخرة في الدنيا. أقول: إن هذا الدرس نفسه يهون في هذه الحالة إلى مستوى قطع زجاجية».

3- عدم السؤال من أي أحد كان

«وذلك لما عاهد رسول الله ﷺ في رؤياه، مع إجابته عن كل سؤال يُسأل عنه بأجوبة صائبة. فكان يقول: إنني لا أنكر علم العلماء الأفاضل، فلا داعي لطرح السؤال عليهم امتحاناً لهم. ولكن إن كان أحد يشك في علمي فله أن يسأل ما يشاء من الأسئلة فأنا أجيبه عنها».

4- الزهد والعزوف عن الدنيا

«كان سعيد القديم يخبر طلابه -في مؤلفاته القديمة وفي إفادة المرام لإشارات الإعجاز- ويقول لهم مكرراً: ستحدث زلزلة اجتماعية بشرية عظيمة، زلزلة مادية ومعنوية، وسيغبطونني على اعتكافي وانزوائي وبقائي عزباً.

[فنذر نفسه لخدمة الإيمان والقرآن لاسيما بعدما سمع بـمؤامرة خبيثة تحاك حول القرآن الكريم، حتى إنه ترك الزواج وبقي عزباً طوال حياته، ويعلله بالآتي:]

أولا: في الوقت الذي يلزم لصد هجوم زندقة رهيبة تُغير منذ أربعين سنة، فدائيون يضحّون بكل ما لديهم، قررت أن أضحي لحقيقة القرآن الكريم لا بسعادتي الدنيوية وحدها، بل حتى إذا استدعى الأمر بسعادتي الأخروية كذلك، فلأجل أن أتمكن من القيام بخدمة القرآن على وجهها الصحيح بإخلاص حقيقي ما كان لي بد من ترك زواج الدنيا الوقتي -مع علمي بأنه سنة نبوية- بل لو وُهب لي عشر من الحور العين في هذه الدنيا، لوجدت نفسي مضطراً إلى التخلي عنهن جميعاً، من أجل تلك الحقيقة، حقيقة القرآن. لأن هذه المنظمات الملحدة الرهيبة تشن هجمات عنيفة، وتدبر مكايد خبيثة، فلا بد لصدها من منتهى التضحية وغاية الفداء، وجعل جميع الأعمال في سبيل نشر الدين خالصة لوجه الله وحده، من دون أن تكون وسيلة لشيء مهما كان.

ولقد أفتى علماء منكوبون، وأناس أتقياء، لصالح البدع، أو ظهروا بمظهر الموالين لها، من جراء هموم عيش أولادهم وأهليهم، لذا يقتضي منتهى التضحية والفداء، ومنتهى الثبات والصلابة وغاية الاستغناء عن الناس، وعن كل شيء، تجاه الهجوم المرعب العنيف على الدين، ولا سيما بعد إلغاء دروس الدين في المدارس وتبديل الأذان الشرعي ومنع الحجاب بقوة القانون؛ لذا تركت عادة الزواج الذي أعلم أنها سنة نبوية لئلا ألج في محرمات كثيرة، ولكي أتمكن من القيام بكثير من الواجبات وأداء الفرائض. إذ لا يمكن أن تقترف محرمات كثيرة لأجل أداء سنة واحدة. فلقد وجد علماء أدوا تلك السنة النبوية أنفسهم مضطرين إلى الدخول في عشر كبائر ومحرمات وترك قسم من السنن والفرائض، في غضون هذه السنوات الأربعين.

ثانيا: إن الآية الكريمة ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ﴾ (النساء:3) والحديث الشريف «تَناكحُوا تَكثُروا..» وأمثالهما من الأوامر، ليست أوامر وجوبية ودائمية، بل استحبابية مسنونة، فضلا عن أنها موقوفة بشروط لا بد من توافرها، وقد يتعذر توافرها للجميع وفي كل وقت. ثم إن الحديث الشريف «لا رُهبَانِيَة في الإسلام» لا يعني أن الانزواء والعزوبة -كما هو لدى الرهبان- محرمتان مرفوضتان لا أصل لهما. بل هو حث على الانخراط في الحياة الاجتماعية كما هو مضمون الحديث الشريف «خَيرُ النَّاس أنفَعهُم للنَّاس». وإلّا فإن ألوفاً من السلف الصالحين قد اعتزلوا الناس موقتاً، وآثروا الانزواء في المغارات لفترة من الزمن، واستغنوا عن زينة الحياة الدنيا الفانية وجردوا أنفسهم عنها، كي يقوموا ببناء حياتهم الأخروية على الوجه الصحيح. فما دام الكثيرون من السلف الصالحين تركوا الدنيا وزينتها بلوغاً إلى كمال باق وخاص بشخصهم، فلا بد أن من يعمل لأجل سعادة باقية، لكثير جداً من المنكوبين، ويحول بينهم وبين السقوط في هاوية الضلالة، ويسعى لتقوية إيمانهم، خدمةً للقرآن والإيمان خدمة حقيقية، ويثبت تجاه هجمات الإلحاد المغير من الخارج والظاهر في الداخل، أقول لا بد أن الذي يقوم بهذا العمل العام الكلي -وليس عملا خاصاً لنفسه- تاركاً دنياه الآفلة، لا يخالف السنة النبوية بل يعمل طبقا لحقيقة السنة النبوية.

ثم إنني أتمنى أن أغنم ذرة واحدة من هذا الكلام الصادق الصادر من الصديق الأكبر رضي الله عنه: «ليكبر جسمي في جهنم حتى لا يبقى موضع لمؤمن».. ولأجله آثر هذا السعيد الضعيف العزوبةَ والاستغناء عن الناس طوال حياته كلها.

ثالثاً: لم نقل لطلاب النور: «تخلوا عن الزواج، دعوه للآخرين» ولا ينبغي أن يقال لهم هذا الكلام. ولكن الطلاب أنفسهم على مراتب وطبقات. فمنهم من يلزم عليه ألّا يربط نفسه بحاجات الدنيا قدر المستطاع في هذا الوقت، وفي فترة من عمره، بلوغاً إلى التضحية العظمى والثبات الأعظم والإخلاص الأتم. وإذا ما وجد الزوجة التي تعينه على خدمة القرآن والإيمان، فبها ونعمت. إذ لا يضر هذا الزواج بخدمته وعمله للقرآن، ولله الحمد والمنة، ففي صفوف طلاب النور كثيرون من أمثال هؤلاء، وزوجاتهم لا يقصرن عنهم في خدمة القرآن والإيمان، بل قد يفقن أزواجهن ويسبقنهم لما فطرن عليه من الشفقة التي لا تطلب عوضاً، فيؤدين العمل بهذه البطولة الموهوبة لهن بإخلاص تام.

هذا وإن المتقدمين والسابقين من طلاب النور أغلبهم متزوجون، وقد أقاموا هذه السنّة الشريفة على وجهها، ورسائل النور تخاطبهم قائلة: اجعلوا بيوتكم مدرسة نورية مصغرة، وموضع تلقي العلم والعرفان، كي يتربى الأولاد الذين هم ثمارُ تطبيقِ هذه السنة، على الإيمان، فيكونوا لكم شفعاء يوم القيامة، وأبناء بررة في هذه الدنيا، وعندها تتقرر هذه السنة الشريفة فيكم حقاً. وبخلافه لو تربي الأولاد على التربية الأوروبية وحدها -كما حدث خلال ثلاثين سنة خلت- فإن أولئك الأولاد يكونون غير نافعين لكم في الدنيا -من جهة- ومدّعين عليكم يوم القيامة، إذ يقولون لكم: «لِمَ لم تنقذوا إيماننا؟» فتندمون وتحزنون من قولهم هذا، يوم لا ينفع الندم، وما هذا إلا مخالفة لحكمة السنة النبوية الشريفة».

5- عدم إطلاق اللحية

«إن إطلاق اللحية سنة نبوية، وليست خاصة بالعلماء. وقد نشأتُ منذ صغري عديم اللحية وعشتُ في وسط أناس تسعون بالمائة منهم لا يطلقون لحاهم.

هذا، وإن الأعداء يغيرون علينا دائماً وقد حلقوا لحى بعض أحبابي فأدركتُ عندها حكمة عدم إطلاقي اللحية، وإنه عناية ربانية، إذ لو كنت مطلِقاً اللحيةَ وحُلقتْ، لكانت رسائل النور تتضرر ضرراً بالغاً، حيث كنت لا أتحمل ذلك فأموت.

ولقد قال بعض العلماء: «لا يجوز حلق اللحية». وهم يقصدون عدم حلقها بعد إطلاقها، لأن حلقها بعد إطلاقها حرام. أما إذا لم يطلقها فيكون تاركاً لسنة نبوية.

ولكن في الوقت الحاضر، لأجل اجتناب كبائر عظيمة جداً قضينا طوال عشرين سنة حياة أليمة أشبه بالسجن الانفرادي، نسأله تعالى أن تكون كفارة لترك تلك السنة النبوية.

وأعلن أيضاً إعلاناً صريحاً قاطعاً: أن رسائل النور مُلك القرآن العظيم، فأنّى لي الجرأة أن أدّعي تملّكها! لذا لا تسري أخطائي وتقصيراتي فيها قطعاً، فأنا لست إلّا خادماً مذنباً لذلك النور الباهر، ودلّالاً داعياً في متجر المجوهرات والألماس. فأحوالي المضطربة لا تؤثر فيها ولا تمسّها أصلاً».