الفصل الثاني

في آفاق إسطنبول

سنة 1907م/1325هـ

في طريق إسطنبول

في أثناء مجيئي إلى إسطنبول قبل عهد الحرية، اقتنيت بضعة كتب قيّمة تخص علم الكلام فقرأتها بدقة. وبعد مجيئي إليها دعوت العلماء ومدرسي المدارس الدينية إلى المناقشة بإعلاني «اسألوا ما شئتم». إلّا أن الشيء المحير أن المسائل التي طرحها القادمون كنت قد قرأت أجوبتها في طريقي إلى إسطنبول وظلت عالقة في ذهني. وكذا الأسئلة التي طرحها الفلاسفة هي المسائل التي ظلت عالقة في ذهني.

والآن [أي بعد حوالي خمسين سنة] توضح الأمر فأدرك أن ذلك النجاح الباهر وذلك الإعلان وإظهار الإعجاب والفضيـلة التي تفوق حدي بكثير، إنما كان لتهيئة الوسط الملائم لقبول رسائل النور لدى إسطنبول وعلمائها ومعرفة أهميتها.

فلقد دعا العلماءَ وأهل المدارس الحديثة في إسطنبول -قبل إعلان الحرية بستة شهور- إلى المناظرة والمناقشة، والإجابة عن أسئلتهم دون أن يسأل أحداً شيئاً. فأجاب عن جميع استفساراتهم إجابة شافية صائبة.([1])

أسئلة القائد الياباني

«قدمتُ إلى إسطنبول قبل أربعين سنة، أي قبل عام واحد فقط من إعلان الحرية، وكان القائد الياباني العام آنذاك قد وجّه إلى علماء الإسلام بعض الأسئلة الدينية، فوجه علماء إسطنبول هذه الأسئلة إليّ كما طرحوا عليّ أسئلة أخرى عديدة بهذه المناسبة، ومن ضمن هذه الأسئلة ما ورد في أحد الأحاديث الشريفة أنه «يصبح شخص رهيب في آخر الزمان وقد كتب على جبينه: هذا كافر» فقلت: «سيتولى أمر هذه الأمة شخص عجيب، ويصبح وقد لبس قبعة على رأسه، ويُكره الناس على لبسها».

فسألوني بعد هذا الجواب: «ألا يكون من يلبسها آنذاك كافراً؟»

قلت: «عندما تستقر القبعة على الرأس ستقول: لا تسجد، ولكن الإيمان الموجود في الرأس سيرغم تلك القبعة على السجود إن شاء الله، وسيدخلها الإسلام»…

ثم سألوا أسئلة عديدة حول سد ذي القرنين ويأجوج ومأجوج وحول دابة الأرض والدجال وعن نزول عيسى عليه السلام، فأجبت عنها، حتى إن قسماً من هذه الأجوبة أدرج في بعض مؤلفاتي القديمة».([2])

عريضة إلى السلطان عبد الحميد الثاني

بضرورة إنشاء مدرسة الزهراء:

تهمة الجنون

في ختام المناظرات العلمية والمناقشات الرفيعة التي دامت بنجاح باهر أياماً وأسابيع، قالوا: إن هذا الرجل مجنون، لأنه يعلم كل شيء! وسجلوا اسم سعيد المسكين في سجل المجانين فألقوا سعيداً، مجنونَ العلم والمعرفة والوطن والمدنية والإنسانية في مستشفى المجاذيب، وبعثوا من القصر طبيباً ليفحص قواه العقلية في المستشفى. ولكن سعيداً المجنون! بدأ يشرح وضعه وسبب قدومه إلى إسطنبول، قائلاً: إنني لست مصاباً بالمرض بل الأمة والبلاد كلها، وجئت لأداوي أمراضهم؛ فالمنطقة الشرقية هي هي مذ خلقها الله سبحانه، وأهلوها غارقون في مستنقع الجهل، وجئت إلى هنا أملاً في إنقاذهم، ولكن عندما سعيت في هذا الأمر اتُّهمت بالجنون. إنه حقاً من عاشر المجانين يكون مجنوناً، فجئت إسطنبول وأصبحت مجنوناً».

إلى مستشفى المجاذيب

«كنت سابقاً أحسب أن فساد الشرق نابع من تعرض عضوٍ منه للمرض، ولكن لما شـاهدت إسطنبول المريضة وجسستُ نبضها، وشرّحتها، أدركت أن المرض هو في القلب، وسرى منه إلى جميع الجهات. فحاولت علاجه، ولكن أُكرمت بإلصاق صفة الجنون بي! حيث إن وشاية الحاسدين والخصماء، أدت بي أن أساق إلى مستشفى المجاذيب بأمر السلطان عبد الحميد رحمه الله رحمة واسعة».

حواره مع الطبيب

«أيها الطبيب المحترم! استمع أنت، فسأتكلم أنا. أعطيك دليلاً آخر على جنوني! وهو الجواب من دون سؤال! لا شك أنكم ترغبون في الاستماع إلى كلام مجنون غريب. إنني أطلب إجراء الكشف عليّ على صورة محاكمة، وليكن وجدانك هو الحكم. ومن العبث والفضول إلقاء درس في الطب إلى طبيب، ولكن واجب المريض أن يعينه في تشخيص العلة. فأرى من الضروري الاستماع إليّ كيلا يكذّبكم المستقبل. فخذوا هذه النقاط الأربع بنظر الاعتبار:

أولاها: أني ترعرعت في جبال كردستان، فعليكم أن تزنوا أحوالي التي لا تروق لكم بميزان كردستـان لا بميزان إسطنبول الحضاري الأنيق، فلو وزنتم بميزانها فقد وضعتم إذن سداً مانعاً أمامنا نحو إسطنبول التي هي منبع سعادتنا، ويلزمكم سوق معظم الأكراد إلى المستشفى، ذلك لأن الأخلاق المفضـلة -في الأناضول- هي الجسارة، وعزة النفس، والثبات في الدين، وانطباق اللسـان على ما في القلب. بينما الظرافة والرقة وما شابهها من أمور المدنية تعدّ بالنسبة لهم مداهنة وتزلفاً.

ثانيتها: أن أحوالي وأخلاقي مخالفة للناس، كما هو الحال في ملابسي. فاتخِذوا الأمر الواقع والحق محل النظر وموضع الاعتبار، ولا تتخذوا ما روّجه الزمان أو العادات من أخلاق سيئة بتقليد الناس بعضهم بعضاً مقياساً لوزن الأمور. إنني مسلم، ملتزم، ومكلّف بهذا الالتزام والوفاء به من حيث الإسلام. فعليّ أن أفكر فيما ينفع الأمة والدين والدولة ولا أقول ذلك القول الفاسد المميت: «مالي ولهذا.. فليفكر فيه غيري».

ثالثتها: لقد أتى ومضى أشخاص نوادر، كل سبق زمانه، ولكن الناس حملوا أطوارهم على الجنون بادئ بدء، ثم على السحر والخوارق. إن التضاد الموجود بين هاتين النقطتـين إيماء وإشارة إلى التضاد الموجود بين مدَّعَيات الذين حكموا عليّ بالجنون وأدلتهم. إذ قالوا بأفعالهم: إنه مجنون، لأنه يجيب على كل مسألة، ويحلّ كل معضلة! إن الذي يورد مثل هذا الدليل مجنون بلا شك!

رابعتها: أنه من الضروري أن يحتد ويغضب كل من له مزاج عصبي مثلي، لأن الذي يحمل فكراً رفيعاً -أي الحرية الشرعية- منذ خمس عشرة سنة، وأوشك أن يراه فعلاً، إذا به يرى نفسه على خطر وهلاك من حرمان رؤيته -بانقلاب عظيم- كيف لا يحتد ولا يغضب؟

ثم إن وزير الأمن أشد منى حدّة وغضباً فهو أكثر مني جنوناً إذن. علماً أنه لا يَسلَم إلّا واحد من ألف من الناس من هذا الجنون الموقت؛

فكل الناس مجنون ولكن على قدر الهوى اختلف الجنون

فلئن كانت المداهنة والتملق والتزلف وفداء المصلحة العامة في سبيل المصـلحة الخاصة تعدّ من مقتضى العقل.. فاشهدوا أني أقدم براءتي من هذا العقل، مفتخراً بالجنون الذي هو أشبه ما يكون بمرتبة من مراتب البراءة.

وهناك نقاط أربع جلبت الشبهة عليّ، علماً أنني عملتها على علم ولحكمة خفية:

أولاها: شكلي الغريب.

إنني أعلن بملابسي المخالفة للناس استغنائي عن المقاصد الدنيوية… واعتذاري عن عدم مراعـاتي للعادات الجارية في البلاد.. ومخالفة أحوالي وأطواري عن الناس.. وفطرية إنسانيتي بموافقة الظاهر والباطن.. ومحبة ملتي.

ثم إن المعنى الغريب لا بد أن يكون ضمن لفظ غريب ليلفت الأنظار.. ثم إنني أنصح بهذا الشكل الغريب، نصيحة فعلية لتشجيع المصنوعات المحلية.. وأشير به أيضاً إلى ميل التجدد الذي أشعر به في ذاتي وإلى تجدد الزمان في الوقت نفسه.. ثم إنني بايعت السلطان سليم.

ثانيتها: مناظرتي العلماء.

والداعي إليها هو أنني لماّ قدمت إسطنبول شاهدت أن المدارس الدينية لم تتقدم كالمرافق الأخرى في البلاد. وأعزو سبب ذلك إلى إقامة الاستعداد -الذي هو القدرة على الاستنباط من الكتاب- موضع الملكة، ونشوء حالات التعطل، وفقدان الشوق، وضعف الملكة لدى الطلاب الناشئة من عدم إجراء المناظرات العلمية.

ثم إن العلوم الإلهية لا تُكسب كسائر العلوم، حيث إنها علوم مقصودة بالذات، تنتج لذة حقيقية. فلا هي كالعلوم الكونية المثيرة للحيرة والإعجاب ولا هي كعلوم اللهو التي يقضى بها الوقت. لذا يلزم لكسب العلوم الإلهية همّة عالية، أو توغلٌ تام، أو مسابقة بدافع مشوّق، أو تنفيذ قاعدة تقسيم الأعمال. أي يتوغل كل طالب في علوم معينة حسب استعداده، حتى يتخصص فيها ولا يظل سطحياً عابراً، حيث إن لكل علم من العلوم صورة حقيقية، إن فقدت الملكة يغدو بعض أجزائه ناقصة كالصورة الناقصة. أي على الطالب المسـتعد أن يتخذ علماً من العلوم أساساً له، ويأخذ خلاصة من كل علم من العلوم المتعلقة به، لإتمام صورة ذلك العلم. لأن كل خلاصة يمكن عدّها مكملة للصورة الأساس من دون أن تشكل صورة مستقلة.

فيا طلاب العلوم الدينية الذين يسمعون صوتي! لنكن خير خلف لسلفنا الذين بلغوا أوج الكمال، ولنسع في سبيل ذلك كطلاب المدارس الحديثة الذين أصبحوا خير خلف لسلفهم الناقصين. وكنت أريد بالمناظرة أن أنبّه إلى هاتين النقطتين فعلياً.

ثالثتها: لقد طرحت وبينت هذين المفهومين:

أولهما: أن الإسلام الذي يمثل الحضارة الحقة في عصر الرقي والتقدم هذا، لم يترق كالحضارة الحاضرة. وأرى أن أهم سبب في ذلك هو تباين الأفكار وتخالف المشارب بين أهل المدارس الدينية والمدارس الحديثة والزوايا.

فأهل المدرسة الدينية يتهمون أهل المدرسة الحديثة بضعف العقيدة لتأويلهم ظواهر بعض الآيات والأحاديث تأويلاً يفضي إلى غير المراد منها، وهؤلاء يعدّون أولئك غير موثوق بهم لعدم إقبالهم على العلوم الحديثة، في حين ينظر أهل المدارس الحديثة إلى التكايا والزوايا كأنـهم أهل بدعة حيث يبنون رأيهم هذا على ظن باطـل لدى العوام وبعض الجهلاء الذين يعدّون أعمالاً وحركات في الذكر -الذي هو عبادة- أنها من الذكر نفسه، في حين أنها موضوعة للحث وتزييد الشوق، ولا تجوز إلّا إذا كانت مباحة. وقد فتح باب التساهل بتفريط هؤلاء وإفراط أولئك اختلاط بعض البدع مع الذكر. فهذا التباين في الأفكار والتخالف في المشارب قد هزّ الأخلاق الإسلامية هزاً وأخّرها عن ركب المدنية.

وعلاج هذا: تدريس العلوم الدينية في المدارس الحديثة تدريساً حقيقياً.. وتحصيل بعض العلوم الحديثة في المدارس الدينية في موضع الحكمة القديمة التي أصبحت لا ضرورة لها.. وكذا وجود علماء متبحرين في التكايا…

ويؤمَّل أملاً قوياً بعد هذا أن تصبح هذه المرافق الثلاثة جهازاً متناسقاً يقطع المراتب نحو الرقي والتقدم.

الفكر الثاني: أنني استمعت إلى الوعاظ، فلم تؤثر فيّ نصائحهم ووعظهم، فتأملت في السبب، فرأيت أنه فضلاً عن قساوة قلبي هناك ثلاثة أسباب:

1- إنهم يتناسون الفرق بين الحاضر والماضي فيبالغون كثيراً في تصوير دعاويهم محاولين تزويقها دون إيراد الأدلة الكافية التي لا بد منها للتأثير وإقناع الباحث عن الحقيقة، فالزمن الحاضر أكثر حاجة إلى إيراد الأدلة.

2- إنهم عند ترغيبهم بأمرٍ ما وترهيبهم منه يُسقطون قيمة ما هو أهم منه، فيفقدون بذلك المحافظة على الموازنة الدقيقة الموجودة في الشريعة، أي لا يميزون بين المهم والأهم.

3- إن مطابقة الكلام لمقتضى الحال هي أرقى أنواع البلاغة، فلا بد أن يكون الكلام موافقاً لحاجات العصر، إلّا أنهم لا يتكلمون بما يناسب تشخيص علة هذا العصر، وكأنهم يسحبون الناس إلى الزمان الغابر، فيحدثونهم بلسان ذلك الزمان.

فعلى الوعاظ والمرشدين المحترمين أن يكونوا محققين ليتمكنوا من الإثبات والإقناع، وأن يكونوا أيضاً مدققين لئلا يفسدوا توازن الشريعة، وأن يكونوا بلغاء مقنعين كي يوافق كلامهم حاجات العصر، وعليهم أيضاً أن يَزنوا الأمور بموازين الشريعة.

رابعتها: قلت: إن ذهني مشوش وعاجز، وقصدت به طروء النسيان على حافظتي وشعوري بضيق في ذهني واستيحاش في طبعي.

ولما كان المجنون لا يقول أنا مجنون، فلا يكون قولي هذا دليلاً على جنوني.

وقلت أيضاً: إنني درست ثلاثة أشهر فقط بعد كتاب «الإظهار» فهذا الكلام يجلب الشك والريب من جهتين؛ فإما أنه خلاف الواقع.. بينما يصدّق به معظم أهالي كردستان، وإما أنه يومئ إلى المدح والغرور -الذي هو عنصر من عناصر الجنون رغم أنه صدق- كما تقول به أيها الطبيب.

وجوابه: هو جوابي الصائب والذي استلزم التمدح لسؤال سألنيه أحد رجال الدولة.

والآن أظن أن لديكم شكاً في صحة عقلي بعد زوال الشبهة عن شعوري. ويمكن أن يزول ذلك الريب بأدنى محاكمة عقلية؛ إذ إن رجلاً من الأكراد الجاهلين الطليقين الأحرار، إن لم يكن صاحب وفاء لأمة راقية كالألماس، ولم يكن صاحب فكر رفيع، كيف يستطيع أن يستر حيلته وفكره الفاسد طوال هذا الزمان مع تـميّزه عن الآخرين؟ إنني أعدّ الحيلة في ترك الحيل. فإذن قد شعر بقلبه وفاءً خالصاً صافياً يفوق الجميع حتى وجد نفسه في مثل هذه الأحوال.

وقد صدق الشاعر:

وكَم مِنْ عائبٍ قولاً صحيحاً وآفتُه من الفَهمِ السَقيمِ

بمعنى أن فهم أطبائنا هو فهم سقيم.. فهم مجانين بحكم تقاريرهم الطبية، وأن وزير الأمن هو الآخر مجنون لشدة حدّته وغضبه.

أيها الطبيب!

إن كنتَ طبيباً حاذقاً فداو نفسك قبل أن تداويني.

ويا أيها الناظرون إلى كلامي هذا! إن كان فيه ما يجرح شعوركم، أو لا تهضمه معدتكم الضعيفة، فاعذروني لأنني قلته في وقت الجنون حينما كنت بين جدران مستشفى المجاذيب… ولا شك أن تأثير المحيط أمر مسلّم به. لأن «ديوانه را قلم نيست» بمعنى أن القلم رفع عن المجنون. فالأمي الجـاهل أي الحر، والكردي الذي لا يتقن التركية يمكن أن يبين مرامه بهذا القدر. والسلام».

«أستولت على الطبيب الحيرة بعد سماعه هذا الكلام، فأدرك مدى جديته وسعيه الحثيث في خدمة الوطن ونـفع الأهلين في كسب المعرفة، وكيف أنه في قمة الذكاء فكتب تقريراً ضمّنه هذا الكلام: «لا يوجد بين القادمين إلى إسطنبول من يملك ذكاءً وفطنة مثله. إنه نادرة العالم!» وعلى إثر هذا التقرير حلّت الدهشة والهلع في صفوف المسؤولين في القصر، فأصدروا أمراً مستعجلاً بأخذ سعيد فوراً من المستشفى إلى الموقف. وبعثوا مع وزير الأمن «شفيق باشا» أمراً إدارياً يتضمن تخصيص مبلغ قدره ثلاثون ليرة ذهبية مرتّباً شهرياً مع مبلغ من التبرعات وذلك لأجل إبعاده عن إسطنبول».

حواره مع وزير الأمن «شفيق باشا»

وزير الأمن: «السلطان يسلم عليك، كما أمر بصرف مرتّب شهري لك بملبغ ألف قرش وقال إنه سيرتفع إلى ثلاثين ليرة».

فقلت جواباً: «أنا لست متسول مرتّبٍ وإن بلغ ألف ليرة، فأنا لم آت إلى هنا إلّا من أجل أمتي وليس من أجل نفسي، ثم إن ما تحاولون تقديمه لي ليس إلّا رشوة للسكوت!»

الوزير: «أنت تردّ إرادة السلطان، وهذه الإرادة لا تردّ».

قلت جواباً: «إنني أردّها لكي يتكدر السلطان ويستدعيني، عند ذلك أجد الفرصة لقول الحق عنده».

الوزير: «ستكون العاقبة وخيمة».

الجواب: «لو كانت نتيجتها إلقائي في البحر فإن البحر سيكون لي قبراً واسعاً، وإن نفّذ إعدامي فسأرقد في قلب الأمة. علماً بأنني عندما حضرت إلى إسطنبول حضرتها وقد وضعت روحي على راحة كفي فافعلوا بي ما بدا لكم. وأنا أعني ما أقول، لأنني أريد تنبيه أبناء أمتي وذلك خدمة للدولة التي انتسب إليها وليس من أجل جَنْيِ مرتّبٍ. ثم إن الخدمة التي يستطيع أداءها شخص مثلي هي تقديم النصيحة للأمة وللدولة، ولا قيمة لهذه النصيحة إلّا بحسن تأثيرها، ولا يحسن تأثيرها إلّا عندما تكون مخلصة خالية من شوائب الطمع، وهذه لا تكون إلّا عندما تكون دون مقابل وبعيدة عن المنافع الشخصية، لذا فإنني معذور عندما أرفض هذا المرتّب».

شفيق باشا: «إن اقتراحك بنشر المعارف والعلوم في كردستان هو الآن موضع دراسة في مجلس الوزراء».

بديع الزمان: «إذن فلماذا أُجّل بحث المعارف واستُعجل في المرتّب؟ وعلى أي أساس تم هذا؟ لماذا تفضلون المنافع الشخصية على المنافع العامة؟».

اعتراضه على الاستبداد

الاسـتبداد هو التحكم أي المعاملة المزاجية (الاعتباطية) أي الجبر باستناد القوة، أي الرأي الواحد، أي المساعد لتطرق سـوء الاستعمالات، أي المفتوحة أبوابه لتداخل المفاسد، وما هو إلّا أسـاس الظلم، ومـاحـي الإنسانية. وهو الـذي دحرج الإنسان المكرّم إلى أسفل سافلين في السفالة.. وهو الذي أوقع العالم الإسلامي في المذلّة.. وهو الذي أيقظ الأغراض والخصومات.. وهو الـذي سمم الإسلامية.. وهو الذي سرى سمّه في أعصاب العالم الإسلامي.. وهو الذي أوقع الاختلافات المدهشة…».

«هذا وإن الاستبداد المتعسف لا صلة له بالشريعة الغراء، وإن الشريعة قد أتت لهداية العالم أجمع كي تزيل التحكم الظالم والاستبداد».

«وإن الثلاثين سنة التي قضيناها صائمين عن الكلام متجملين بالصبر والتوكل على الله، سننال ثوابها بانفتاح أبواب جنة الرقي، أبواب المدنية التي لا عذاب فيها».

إنه استبداد ضعيف بالنسبة لما سيأتي

«حينما كانت «الحرية» قرينة الجنون، جعل الاستبداد الضعيف مستشفى المجاذيب مدرسةً لي.

والذي يبدو أن الغاية ما كانت استرداد الحرية من السلطان عبد الحميد، بل تحويل استبداد ضعيف وضئيل إلى استبداد شديد وقوي.

وقد رأيت كثيرين يهاجمون «السلطان عبد الحميد» أكثر من هجوم «الأحرار» وكانوا يقولون: إنه على خطأ لقبوله «الحرية» و«القانون الأساسي» قبل ثلاثين سنة.

فما ظنكم بقول من حَسِبَ الاستبداد الذي اضطر إليه السلطان عبد الحميد حريةً، وارتعد من القانون الأساسي الذي هو اسم دون مسمّى! فما قيمة قوله يا تُرى؟.

وكيف لا أعارض مَن ظن الاستبداد السابق حريةً وهاجم القانون الأساسي! ولكن مع أن أولئك كانوا يعارضون الحكومة إلّا أنهم أرادوا استبداداً أشدّ، لهذا كنت أرفضهم وأردّ عليهم.

ولقد أحس «سعيد القديم» ما أحسّه عدد من دهاة السياسة وفطاحل الأدباء؛ بأن استبداداً مريعاً مقبلٌ على الأمة، فتصدّوا له، ولكن هذا الإحساس المسبَق كان بحاجة إلى تأويل وتعبير، إذ هاجموا ما رأوه من ظل ضعيف لاستبدادات تأتي بعد مدة مديدة وألقت في نفوسهم الرعب، فحسبوا ظل استبداد ليس له إلّا الاسم استبداداً أصيلاً، فهاجموه. فالغاية صحيحة إلّا أن الهدف خطأ».

دفاع عن السلطان عبد الحميد([3])

«إن السلطنة والخلافة متحدتان بالذات ومتلازمتان لا تنفكان وإن كانت وجهة كل منهما مغايرة للأخرى.. وبناء على هذا فسلطاننا هو سلطان وهو خليفة في الوقت نفسه يمثل رمز العالم الإسلامي. فمن حيث السلطنة يشرف على ثلاثين مـليوناً، ومن حيث الخلافة ينبغي أن يكون ركيزة ثلاثمائة مليون من المسلمين الذين تربطهم رابطة نورانية، وأن يكون موضع إمدادهم وعونهم. وهو السلطان المظلوم.

[أما قولهم:]   لا يمكن بالظلم والجور محو الحرية

ارفع الإدراك إن كنت مقتدراً من الإنسانية!

هذا الكلام الرصين أُثير خطأً في وجه رجل ذي شأن ما كان يليق به مثل هذه الصفعة، بل جدير بهذا الكلام أن يصفع به الوجه الغدار لهذا العصر الحامل لاستبداد رهيب يتستر بهذه الحرية».

رؤيا تخص السلطان عبد الحميد

«رأيت السلطان في عالم المعنى، فقلت له: ابذل زكاة عمرك في الطريق الذي سلكه عمر الثاني -بن عبد العزيز- كي تكسب إقبال الأمة وتوجههم إليك والذي هو معنى البيعة والضرورة اللازمة لرئاسة المشروطية.

قال السلطان: «هب أنني سلكت مسلكه، فهل تستطيعون تقليد أطوار أهل ذلك الزمان؟ وهل لديكم ما لديهم من قوة الإسلام وصفاء القلب والأخلاق الرفيعة؟ قلت: إن ما لدينا من تيقظ الرأي العام واستكمال المبادئ والوسائل لاحتضان الحضارة يسد مسدّ تلك النقاط ويستحصلها متوجهاً نحو الرقي المطلوب».

قال: «وكيف أعمل؟»

قلت: «أظهر حسن نيتك بالمشروطية، إذ لم يُهرق دم في قلب الممالك، إسطنبول. وأنت برأفتك وشفقتك رضيت بها دون إراقة دم. فاجعل قصر يلدز المكروه لدى الناس محبوباً إليهم، وذلك بتنويره بملائكة الرحمة، العلماء العاملين، بدلاً من الزبانية السابقين. وحوّله إلى جامعة إسلامية تحيا فيها العلوم الإسلامية. وارفع من مستوى المشيخة الإسلامية والخلافة إلى ما يليق بهما. وداو -بقدراتك وثرواتك- ضعف الدين الذي أصيبت به الأمة في قلبها والجهل الذي أصيبت به في رأسها. وبذلك ترفعون قصر يلدز إلى أعلى مقام، إلى الثريا.. لتظل الأسرة العثمانية متربعةً على برج الخلافة ناشرة العدالة إلى الأرجاء. وحيث إنك إمام الأمة، اقتصد في الحاجيات الضرورية لتقتدي بك الأمة المسكينة التي عوّدت على الإسراف».

ثم أفقت من النوم، فرأيت أن الرؤيا هي اليقظة والحقيقة، وعالم اليقظة هو الرؤيا».

رسالة خاصة لدفع الشبهات عن السلطان عبد الحميد ([4])

لقد ساور أحد إخواننا المعلمين شبهة في أن أستاذنا قد هاجم السلطان عبد الحميد الثاني ولم يقدّر ذلك السلطان العظيم حق قدره وذلك بما يفهم من خطبه التي ألقاها في بداية عهد الحرية.

الجواب: إننا نجيب عن حقيقة الوضع الذي فهمناه من أستاذنا:

أولاً: إن الدستور الذي سار عليه أستاذنا طوال حياته هو الدستور القرآني والقاعدة الجليلة ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرٰى﴾ (الأنعام:164) بمعنى أن الأخطاء التي ارتكبتها حكومة ذلك العهد لا تُسند إلى السلطان. ولهذا حمل نحوه حسن الظن، بل سعى -تجاه معارضيه- لتأويل ما اضطر إليه من أخطاء وتقصيرات.

ثانياً: لقد أثنى أستاذنا ثناءً حسناً على الحرية الشرعية بداية عهد الحرية، ودعا الناس في خطبه إليها، وقال للمعارضين لها:

«إن لم تنضبط الحرية بالشريعة فإن ما أطلقتموه من استبداد ضعيف جزئي اضطر إليه شخص، يصبح استبداداً عظيما يوزع على الناس كافة. ويغدو كل شخص مستبداً بذاته، فيتولد عندئذٍ استبداد مطلق، وينقلب الاستبداد الواحد إلى الألوف، بمعنى أن الحرية ستموت ويولد استبداد مطلق».

حتى إن أستاذنا وجّه إلى المحكمة التي نصبت لأجل الإعدامات ما يأتي:

«إن كانت المشروطية تعني مخالفة الشريعة واستبداد جماعة معينة -الاتحاديين- فليشهد الثقلان أني مرتجع».

ثالثاً: لقد شعر أستاذنا بنوع من إحساس مسبق، نجاة العالم الإسلامي الحالي من سيطرة الأجانب وتوجهه إلى الاتفاق على صورة جماهير متحدة إسلامية فكان يتمنى هذا ويتصوره، بل دعا إليه بكل ما أوتي من قوة، لذا قدّر الحرية الشرعية حق قدرها. وقال في خطبه آنذاك: «إن لم تربّ الحرية بالتربية الإسلامية فستموت، ويولد مكانها الاستبداد المطلق».

رابعاً: لقد سمعنا من أستاذنا وعرفنا منه عن كثب أنه كان يعتقد أن السلطان عبد الحميد -من بين السلاطين- في حكم ولي من الصالحين، لوقوفه بصمود تجاه دسائس الأجانب وقواهم، وكونه خليفة معظم العالم الإسلامي، وسوقه العشائر الرحّل في الولايات الشرقية إلى مراقي المدنية والعسكرية بالقوات الحميدية، ومراعاته الشعائر الإسلامية ما استطاع إليها سبيلا وأدائه صلاة الجمعة في المسجد، واتخاذه شيخاْ فاضلا ومرشدا معنوياّ بصورة دائمة في قصره. فضلاً عن حسناته الأخرى.

طلاب النور الملازمون للأستاذ، 1953.


مطاليبه من السلطان

أ. إصلاح أوضاع شرقي الأناضول بإنشاء مدرسة الزهراء

ب. إصلاح القصر

«انطلاقاً من مفهوم الحفاظ على مركز الخلافة وهو مركز المسلمين وموضع رابطتهم، والحيلولة دون ضياعه.. وظناً من كون حضرة السلطان عبد الحميد الثاني على استعداد لاسـتيضاح الأمر والندم على أخطائه الاجتماعية السـابقة.. وأخذاً بالقاعدة الجليلة ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ (النساء:128) لتخفيف الأحداث الحالية التي سارت بعنف وبذرت بذور الفتن والاضطرابات، وتحويلها إلى افضل ما يمكن.. لأجل كل ذلك قلت بلسان الجريدة للسلطان السابق ما يأتي:

اجعل قصر يلدز، ذلك النجم المنخسف، جامعة للعلوم ليرتفع إلى الأعالي كالثريا.

وأسكن فيه أهل الحقيقة وملائكة الرحمة بدلاً من السوّاح وزبانية جهنم ليصبح مبهجاً كالجنة.

وأعد إلى الأمة ما أهدته لك من ثروات في القصر بصرفها في إنشاء جامعات دينية لتزيل الجهل الذي هو داء الأمة الوبيل.

ووطّن الثقة بمروءة الأمة ومحبتها، فهي المتكفلة بإدارتكم السلطانية. دع الدنيا قبل أن تدعك واصرف زكاة العمر في سبيل العمر التالي. إنه ينبغي التفكر في الآخرة وحدها بعد هذا العمر».


[1]  اللمعات، اللمعة الثامنة والعشرون.

    يقول السيد «حسن فهمي باش أوغلو» (الذي أصبح فيما بعد عضواً في هيئة الاستشارة للشؤون الدينية في تركيا): «عندما كنت طالباً في «مدرسة فاتح» زمن المشروطية سمعنا بقدوم شاب إلى إسطنبول اسمه «بديع الزمان» علق لوحة على باب غرفته «في خان الشكرجي» الذي يقيم فيه كتب فيها: هنا تحلّ كل معضلة ويجاب عن كل سؤال من دون توجيـه سؤال لأحد. وقد خطر ببـالي أن صاحب مثل هذا الادعاء لا بد أن يكون مجنوناً، ولكن كثرة الثناء والمديح المتكرر الذي بدأت أسمعه من الناس ومن الطلبة ومن العلماء الذين قاموا بزيارته أثارت في نفسي رغبة كبيرة لزيارته، فقررت أن أختار أصعب الأسئلة لأدق المسائل لأطرحها عليه، وكنت آنذاك أعدّ من الطلبة المتفوقيـن في المدرسة. وفي مساء أحد الأيام تهيأت واخترت من علوم العقائد أدق المواضيع التي تحتاج الإجابة عليه إلى عدة كتب، وذهبت إليه في اليوم التالي ووجهت إليه تلك الأسئلة فكانت أجوبته خارقة ومدهشة وعجيبة فكأنه كان معي يدقق = الكتب البارحة لأن أجوبته كانت تامة وكاملة. أما أنا فقد اطمأننت تماماً وعلمت علم اليقين بأن علمه ليس كسبياً كعلمنا، بل هو علم لدني، ثم أخرج لنا خارطة أوضح عليها مدى أهمية فتح المدارس العلمية وضرورتها في شرقي البلاد التي كانت تدار آنذاك من قبل «القوات الحميدية» فبين عدم كفاية هذا الطراز من الإدارة لتلك المنطقة، كما بين ضرورة إيقاظ هذه المنطقة علمياً وذلك بأسلوب مقنع، وأنه لم يأت إلى إسطنبول إلا من أجل تحقيق هذه الغاية وكان يقول: «إن الدين هو ضياء القلوب، أما العلوم الحديثة فهي نور العقول».

       ويقول الكاتب التركي «ماهر إيز»: «عندما أتى «بديع الزمان» إلى إسطنبول كان شاباً، ويتجول بملابسه المحلية، وكان شخصاً بليغاً ماهراً في الحديث وخطيباً مفوهاً ومن أصحاب الذكاء الخارق الذي أنجبته المنطقة الشـرقية للبلاد، دعا العلماء للمناظرة وتحداهم جميعاً لأنه كان واثقاً من نفسه».

       ويسرد السيد «علي همت بركي» وهو من رؤساء محكمة التمييز السابقين ذكرياته حول وصول «بديع الزمان» إلى إسطنبول فيقول: «كنت آنذاك طالباً في مدرسة القضاة (أي كلية الحقوق) عندما انتشرت إشاعة تقول إن شخصاً اسمه «بديع الزمان» ذا زي غريب جاء من شرقي البلاد وانه يجيب عن أي سؤال كان يوجه إليه، فشعرنا بفضول كبير وذهبنا لرؤيته.. كان جالساً يتناول بالتفنيد والدحض الفلسفة السوفسطائية بأدلة عقلية ومنطقية.. كان جديراً فعلاً بلقب «بديع الزمان» إذ لم يكن هناك حد لمعلوماته في الفلسفة الإسلامية (أي في علم الكلام) وفي علم اللغة». (ش) 83.

[2]  الشعاعات، الشعاع الرابع عشر. والمقصود بالمؤلف القديم: رسالة «محاكمات أو رجتة العلماء»، التي ألّفها في هذه الفترة وضمنها الأجوبة اليـابانية، في المقالة الثالثة منها. وقد فصّل في الشعاع الخامس من مجموعة الشعاعات مباحث الدجال والسفياني وأشراط الساعة الأخرى مع ذكر الأحاديث الشريفة الواردة بحقها

[3]  يذكر مصطفى صونغور: أن الأستاذ بعد ما عانى ما عانى من عهد الحزب الواحد كان يخاطب نفسه قائلاً: أيا سعيد تجرع أذى هذا الاستبداد الرهيب عقاباً لك على إلصاق تهمة الاستبداد بسلطان رؤوف شفيق. (ب) 1/184.

     وينقل أيضاً: قال أستاذنا يوماً بحق المرحوم السلطان عبد الحميد: إن السلطان عبد الحميد ولي من الصالحين. وقد أدخلته ضمن دعواتي الخاصة. فأدعو صباح كل يوم: يارب ارض عن السلطان عبد الحميد خان والسلطان وحيد الدين والأسرة العثمانية الحاكمة. (ب)1 /184.

[4]  يذكر «محسن آلو» أحد طلاب النور الذي لازم الأستاذ النورسي أنه عندما سمع الأستاذ أن أحداً قد نشر كتاباً في إسطنبول يتهجم فيه على السلطان عبد الحميد قال: إن السلطان عبد الحميد كان خليفة ستين مليوناً من المسلمين، وأنا أنظر إليه نظر ولي من الأولياء. ثم نشر رسالة خاصة (ملحقة) بهذا الشأن. «Son Şahidler 4 ص313».