الرسالة الخامسة

حباب من عُمَّان القرآن الحكيم

خداى بركرم خود ملك خودرامى خِرَد أز تو

براى تونكه دارد بهاء بى كران داده ([1])


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحَمدُ لله ربّ العالَمينَ

والصَلاةُ والسَّلامُ على سيّد المُرسلينَ. وعلى آلهِ وَصَحبهِ أجمَعين.

اعلم أيها المؤمن المصلي الذاكر، إذا قلت: «أشهدُ أن لا إلهَ إلّا الله» أو«محمدٌ رسولُ الله» أو«الحمد لله».. مثلا: حكمتَ بحكمٍ، ادّعيتَ دعوى، وأعلنت اعتقادا، يشهد لك في دعواك في آنِ تلفّظِك ملايينُ، وقبلَك ملايينُ ملايينَ من المؤمنين المتكلمين بما تكلمتَ به؛ كأنهم يصدّقونك.. وكذا يؤيدُك في دعواك ويُثبت حكمَك ويزكّي شهداءك كلُّ ما قام على صدق الإسلامية، وكلُّ ما أثبت حُكما من أحكامها، وكلُّ ما استند عليه جزءٌ من أجزاء قَصر الإسلام من الشواهد والبراهين ومسامير الدلائل.. وكذا اندمج في ملفوظك وتوضَّعَ عليه أمرٌ عظيم، ويُمنٌ جسيمٌ من الفيوضات والبركات القدسية.. وكذا اتصل بملفوظك وأحاطَ به معنىً جاذب، وروحٌ جالب من شرارات جَذَبات توجهات جمهور المؤمنين، ومن رشاشات رشحات رشفات قلوب الموحّدين الشاربين ماءَ الحياة من عيون تلك الكلمات المباركة..

اعلم أنه قد تقرر في الأصول: «أن المثبِت يرجَّح على النافي». وسرُّه: أن النفي ينحصر في موضعه، والإثبات يتعدى. ولونفى ألفٌ، وأثبته ألفٌ كان كلٌّ من المثبتين كألفٍ. بسرّ: أنه إذا رأى واحدٌ الشمسَ من مشكاةٍ، وآخر من أخرى، وهكذا؛ فكلٌّ يؤيد كُلا، لاتحاد المَرئي والمشهودِ مع تعدد المناظر.. وإذا لم يره واحدٌ لعدم المشكاة، وآخر لضعف البصر، وآخر لعدم النظر، وهكذا.. فقوةُ كلٍّ في نفسهِ فقط، والانتفاءُ عنده، لا يدل على الانتفاء في نفس الأمر، فلا يؤيد أحدٌ أحدا لاختلاف الأسباب مع تعدد المدَّعى؛ لأن الانتفاء مقيّدٌ عند النافي بـ«عندي» مثلا.

فإذا تفهّمت هذا السر؛ فاعلم أن اتفاق كلّ أهل الضلالة والكفر على نفي مسألةٍ من المسائل الإيمانية، فاتفاقهم لا تأثير فيه، بل كحُكم واحدٍ. مع أنه حجةٌ قاصرة ينحصر على النافي فقط. وأما اتفاقُ أهل الهدى على المسائل الإيمانية فكلٌّ يتأيد بكلٍّ، كأن الكلَّ شواهد كلِّ واحدٍ.

اعلم أنه كما أن الأجزاء والأحجار في البناء المتساند يستند كلُّ واحدٍ بقوة الكل، ويزول ضعفُ كلٍّ بتساند الكلِّ، كأن الكلَّ عَوَنَةُ كلِّ واحدٍ ومساميره.. وأيضا كما أن الأغصان والأثمار في الشجرة تستند معرفةُ صفاتِ كل واحدٍ بالكلِّ، فكلٌّ للكلِّ معرِّفٌ، كأن كلَّ واحدٍ لكلِّ واحدٍ منفذٌ نظّار، ولمعرفته معيار.. كذلك إنّ تفاصيلَ لمعات الإيمان والإسلام ومسائلَهما يستند كلُّ جزئي بقوة الكلِّ، فبازدياد التفاصيل والجزئيات يزداد وضوحُ فهم كلِّ جزء وقوةُ معرفة كلِّ جزئي، وإذعانُ كلِّ حكم، وإيقانُ كلِّ مسألة. ومع كلِّ ذلك، فالنفسُ الشيطانة تعكس فتنتكس. فتزعم ضعفَ الجزء سببَ ضعفَ الكلِّ..

اعلم أن كلَّ جزء من كلِّ الكون واحد قياسيّ لإمكانات سائر الأجزاء. وبالعكس؛ فأجزاء الكائنات مقاييس للإمكانات بينها كلٌّ لكلٍّ..

اعلم أن أصغر جزءٍ؛ من أعظم كلٍّ، يحتاج إلى ما يحتاج إليه كلُّ الكلِّ كَمّا، فالثمرةُ تحتاج إلى كلِّ ما يحتاج إليه كلُّ الشجرة. فخالقُ الثمرة بل حُجيرةٍ من حُجيراتها لابد أن يكون خالقَ الشجرة، بل خالقَ الأرض، بل خالقَ شجرة الخلقة.

اعلم أن المسألة التي طرفاها في غاية التباعد، كل طرف كنواة تَسَنبلَت وأشجرت وتفرعت، لابد أن لا يتوضّع عليها الشكوك والأوهام؛ إذ التباسُ نواةٍ بنواة ممكن ما بقيت النواةُ نواةً مستورة. وأما إذا صارت شجرة وأثمرت، ثم شككتَ في جنس النواة شهدت الثمراتُ عليها، ولوتوهمتَها غيرها، كذّبتْكَ تلك الثمرات.

مثلا: لا يتيسر لك فرضُ النواة التي انقلبت شجرةَ التفاح نواةَ حنظلةٍ، إلّا بتوهمها إياها، أوتبديل كلِّ ما أثمرت من التفاحات حنظلات وهومحال.

النبوة نواةٌ، أَنبتت شجرةَ الإسلامية بأزاهيرها وثمراتها، والقرآنُ شمسٌ أثمرت سياراتِ أركان الإسلامية الأحد عشر.

اعلم أنه كما أن مَن يرى قشر بيضة انقشعت عن طير همائي تكمَّل وطار في السماء، ثم يتحرى ما يسمع من كمالاتِ ذلك الطير الطائر في فضاء العالَم في تلك القشرة اليابسة، لابد أن يغالط نفسه، أويكذّب. وكذا لونظر إلى فلقتَي نواةٍ انكشفت عن شجرةٍ تكمّلت وأثمرت، ومددت أغصانها في جوالسماء، ثم تحرّى ما قرع سمعَه من عظمتها وثمراتها وأزهارها في تلك القشرة المطروحة في التراب، لابد أن يتبلّه أوينكر..

كذلك إن مَن نظر إلى صورة ما نقله التواريخ من مبادي ظهور نبيّنا عليه الصلاة والسلام نَظرا ماديا وسطحيا وصوريا، لا يتيسر له دركُه وتقديرُ قيمته ومعرفة شخصيته المعنوية؛ بل لابد أن ينظر إلى ما نقله التواريخ والسِير بنظر قشر رقيقٍ انشقَّ عن قمريٍّ -كقمر- في جوالملكوت. ويرى ما يرى من لوازم البشرية، والأحوال الصورية كقشر نواة انكشفت منها شجرة طوبى المحمدية، التي تُسقى بماء الفيض الإلهي، وتنموبإمداد الفضل الرباني على مرّ الدهور. فكلما مرّ على سمعه شيءٌ من الأحوال الصورية والمبدئية، فلابد أن لا ينحبسَ عليه ذهنهُ، بل ليرفعْ رأسه بسرعة وفي كل مرة منه إلى ما ترقى وتصاعد إليه الآن مما لا يدرك منتهاه.

وكذا إن ممّا يشط النظر لاسيما نظر المتحرّي الشاكّ، أنه لا يفرق بين المصدرية والمظهرية، بين المنبعية والمعكسية، وبين المعنى الاسمي والحرفي، وبين الذاتي والتجلّي. فكونه عليه السلام عبدا محضا، وأعبدَ خلق الله لله؛ يستلزم أن يُنظَر إليه بأنه مَظهرٌ ومَعكِسٌ لتجلياته تعالى. وكلُّ ما فيه من الكمالات من فيضه تعالى.

نعم، قد ذكرنا مرارا أن الذرة لاتسع مصدريةً ولورأسَ ذبابة، ولكن تسع مظهريةً ولونجوم سماوات. ونظرُ الغفلة ينظر أولا وبالذات إلى الذاتي الاسمي والمصدرية، فيتوهم الصنعةَ الإلهية طبيعةً طاغوتية..

اعلم أن الدعاء أنموذج لأسرار التوحيد والعبادة؛ إذ الداعي في نفسه خُفيةً، لابد أن يعتقد سماعَ المدعولهواجسِ نفسه وقدرتَه على تحصيل مطلبه، فيستلزم هذا الاعتقادُ، اعتقادَ أن المدعوعليمٌ بكلِّ شيءٍ، وقديرٌ على كلِّ شيء.

اعلم أنه كما يمكن دخول هذه الشمس -سراج العالم- في عين الذباب بالتجلي فتتنور، ولا يمكن دخول شرارة من كبريتٍ في عينها بالأصالة، بل لودخلتْ لانطفت العين.. كذلك يمكن بل يجب مظهرية كل ذرة لتجليات أسماء شمس الأزل، ولا يمكن -بل يمتنع- أن تكون ذرةٌ مصدرا وظرفا لمؤثر حقيقي، ولوكان أصغر وأقل من الذرة.

اعلم يا «أنا» المتمردُ المغرور المتكبر، انظر إلى درجة ضعفك وعجزك وفقرك ومسكنتك! إذ يبارِزك ويصارعك -فتخرّ صعقا- الحُوَينُ الذي لا يُرى إلّا بتكبيره مرات ودرجات.

اعلم ومن صُغر الإنسان أنه يجول في خردلة حافظته، وتصير تلك الخردلة عليه كصحراءَ عظيمة يسري دائما ولا يقطعها إلى جانب. فقس درجةَ مَن يسري دائما ولا يتم دَورَ خردلةٍ، ومع أن الخردلة الحافظة تصير كصحراء عظيمة على عقل الإنسان، كذلك يصير ذلك العقلُ كبحر يبتلع الدنيا.. فسبحان مَن جعل الخردلة لعقل الإنسان كالدنيا، وجعل الدنيا له كخردلة!

اعلم أن من أشد ظلم البشر إعطاءَ ثمرات مساعي الجماعة لشخصٍ، وتوهُّمَ صدورها منه، فيتولد من هذا الظلم شركٌ خفيٌ؛ إذ توهّمُ صدورِ محصّل كسبِ الجماعة، وأثَرِ جُزئهم الاختياري من شخصٍ، لا يمكن إلّا بتصور ذلك الشخص ذا قدرة خارقة ترقت إلى درجة الإيجاد، وما آلهة اليونانيين والوثنيين، إلّا تولدت من أمثال هذه التصورات الظالمة الشيطانية.

اعلم أن الإنسان كدوائرَ متداخلة متحدة المركز. ففي دائرةٍ: لباسُه جسمُه، وفي أخرى: بلدُه، وفي أخرى: وجهُ الأرض، وفي أخرى: عالم الشهادة وهكذا.. ولكنه لا فِعلَ ولا تأثير له إلّا في الدائرة الصغرى، وفيما سواها من الدوائر عاجزٌ مسكين، منفعلٌ وقابلٌ لأخذ الفيض فقط. لوتَفَعَّل ما فعل إلا تغييرَ صورة الفيض بالقصور والنقصان اللذين هما من ألوان العدم.

اعلم أن في الذاكر لطائفَ مختلفةً في الاستفاضة؛ بعضُها يتوقف على شعور العقل والقلب، واستفادةُ بعضٍ لا شعوري تحصل من حيث لا يُشعَر. فالذكر مع الغفلة أيضا لا يخلومن الإفاضة.

اعلم أن الله خلق الإنسان في تركيب عجيب، ووحدةٍ في كثرة؛ بسيطٌ وهومركب، فردٌ وهوجماعة، له أعضاء وحواس ولطائف، لكلٍّ في ذاته ألمٌ ولذة مع تألمه وتلذذه من انفعالاتِ الكل وتأثراتِ إخوانه؛ بدليل سرعة التعاون والإمداد بينها. فمن حكمة هذه الخلقة جَعَلَ الإنسانَ مَظهرا لأنواع اللذائذ ولأقسام النِعَم ولأصناف الكمال -لاسيما في الآخرة- إن سلكَ في سبيل العبودية.. وكذا جعله محلا لأنواع الآلام ولأشكال العذاب ولأقسام النقم، إن ضلَّ في طريق الأنانية. فألمُ وَجَع السنِّ غيرُ ألَم وجع الأذن. ولذةُ العينِ غيرُ لذة اللسان، واللمس والخيال والعقل والقلب وهكذا..

اعلم أن كثرةَ فوائد عدمِ تعين الآجال؛ دليلٌ نيِّر على تعيُّنها في علم الباري، ولوتعينت لَتُوُهِّمَ عدمُ تعيُّنها من جهة العلم بتوهم تفويض تَعيّنها على القانون الفطري، وإذ لم تتعين فيما بين الحدين المعيّنين؛ لا حقّ للوَهم أن يدّعي عدمَ التعيّن.

اعلم أن الذكر من شأنه أن يكون من الشعائر، والشعائر أرفع من أن تنالها أيدي الرياء.

اعلم أن تكرارَ كلمة التوحيد؛ لتجريد القلب من أنواع العلاقات، وطبقات المعبودات الباطلة، ولأن في الذاكر أنواعا من لطائف وطبقاتٍ من حواس؛ لكلٍّ توحيدٌ وتجريدٌ من الشرك المناسب له.

اعلم أن الفاتحة المقروءة، مثلا؛ لا تفاوتَ بين إهداء مثلِ ثوابها لواحدٍ، ولألوفٍ، أولملايين، كمثل الكلمة الملفوظة؛ سواءٌ في استماعها الفردُ والألوفُ، لسرٍ لطيف في سرعة التناسل والاستنساخ في اللّطيف.. ولرمزٍ شريفٍ في التكثّر مع الوحدة في النوراني، كمصباح قابلَه مرآةُ فردٍ، أوألوفٌ من المرايا.

اعلم أن الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام كإجابة دعوة المُنعم الذي أفاضَ فيضه، وبسَطَ مائدةَ إنعامه على مقام صاحب المعراج. وإذا وصف المصلّي النبيَّ بصفةٍ، لابد أن يتأمل في مناط تلك الصفة ليشتاق المصلّي لتصليةٍ جديدة.

اعلم أيها العالم الديني! لا تحزن على عدم الرغبة في عملك وقلّة أُجرتك؛ إذ المكافأة الدنيوية تنظر إلى جهة الاحتياج، لا إلى درجة القيمة الذاتية، إذ جهة المزية الذاتية ناظرة إلى المكافأة الأخروية، لا يجوز لك أن تشتريَ بها ثمنا قليلا من متاع الغرور.

اعلم أيها المحرّر والخطيب العمومي بلسان الجريدة! لك أن تتواضع وتهضم نفسك وتعلن قصورك تندّما. ولا حقّ لك أن تتمرد بالتجاهر بما يضاد شعائر الإسلام. فأين جاز لك، ومَن وكّلَكَ، وبأيّ حقّ تتجاسر على إعلان القصور الديني، بل إشاعة الضلالة بحساب الملة وباسم الأمة، وتظن الملّة على قلبك الضال؟!.. فلا يجوز لأحدٍ -فضوليا- أن يهضم نفسَ غيره حتى نفسَ أخيه. فمن أين جاز لك أن تزيِّفَ عامة الملّة الإسلامية بإساءة الظن بهم بإعراضهم عن الشعائر الإسلامية.. ولا ريب أن نشر ما لا يقبله جمهور المؤمنين في الجرائد العمومية من المستحدثات دعوةٌ إلى الضلالة، فناشرُها داعٍ إلى الضلالة، فلا يُجاب بالضرب على فمه فقط، بل يُعنّف بالأخذ على يده.

اعلم أن الكفار لاسيما الأوربائيون ولاسيما شياطين في إنكلترة وأباليس الفرنك، أعداء ألدّاء، وخُصماء معاندون أبدا للمسلمين وأهل القرآن.. بسر أن القرآن حَكَم على مُنكري القرآن والإسلام وعلى آبائهم وأجدادهم بالإعدام الأبدي، فهم محكومون بالإعدام أبدا، والحبسِ في جهنم سرمدا بنصوص ذلك القرآن الحكيم. فيا أهل القرآن كيف توالون مَن لا يمكن أن يوالوكم أويحبوكم أبدا؟.. فقولوا: ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ (آل عمران:173) ﴿نِعْمَ الْمَوْلٰى وَنِعْمَ النَّصيرُ (الأنفال:40).

اعلم أن الفرق بين مدنية الكافرين ومدنية المؤمنين، أن الأولى: وحشةٌ مستحالة ظاهرُها مزيّن، باطنُها مشوّه، صورتها مأنوسة، سيرتها موحشة.. ومدنية المؤمنين باطنُها أعلى من ظاهرها، معناها أتمّ من صورتها، في جوفها أُنسيةٌ وتحبّب وتعاون. والسر: أن المؤمن بسر الإيمان والتوحيد يرى أخوّةً بين كل الكائنات، وأُنسيةً وتحببا بين أجزائها، لاسيما بين الآدميين ولاسيما بين المؤمنين. ويرى أخوةً في الأصل والمبدأ والماضي، وتلاقيا في المنتهى، والنتيجة في المستقبل. وأما الكافر فبحكم الكفر له أجنبيةٌ ومفارقة بل نوعُ عداوةٍ مع كل شيء لا نفع له فيه، حتى مع أخيه؛ إذ لا يرى الأخوة إلّا نقطة اتصال بين افتراق أزلي ممتد، وفراق أَبدي سرمد؛ إلّا أنه بنوع حَميّةٍ ملّية أوغيرة جنسية تشتد تلك الأخوة في زمان قليل، مع أن ذلك الكافر لا يحب في محبة أخيه إلاّ نفسَ نفسه. وأما ما يُرى في مدنية الكفار من المحاسن الإنسانية والمعالي الروحية، فمن ترشحات مدنية الإسلام، وانعكاسات إرشادات القرآن وصيحاته، ومن بقايا لمعات الأديان السماوية.

فإن شئتَ فاذهب بخيالك إلى مجلس «سيدَا» قُدّس سره في قرية «نورشين».. وما أظهرتْ من المدنية الإسلامية بصحبته القدسية، تَرَ فيها ملوكا في زي الفقراء وملائكة في زي الأناسي. ثم اذهب إلى «باريس» وادخل في لجنة الأعاظم تَرَ فيها عقاربَ، تلبسوا بلباس الأناسي، وعفاريتَ تصوَّروا بصور الآدميين. وقد بينتُ الفروق بين مدنية القرآن والمدنية الحاضرة في «لمعات» «وسنوحات» فراجعهما لترى فيهما أمرا عظيما تغافلَ عنه الناس.

اعلم يا من يطلب الاجتهاد في مسائل الدين في هذا الزمان! إن باب الاجتهاد مفتوح، لكن لا يجوز لكم الدخول فيه لستة أمور:

فأولا: لأن عند هبوب العاصفات في الشتاء يُسَدّ المنافذ الضيقة، فكيف تُفتح الأبواب؟ وعند إحاطة سيل المنكَرات والبدعيات وتَهاجم المخرّبات لا يُشقّ الجدار بفتح منافذ.

وثانيا: إن الضروريات الدينية التي لا مجال للاجتهاد فيها، والتي هي في حكم الغذاء والقوت للمسلمين قد أُهملَت وتزلزلت، فلابد صرفُ كلِّ الهمّة لأقامتها وامتثالها وإحيائها، ثم بعد اللَّتيّا والّتي تَمَسّ الحاجة إلى الاجتهاد في النظريات التي توسعت باجتهادات السلف، بحيث لا يضيق عن حاجات كل الزمان.

وثالثا: إن لكل زمان متاعا مرغوبا، يشتهر في سوقه، تُجلَب إليه الرغبات وتُوجَّه وتنجذب الأفكار إليه، كالسياسة وتأمين الحياة الدنيوية الآن.. وكاستنباط مرضيات خالق العالم من كلامه، وتأمين السعادة الأبدية في زمان السلف. فلأجل توجُّه الأذهان والقلوب والأرواح في الجمهور إلى معرفة مرضيات ربّ السماوات والأرض في ذلك الزمان، صار كلُّ مَن له استعداد جيد يتدرّس قلبُه وفطرتُه -من حيث لا يشعر- من كل ما يجري في ذلك الزمان ن الأحوال والوقوعات والمحاورات، كأن كلَّ شيء معلِّمٌ يلقن فطرتَه استعدادا إحضاريا للاجتهاد، حتى يكاد زيت ذهنه يضيء ولولم تمسسه نارُ كَسْبٍ. فإذا توجه إلى الاجتهاد صار له نورٌ على نور. وأما الآن فلتشتتِ الأفكار والقلوب، وانقسامِ العناية والهمة، وتحكّم السياسة والفلسفة في الأذهان، لا يمكن لمن كان في ذكاء «سفيان ابن عيينه» مثلا أن يحصِّل الاجتهادَ إلّا بعشرة أمثال وقت ما حصَّل سفيان الاجتهادَ فيه. إذ إن سفيان يبتدئ تحصيلُه الفطري من حيث التمييز، فيتهيأ استعدادُه كالكبريت للنار. وأما نظيره الآن -فبسر ما مرّ آنفا- يتباعد استعدادُه بدرجة تبحّره في الفنون الحاضرة ويتقاسى عن قبول الاجتهاد بدرجة تغلغله في العلوم الأرضية.

ورابعا: إنَّ ميلَ التوسيع والاجتهاد إن كان من الداخلين بحقٍ في دائرة كمال الإسلام بمظهرية التقوى الكاملة وامتثال الضروريات، يكون ذلك الميل كمالا وتكملا. وأما إن كان ممن يهمل الضروريات ويرجّح الحياة الدنيوية على الآخرة يصير ذلك الميل ميلَ تخريبٍ، ووسيلةً لحل ربقة التكليف عن عنقه.

وخامسا: إنَّ المصلحةَ حِكمةٌ مرجِّحة، وليست بعلّة للحُكم. ونظرُ هذا الزمان يصيِّر المصلحةَ علّةً للحُكم. وكذا نظرُ هذا الزمان يتوجه أولا وبالذات إلى السعادة الدنيوية، مع أن نظرَ الشريعة متوجه أولا وبالذات إلى السعادة الأخروية، وثانيا وبالعرض إلى الدنيا من حيث هي وسيلة الآخرة.. وكذا إن كثيرا من الأمور التي ابتُلي الناسُ بها، وعمّت البليةُ بها حتى صارت من «الضروريات»؛ فلتولدها من سوء الاختيار، ومن الميول الغير المشروعة «لا تبيح المحظورات» ولا تصير مدارا لأحكام الرّخَصية. كما أن مَن سَكر بشرب حرامٍ لا يُعذر في تصرفاته في حالة السُكر.. وهكذا فالاجتهادات بهذا النظر في هذا الزمان تصيرُ أرضية، لا سماويّة. فالتصرف في أحكام خالق السماوات والأرض وفي عباده بلا إذنه مردود.

مثلا: يَستحسِن بعضُ الغافلين الخطبةَ بالتركية لتفهيم السياسة الحاضرة لعامة المسلمين، فهذا الغافل المسكين لا يعلم أن السياسةَ الحاضرةَ -بكثرة الكذب والحيلة والشيطنة فيها- صارت كأنها وسوسةُ الشياطين، فلا حقَّ لهذه الوسوسة السياسية أن ترتقيَ إلى مقام تبليغ الوحي. وكذا لا يَفهم هذا الجاهل أن أكثر الأمة إنما يحتاجون لإخطار الضروريات وتذكير المسلّمات والتشويق على امتثال الحقائق المتعارَفة بين المؤمنين، من أركان الإيمان والإسلام ومراتب الإخلاص والإحسان. فبكثرة التسامع يتساوى العوامُ والعلماء في التذكر والتخطر بسماع القرآن. إذ العجمي يفهم المآل إجمالا وإن لم يعرف المعنى. وكذا لا يَعقلُ ذلك الغافلُ أن عربية الخطبة وَسْمٌ سماوي مسدّد ومُزيَّن في سماء وحدة الإسلام، وبالتغيير يصير وَشما مشتِتا مشينا.

اعلم يا من أحاطَ به الغفلة وأظلمت عليه الطبيعة حتى صار «أعمى وأصم» يعبد الأسباب في ظلمات الطبيعة الموهومة! إني أُترجم لك لسانا واحدا من خمسة وخمسين ألسنة يتكلم بها كلُّ واحدٍ من مركبات الكائنات وذراتها شاهداتٍ على وجوب وجوده تعالى ووحدته في ألوهيته وربوبيته جل جلاله([2]).. وهوأن اضطرابات الأرواحِ والعقول الناشئةَ من ضلالاتها الناشئةِ من استنكاراتها الناشئةِ من الاستبعاد والاستغراب والحيرة في إسناد الأشياء إلى أنفسها، وإلى الأسباب الإمكانية.. تلجئ الأرواحَ والعقولَ للفرار إلى الواجب الوجود الواحد الأحد الذي بقدرته يحصل إيضاحُ كل مُشكل، وبإرادته يحصل فتحُ كلِّ مغلَق، وبذكره تطمئن القلوب.


[1] [[ إن الله ذا الكرم الواسع يشتري ملكه منك، ويحافظ عليه لأجلك، وقد أعطى قيمة غالية..]]

      طبعت هذه الرسالة لأول مرة بمطبعة «علي شكري» بأنقرة سنة 1341هـ (1923م)

[2] قد ذكرت تلك الألسنة إجمالا في «قطرة» وما هنا إيضاح لسانٍ واحدٍ فقط. (المؤلف).