﴿خَتَمَ اللّٰهُ عَلٰى قُلُوبِهِمْ وَعَلٰى سَمْعِهِمْ وَعَلٰٓى اَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌۘ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظيمٌ۟ ﴿7﴾﴾

مقدمة

اعلم أنه لزمنا أن نقف هنا حتى نستمع لما يتكلّم به المتكلمون؛ إذ تحت هذه الآية حربٌ عظيمة بين أهل الاعتزال وأهل الجبر وأهل السنة والجماعة. ومثل هذه الحرب تستوقف النُظّار. فناسَبَ أن نذكر أساساتٍ لتستفيد منها:

إنَّ مذهب أهل السنة والجماعة هو الصراطُ المستقيم، وما عداه إما إفراطٌ أو تفريط.

منها: أنه قد تحقق: «أنْ لا مُؤَثِّرَ فِي الْكَوْنِ إِلّا الله» فإذن لا تفويض.

ومنها: «أن الله حكيم» فلا يكون الثوابُ والعقاب عبَثين، فحينئذ لا اضطرارَ. فكما أن التوحيدَ يدفع في صدر الاعتزال؛ كذلك التنـزيهُ يضرب على فمِ الجبر.

ومنها: أن لكل شيء جهتين: جهة مِلْكية هي قد تكون حسنةً وقد تكون قبيحةً تتوارد عليها الأشكالُ كظهر المرآة. وجهةٌ مَلَكوتية تنظر إلى الخالق. وتلك شفافةٌ في كل شيء كوجهِ المرآة. فخَلقُ القبيح ليس قبيحاً؛ إذ الخَلق من جهة الملكوتية حَسنٌ، ولأن خلقَه لتكميل المحاسن فيحسُن بالغير. فلا تُصغِ إلى سفسطة الاعتزال!

ومنها: أن الحاصل بالمصدر أمرٌ قارٌ مخلوق جامد لا يُشتق منه الصفاتُ. وأما المصدر فمكسوبٌ نسبيّ اعتباريّ يُشتق منه الصفات. فلا يكون خالقُ القتل قاتلاً.. فَذَرْ أهل الاعتزالِ في خوضهم يَلْعَبُون!

ومنها: أن الفعل الظاهريّ في الأغلب نتيجةٌ لأفعال متسلسلةٍ منتهيةٍ إلى ميَلان النفسِ الذي يسمّى بـ«الجزء الاختياري». فتدور المنازعاتُ على هذا الأساس.

ومنها: أن الإرادة الكلية الإلهية ناظرةٌ بعادته تعالى إلى الإرادةِ الجزئية للعبد، فلا اضطرارَ.

ومنها: أن العلمَ تابعٌ للمعلوم، فلا يتبعُه المعلومُ حتى يدور. فلا يُتعلل في العمل بإحالة مقاييسه على القدَر.

ومنها: أن خلقَ الحاصل بالمصدر متوقفٌ على كسب المصدرِ بجريان عادة الله تعالى باشتراطه به. والنواةُ في كسب المصدر والعُقدة الحياتية فيه هي الميَلان، فبحَلّه تنحلّ عُقدة المسألة.

ومنها: أن الترجُّحَ بلا مُرجِّح محالٌ دون الترجيحِ بلا مرجِّحٍ، فلا يُعلّلُ أفعالُه تعالى بالأغراض؛ بل اختيارُه تعالى هو المرجِّح.

ومنها: أن الأمر الموجود لابد له من مؤثر وإلا لزَم الترجّح بلا مرجِّح وهو محال كما مرَّ. وأما الأمرُ الاعتباري فتخصُّصُه بلا مخصّصٍّ لا يلزم منه المحالُ.

ومنها: أن الموجود يجبُ أن يجبَ ثم يوجَدَ. وأما الأمر الاعتباري فالترجُّح بلا انتهاء إلى حدّ الوجوبِ كافٍ، فلا يلزمُ ممكنٌ بلا مؤثر.

ومنها: أن العلم بوجود شيءٍ لا يستلزم العلمَ بماهيتِه، وعدمَ العلم بالماهية لا يستلزم العدمَ. فعدمُ التعبير عن كُنهِ الاختيار لا يُنافي قطعيةَ وجودِه.

وإذا تفطنتَ لهذه الأساسات فاستمع لما يُتلى عليك:

فنحن معاشرَ أهل السنة والجماعة نقول: يا أهل الاعتزال! إن العبد ليس خالقاً للحاصل بالمصدر كالحاصلِ من المصدر، بل هو مصدرُ المصدرِ فقط؛ إذ «لا مؤثر في الكون إلا الله»، والتوحيد هكذا يقتضي. ثم نقول: يا أهل الجبر! ليس العبدُ مضطراً بل له جزءٌ اختياري لأن الله حكيم. وهكذا يقتضي التنـزيه.

 فإن قلتم: كلّما يُشرّح الجزءُ الاختياري بالتحليل لا يظهر منه إلا الجبرُ.

قيل لكم:

أولاً: إنَّ الوجدان والفطرة يشهدان أن بين الأمر الاختياري والاضطراري أمراً خفياً فارقاً، وجودُه قطعي. فلا علينا أن لا نعبِّر عنه.

وثانياً: نقول إن المَيَلان إن كان أمراً موجوداً -كما عليه الأشاعرة- فالتصرّفُ فيه أمر اعتباري بيد العبد؛ وإن كان المَيلان أمراً اعتبارياً -كما عليه الماتريدية- فذلك الأمر الاعتباري ثبوتُه وتخصصُه لا يستلزم العلةَ التامة الموجِبة فيجوز التخلّف. فتأمل!

والحاصل: أنَّ الحاصل بالمصدر موقوفٌ عادة على المصدر الذي أساسُه المَيَلانُ الذي هو -أو التصرف فيه- ليس موجوداً حتى يلزمَ مِن تخصّصِه مرةً هذا ومرةً ذاك ممكنٌ بلا مؤثر، أو ترجّحٌ بلا مُرجّح.. ولا معدوماً أيضاً حتى لا يصلُح أن يكون شرطاً لخَلق الحاصل بالمصدر أو سبباً للثواب والعقاب.

 إن قلت: العلمُ الأزلي والإرادةُ الأزلية ينحيان على الاختيار بالقَلع؟

قيل لك: إنَّ العلم بفعلٍ باختيارٍ لا ينافي الاختيارَ..

وأيضاً إن العلمَ الأزلي محيطٌ كالسماء، لا مبدأٌ للسلسلة، كرأسِ زمانِ الماضي حتى تسند إليه المسبّباتُ متغافلاً عن الأسباب موهماً خروجُها..

وأيضاً إن العلم تابعٌ للمعلوم، أي على أيّ كيفية يكون المعلومُ، كذلك يحيط به العلمُ، فلا يستند مقاييسُ المعلوم إلى أساساتِ القدَر..

وأيضاً إن الإرادةَ لا تتعلق بالمسبَّب فقط مرةً وبالسبب مرةً أخرى حتى لا تبقى فائدةٌ في الاختيار والسبب؛ بل تتعلق تعلقاً واحداً بالمسبَّب وبسَببه. وعلى هذا السرّ لو قتل شخصٌ شخصاً بالبندقة مثلاً، ثم فرضنا عدمَ السبب والرمي هل يموت ذلك الشخص في ذلك الآن أم لا؟ فأهلُ الجبر يقولون: لو لم يُقتَل لمات أيضاً لتعدد التعلّق، والانقطاع بين السبب والمسبَّب.. وأهلُ الاعتزال يقولون: لم يمت، لجواز تخلّف المرادِ عن الإرادة عندهم.. وأما أهل السنة والجماعة فيقولون: نتوقفُ ونسكتُ؛ إذ فرضُ عدم السبب يستلزم فرضَ عدم تعلّقِ الإرادة والعلمِ بالمسبَّب أيضاً، إذ التعلق واحد. فهذا الفرضُ المحال جازَ أن يستلزم محالاً. فتأمل!

* * *

مقدمة أخرى

اعلم أن الطبيعيين يقولون: إنَّ للأسباب تأثيراً حقيقياً.. والمجوس يقولون: إنَّ للشرّ خالقاً آخرَ.. والمعتزلة يدّعون: أن الحيوان خالقٌ لأفعاله الاختيارية. وأساسُ هذه الثلاثة مبنيٌ على وهمٍ باطلٍ، وخطأٍ محضٍ، وتجاوزٍ عن الحدِّ وقياسٍ مع الفارق، خدعَهم وشبطهم؛
إذ ذهبوا ظناً منهم إلى التنـزيه فوقعوا في شَرَك الشِرك. وإن شئت التفصيلَ فاستمع لمسائل تطرُد ذلك الوهمَ:

منها: أنه كما أن استماع الإنسان وتكلّمَه وملاحظتَه وتفكره جزئيةٌ تتعلق بشيءٍ فشيءٍ على سبيل التعاقُب؛ كذلك همتُه جزئيةٌ لا تشتغل بالأشياء إلَّا على سبيل التناوب.

ومنها: أن قيمةَ الإنسان بنسبة ماهيته.. وماهيتُه بدرجة همّته.. وهمتُه بمقدار أهمية المقصد الذي يشتغل به.

ومنها: أن الإنسان إلى أي شيء توجَّه يفنى فيه وينحبسُ عليه. ومن هذه النقطة ترى الناس -في عُرفهم- لا يُسندون شيئاً خسيساً وأمراً جزئياً إلى شخص عظيم وذاتٍ عال؛ بل إلى الوسائل ظناً منهم أن الاشتغالَ بالأمر الخسيس لا يناسب وقارَه، وهو لا يتنـزَّلُ له ولا يسعُ الأمرُ الحقير همّتَه العظيمة، ولا يوازَن الأمرُ الخفيفُ مع همّته العظيمة.

ومنها: أن من شأن الإنسان -إذا تفكّر في شيء لمحاكمةِ أحواله- أن يتحرّى مقاييسَه وروابطه وأساساتِه، أولاً في نفسه، ثم في أبناءِ جنسه.. وإن لم يجد ففي جوانبه من الممكنات. حتى إن واجبَ الوجود الذي لا يشبه الممكنات بوجهٍ من الوجوه إذا تفكّر فيه الإنسانُ تُلجِئُه القوةُ الواهمة لأن يجعل هذا الوهمَ السيء المذكورَ دستوراً، والقياسَ الخادعَ منظاراً له. مع أنّ الصانعَ جلّ جلالُه لا يُنظر إليه من هذه النقطة؛ إذ لا انحصار لقدرتِه.

ومنها: أن قدرتَه وعلمَه وإرادتَه جلّ جلالُه كضياء الشمس –﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى﴾– شاملةٌ لكل شيء، وعامةٌ لكلِّ أمر. فلا تقعُ في الانحصار ولا تجيءُ في الموازنة. فكما تتعلقُ بأعظم الأشياء كالعرش؛ تتعلق بأصغرِها كالجَوهر الفرد.. وكما خلَقَ الشمس والقمر؛ كذلك خلَق عينَي البرغوث والبعوضة.. وكما أودع نظاماً عالياً في الكائنات؛ كذلك أوقعَ نظاماً دقيقاً في أمعاء الحيوانات الخُرْدَبِينِيَّة.. وكما ربطَ الأجرامَ العلويةَ والنجومَ المعلَّقةَ بقانونِه المسمّى بالجاذب العمومي؛ كذلك نظّم الجواهرَ الفَردةَ بنظير ذلك القانون كأنه مثالٌ مصغّر لها. إذ بتداخل العَجز تتفاوتُ مراتبُ القُدرة. فمَن امتنعَ عليه العجزُ تتساوى في قدرته الأشياءُ، إذ العجزُ ضدُّ القدرةِ الذاتية. فتأمل!

ومنها: أن أول ما تتعلق به القدرةُ ملكوتيةُ الأشياء وهي شفّافةٌ حسنةٌ في الكلِّ كما مرَّ. فكما أنه جلّ جلالُه جعل وجهَ الشمس مجلىً ووجهَ القمر مستضيئاً؛ كذلك صيَّر ملكوتيةَ الليل والغيمِ حسنةً منيرةً.

ومنها: أن مقياسَ عظمته تعالى وميزانَ كمالاته وواسطةَ محاكمة أوصافه لا يسعُها ذهنُ البشر، ولا يمكن له إلّا بوجهٍ، بل إنما هو بما يتحصّل من جميع مصنوعاته.. وبما يتجلّى من مجموع آثاره.. وبما يتلخّص من كل أفعاله. نَعم، الذرةُ تكون مرآةً ولا تكون مقياساً.

وإذا تفطنتَ لهذه المسائل فاعلم أن الواجب تعالى لا يُقاس على الممكنات، إذ الفرقُ من الثرى إلى الثريا. ألا ترى أهلَ الطبيعة والاعتزال والمجوس -بناءً على تسلّط القوة الواهمة بهذا القياس على عقولهم- كيف التجَأوا إلى إسنادِ التأثير الحقيقي إلى الأسباب، وخلقِ الأفعال للحيوان، وخلقِ الشر لغيره تعالى؟ يظنون ويتوهمون أن الله تعالى بعظمته وكبريائه وتنـزُّهه كيف يتنـزَّلُ لهذه الأمور الخسيسةِ والأشياءِ القبيحة؟ فسحقاً لهم! كيف صيَّروا العقلَ أسيراً لهذا الوهم الواهي هذا؟.. يا هذا! هذا الوهمُ قد يتسلط على المؤمن أيضا من جهة الوَسوسة فتجنَّب!

* * *

﴿خَتَمَ اللّٰهُ عَلٰى قُلُوبِهِمْ وَعَلٰى سَمْعِهِمْ وَعَلٰٓى اَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌۘ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظيمٌ﴾

أما تحليل كلمات هذه الآية ونظمها:

فاعلم أن ربطَ ﴿خَتَمَ﴾ بـ ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ وتعقيبَه به نظيرُ ترتّب العقابِ على العمل. كأنه يقول لمّا أفسدوا الجزءَ الاختياري ولم يؤمنوا، عوقبوا بخَتم القلبِ وسَدِّه. ثم لفظ «الختم» يشير إلى استعارة مركبةٍ تومئُ إلى أسلوب تمثيلي يرمز إلى ضربِ مَثَلٍ يصوِّر ضلالَتهم؛ إذ المعنى فيه منعُ نفوذِ الحق إلى القلب. فالتعبيرُ بالختم يُصوِّر القلبَ بيتاً بناه الله تعالى ليكون خزينةَ الجواهر، ثم بسوء الاختيار فَسدَ وتعفَّن وصار ما فيه سُموماً فأُغلق وأُمهِرَ ليُجتَنب.

وأما ﴿اللّٰهُ﴾ فاعلم أن فيه التفاتاً من التكلم إلى الغَيبة. ومع نكتة الالتفاتِ ففي مناسبة لفظِ ﴿اللّٰهُ﴾ مع متعلِّق ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ في النية، أعني لفظَ «بالله»، إشارةٌ إلى لطافةٍ، هي أنه لمّا جاء نورُ معرفةِ الله إليهم فلم يفتحوا بابَ قلبِهم له، تولّى عنه مُغضباً وأغلق البابَ عليهم.

وأما ﴿عَلٰى﴾ فاعلم أن فيه -بناءً على كون الختم متعدّياً بنفسه- إشارةً إلى تضمين ﴿خَتَمَ﴾ «وَسَم»، كأنه يقول: جعل الله الختمَ وَسْماً وعلامةً على القلب يتوسّمُه الملائكةُ.. وفي ﴿عَلٰى﴾ أيضاً إيماءٌ إلى أن المسدودَ البابُ العلويُّ من القلب لا البابُ السفلي الناظرُ إلى الدنيا.

وأما ﴿قُلُوبِهِمْ﴾ قدَّمَه على السمع والبصر لأنه هو محلُّ الإيمان.. ولأن أولَ دلائل الصانع يتجلى من مشاورة القلبِ مع نفسه، ومراجعةِ الوجدان إلى فطرته، لأنه إذا راجع نفسَه يُحِسُّ بعَجزٍ شديد يُلجئه إلى نقطةِ استنادٍ، ويرى احتياجاً شديداً لتنمية آمالِه فيضطرّ إلى نقطةِ استمداد، ولا استنادَ ولا استمدادَ إلَّا بالإيمان.. ثم إن المرادَ بالقلب اللطيفةُ الربانيةُ التي مظهرُ حسيّاتِها الوجدانُ، ومَعكَس أفكارها الدماغُ، لا الجسمُ الصنوبريُّ. فإذاً في التعبير بالقلب رمزٌ إلى أن اللطيفةَ الربانيةَ لمعنويات الإنسان كالجسم الصنوبري لجسدِه. فكما أن ذلك الجسمَ ماكينةٌ حياتية تنشُر ماءَ الحياة لأقطار البدن، وإذا انسدّ وسكَنَ جمَد الجسدُ؛ كذلك تلك اللطيفةُ تنشُر نورَ الحياة الحقيقية لأقطار الهيئة المجسَّمة من معنوياته وأحواله وآماله. وإذا زال نورُ الإيمان -العياذ بالله- صارت ماهيتُه التي يصارع بها الكائنات كشَبَحٍ لا حراكَ به وأظلمَ عليه.

وأما ﴿وَعَلٰى سَمْعِهِمْ﴾ كرّر ﴿عَلٰى﴾ للإشارة إلى استقلال كلٍّ بنوعٍ من الدلائل. فالقلبُ بالدلائل العقلية والوجدانية. والسمعُ بالدلائل النقليةِ والخارجية، وللرمز إلى أن ختمَ السمعِ ليس من جنس ختمِ القلب.. ثم إن في إفراد السمع مع جمعِ جانبَيه إيجازاً ورموزاً إلى أن السمعَ مصدرٌ، لعدم الجَفن له.. وإلى أن المُسمِعَ فرد.. وأن المسموعَ للكلِّ فردٌ.. وأنه يُسمِعُ فرداً فرداً.. ولاشتراك الكلِّ كأن أسماعَهم بالاتصال صارت فرداً.. ولاتحاد الجماعة وتشخّصها يُتَخيّل لها سمعُ فردٍ.. وإلى إغناء سمعِ الفرد عن استماع الكلِّ فحقُّ السمع في البلاغة الإفرادُ.. لكن القلوبَ والأبصارَ مختلفةٌ متعلقاتُهما، ومتباينةٌ طرقُهُما، ومتفاوتةٌ دلائلهُما، ومعلِّمُهما على أنواع، وملقّنُهما على أقسام. فلهذا توسّط المُفرَدُ بين الجَمعَين. وعُقّب القلبُ بالسمع لأن السمعَ أبٌ لملَكاته، وأقربُ إليه، ونظيرُه في تساوي الجهات الست عنده.

وأما ﴿وَعَلٰٓى اَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ فاعلم أن في تغيير الأسلوب باختيار الجملة الاسمية إشارةً إلى أن جِنانَ البصَر التي يُجتَنى منها دلائلُه ثابتةٌ دائمةٌ بخلاف حدائقِ السمع والقلب؛ فإنها متجدّدةٌ.. وفي إسناد الختم إلى الله تعالى دون الغشاوةِ إشارة إلى أن الختمَ جزاءُ كسبِهم، والغشاوة مكسوبةٌ لهم، ورمزٌ إلى أن في مبدأ السمع والقلب اختياراً، وفي مبدأ البصر اضطراراً، ومحل الاختيار غشاوةُ التعامي. وفي عنوان الغشاوة إشارةٌ إلى أن للعين جهةً واحدةً. وتنكيرُها للتنكير، أي التعامي حجابٌ غيرُ معروف حتى يُتَحفَّظ منه.. قدّم ﴿وَعَلٰٓى اَبْصَارِهِمْ﴾ ليوجّه العيونَ إلى عيونهم، إذ العين مرآةُ سرائر القلب.

وأما ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظيمٌ﴾ فاعلم أنه كما أشار بالكلمات السابقة إلى حنظلات تلك الشجرة الملعونة الكفرية في الدنيا؛ كذلك أشار بهذه إلى حنظلة جانبها الممتد إلى الآخرة وهي زقّومُ جهنّم..

ثم إن سجية الأسلوب تقتضي «وعليهم عقاب شديد». ففي إبدال ﴿عَلٰى﴾ باللام و«العقاب» بالعذاب و«الشديد» بالعظيم، مع أن كلا منها يليق بالنعمة رمزٌ إلى نوعِ تهكّم توبيخيّ تعريضيّ؛ كأنه ينعي بهم: ما منفعتُهم، ولا لذتُهم، ولا نعمتُهم العظيمة إلَّا العقابُ؛ نظير «تَحِيَّةُ بَيْنِهمْ ضَرْبٌ وَجِيع». و ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ اَليمٍ﴾ (آل عمران:21).

إذ اللام لعاقبة العمل وفائدتِه. فكأنه يتلو عليهم: «خذوا أُجرة عملكم».

وفي لفظ الـ«عذاب» رمزٌ خفي إلى أن يذكّرَهم استعذابَهم واستلذاذَهم بالمعاصي في الدنيا فكأنه يقرأ عليهم «ذوقوا مرارةَ حلاوتكم».

وفي لفظ الـ«عظيم» إشارةٌ خفية إلى تذكيرهم حالَ صاحبِ النعمة العظيمة في الجنة فكأنه يلقّنهم: انظروا إلى ما ضيَّعتم على أنفسكم من النعمة العظيمة، وكيف وقعتُم في الألم الأليم. ثم إن ﴿عَظيمٌ﴾ تأكيد لتنوين ﴿عَذَابٌ﴾.

 إن قلت: إنَّ معصية الكفر كانت في زمانٍ قليل والجزاءُ أبديٌّ غيرُ متناهٍ، فكيف ينطبق هذا الجزاءُ على العدالة الإلهية؟ وإنْ سُلِّم، فكيف يوافق الحكمةَ الأزلية؟ وإن سُلِّم، فكيف تساعده المرحمةُ الربانية؟

قيل لك: مع تسليم عدم تناهي الجزاءِ، إن الكفر في زمان متناهٍ جنايةٌ غيرُ متناهية بستِّ جهات:

منها: أن من مات على الكفر لو بقي أبداً لكان كافراً أبداً لِفَساد جوهر روحِه، فهذا القلبُ الفاسد استعدَّ لجناية غير متناهية.

ومنها: أن الكفر وإن كان في زمانٍ متناهٍ لكنه جنايةٌ على غير المتناهي، وتكذيبٌ لغير المتناهي أعني عمومَ الكائنات التي تشهد على الوحدانية.

ومنها: أن الكفر كفرانٌ لنِعَمٍ غير متناهية.

ومنها: أن الكفر جناية في مقابلة الغير المتناهي وهو الذاتُ والصفاتُ الإلهية.

ومنها: أن وجدان البشر -بسرّ حديثِ: «لَا يَسَعُني أرْضِي وَلا سَمائي»- وإن كان في الظاهر والمُلك محصوراً ومتناهياً لكن ملكوتيتَه بالحقيقة نشرت ومدّت عروقها إلى الأبد. فهو من هذه الجهة كغير المتناهي وبالكفر تلوّث واضمحلّ.

ومنها: أن الضدَّ وإن كان معانِداً لضدِّه لكنه مماثلٌ له في أكثر الأحكام. فكما أن الإيمان يُثمر اللذائذَ الأبدية، كذلك من شأن الكفر أن يتولد منه الآلامُ الأبدية.

فمَن مزَج هذه الجهات الست يستنتج أنّ الجزاء الغير المتناهي إنما هو في مقابلة الجناية الغير المتناهية وما هو إلّا عينُ العدالة.

 إن قلت: طابقَ العدالة، لكن أين الحكمةُ الغنيةُ عن وجود الشرور المنتجة للعذاب؟

قيل لك: -كما قد سمعتَ مرة أخرى- إنه لا يُترك الخيرُ الكثيرُ لتخلّل الشرِّ القليل، لأنه شرٌّ كثيرٌ. إذ لمّا اقتضت الحكمةُ الإلهية تظاهُرَ ثبوتِ الحقائق النسبية -التي هي أزيدُ بدرجاتٍ من الحقائق الحقيقية- ولا يمكن هذا التظاهرُ إلا بوجود الشر؛ ولا يمكن توقيفُ الشرِّ على حدِّه ومنعُ طغيانه إلّا بالترهيب؛ ولا يمكن تأثيرُ الترهيب حقيقةً في الوجدان إلّا بتصديق الترهيب وتحقيقِه بوجود عذاب خارجي؛ إذ الوجدانُ لا يتأثر حق التأثر -كالعقل والوَهم- بالترهيب إلّا بعد أن يتحدّس بالحقيقة الخارجية الأبدية بتفاريق الأمارات.. فمِن عينِ الحكمة بعد التخويف من النار في الدنيا وجودُ النار في الآخرة.

 إن قلت: قد وافق الحكمةَ فما جهةُ المرحمة فيه؟

قلت: لا يُتصور في حقّهم إلاّ العدمُ أو الوجودُ في العذاب، والوجودُ -ولو في جهنم- مرحمةٌ وخيرٌ بالنسبة إلى العدم إنْ تأملتَ في وجدانك؛ إذ العدمُ شرٌّ محض، حتى إن العدمَ مرجعُ كلِّ المصائب والمعاصي إنْ تفكرتَ في تحليلها. وأما الوجودُ فخيرٌ محض فليكن في جهنم.. وكذا إن من شأن فطرةِ الروح -إذا عَلِم أن العذابَ جزاءٌ مزيلٌ لجنايته وعصيانه- أن يرضى به لتخفيف حمل خجالة الجناية، ويقولَ: «هو حقٌ، وأنا مستحق». بل حباً للعدالة قد يلتذُّ معنىً! وكم من صاحب ناموس في الدنيا يشتاق إلى إجراء الحدّ على نفسه ليزولَ عنه حجابُ خجالة الجناية. وكذا إن الدخول وإن كان إلى خلود دائم وجهنمُ بيتُهم أبداً، لكن بعد مرور جزاء العمل دون الاستحقاق يحصل لهم نوع ألفةٍ وتطبّع مع تخفيفات كثيرة مكافأةً لأعمالهم الخيرية. أشارت إليها الأحاديث. فهذا مرحمةٌ لهم مع عدم لياقتهم.