بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

نبذة تاريخية

بينما كانت رحى الحرب دائرة في معارك ضارية وتَسيل دماءُ الألوف من المسلمين رخيصة في سبيل الدفاع عن مركز الخلافة «إسطنبول»، بدأ الحلفاء ولا سيما الإنكليز بشن حرب نفسية وإشاعةِ أفكار مضللة تمس عقيدة الأمة، فانبثّ أعوانُهم وجواسيسُهم في أرجاء إسطنبول يُلقون بألسنتهم تلك الشبهاتِ المغرضة وينشرونها في أوساط العامة والخاصة، ضمن حرب هادفة تحطم الروح المعنوية للمسلمين.

ولما شاهد الأستاذ النُّورْسِيّ سَرَيان هذه الأفكار المسمومة في هذه الحرب الماكرة التي استطاعت استمالة قسم من العلماء إلى صف الإنكليز، قام بتأليف هذه الرسالة: «الخطوات الست» مبينًا فيها مكايد الغزاة المحتلين، داحضًا شبهاتِهم ووساوسَهم الشيطانية، مُبعدًا عن المسلمين مشاعرَ اليأس والقنوط.

وطُبعت الرسالة سرًا، ونُشرت وهي لا تَحْمِل اسم المطبعة ولا سَنَة الطبع، وقام محبو الأستاذ وتلاميذُه بنشرها في أوسع نطاق في خفاء تام.

ولنلق الآن نظرة سريعة على تلك الأحوال التي واكبت تأليفَ الرسالة ونَشْرَها ومدى تأثيرها:

في13 تشرين الثاني سنة 1919م دخلت خمس وخمسون سفينة حربية من أساطيل الحلفاء إسطنبول، حسب هدنة «موندروس». وصلت هذه السفن إلى البسفور أمام قصر «دولمه باغجه» وَوَجهت مدافعها نحو قصر الخليفة «السلطان وحيد الدين» الذي أصبح في حكم الأسير.

هكذا داست أقدامُ جنودِ أربع دول محتلة إسطنبولَ. وخرجت الأقلياتُ غير المسلمة ترحب بجنود الاحتلال وتصفق لهم، فاليهود والأرمن بدأوا يجوبون الشوارع ويلوّحون بقبعاتهم لهؤلاء المحتلين وينثرون عليهم الورود. أما الروم فقد كانوا يحملون أعلام اليونان الصغيرة ويهتفون: زيتو. زيتو. أي يعيش. يعيش.

وبين مظاهر فرح اليهود والأرمن والروم وهتافاتهم وتصفيقاتهم اخترق القائدُ الفرنسي الجنرال «فرانس دوبر» شارع «بك أوغلو» متوجهًا إلى السفارة الفرنسية ممتطيًا جوادًا أبيض، وملوحًا بيديه لهؤلاء المستقبِلين، مقلدًا في ذلك الفاتحين العظماء في التاريخ. بل لم يتورع مِنْ وَطْءِ العَلَم العثماني بحوافر جواده.

أما المسلمون فقد كانوا يشاهدون هذه المناظر بقلوب جُرحت وعيون تجمدتْ في مآقيها الدموع، ويطوون هذه الآلام في أعماق قلوبهم.

ولم تكن إسطنبول هي المدينة الوحيدة التي احتلتها دول الحلفاء. بل تم احتلال مدن أخرى كثيرة، احتلها الأرمن والإيطاليون والإنكليز واليونان والروس حيث سُرِّح الجيش العثماني من الخدمة بموجب تلك المعاهدة المذكورة ولم يبق إلّا الأناضول (وسط تركيا) سالمًا من الاحتلال.

وهكذا امتلأت شوارع هذه المدن بجنودٍ سكارى يعربدون ويصخبون ويفسدون كيفما شاؤوا. ويخيم على الأحياء الإسلامية حزنٌ صامت.

في هذا الجو القاتم كان الأستاذ النُّورْسِيّ يشعر بألم عميق، وكان أصدقاؤه يحاولون التسرية عنه والتخفيف من شدة آلامه. وهو يقول لهم والأسى يعصر قلبه:

«لقد تحملتُ آلامي الشخصية كلها. ولكن آلام الأمة الإسلامية سحقتني، إنني أشعر بأن الطعنات التي وجهت إلى العالم الإسلامي، أنها توجه إلى قلبي أولًا. ولهذا ترونني مسحوق الفؤاد. ولكني أرى نورًا سَيُنْسينا هذه الآلام إن شاء الله».

ومع أن الجانب العسكري والمادي للدولة العثمانية قد انهدّ أمام الحلفاء، إلّا أن الحرب النفسية ما زالت دائرة، فالإنكليز ما فتئوا يزاولون بث الأفكار والشبهات كي يكون النصر ساحقًا وكاملًا ونهائيًا من دون أن يكون هناك احتمال للمقاومة، فيجب أن تُسلِّمَ الضحيةُ رقبتَها برضاها إلى جلاديها دون تذمر.([1])

وما إن دخل القائد الإنكليزي إسطنبول حتى سُلّمت له رسالة «خطوات ستة» التي تهاجمهم بعنف وتفنّد أباطيلهم وتشد من عزائم المسلمين.. وعُرض عليه نشاط «بديع الزمان» الدائب في فضح سياسة المحتلين وتأليب الناس عليهم.

قرر القائد الإنكليزي إعدام الأستاذ النُّورْسِيّ، ولكن عندما أُعلم أن هذا القرار سيثير غضب الأمة كلها ويزيد سخطها، وسيدفعهم إلى القيام بأعمال عدائية مهما كلفهم ذلك، تخلّى عن قرار الإعدام، إلّا أن سلطات الاحتلال لم تَفْتُرْ عن ملاحقة الأستاذ.

ولما سمع قوادُ حركة التحرير في الأناضول بتأثير هذه الرسالة في أوساط العامة والخاصة، وعن أعمال «بديع الزمان» ضد المحتلين في إسطنبول دَعَوه إلى «أنقرة» مرتين تقديرًا لأعماله البطولية وخدماته الجليلة نحو الأمة والبلاد. إلّا أن الأستاذ النُّورْسِيّ آثر البقاء في إسطنبول يجابه الأعداء مباشرة ورفض الدعوة قائلًا:

«إنني أريد أن أجاهد في أكثر الأماكن خطرًا، وليس من وراء الخنادق، وأرى أن مكاني هذا أخطر من الأناضول».

كتب الأستاذ النُّورْسِيّ هذه الرسالة بالتركية، وطُبعت من دون الإشارة إلى اسم المطبعة وسنة الطبع كما ذكرنا، ثم عرّبها بنفسه وطبعها في مطبعةِ «أوقاف إسلامية» بإسطنبول سنة 1336هـ-1338 رومي، في كتيب يضم «الخطبة الشامية» و«سنوحات». وقام طلاب النور بإعادة طبعها سنة 1958 في مطبعة النور بأنقرة. والطبعتان مليئتان بأخطاء إملائية ومطبعية.

قابلتُ النصّين التركي والعربي، ووجدتُ أن عبارات النص التركي أوضح من النص العربي وفيه زيادات طفيفة، فاستخلصت منهما هذا النص الذي يستوعب النص التركي معنىً، ويكاد يطابق النص العربي مبنىً.

والله نسأل أن يوفقنا إلى حسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل،

وصلّ اللّهم وسلم على سيدنا محمّد وعلى آلهِ وصحبه أجمعين.

إحسان قاسم الصالحي


[1] سعيد النورسي رجل القدر في حياة أمة -تأليف أورخان محمد علي- باختصار.