﴿اَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَٓاءِ فيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ اَصَابِعَهُمْ فٓي اٰذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللّٰهُ مُحيطٌ بِالْكَافِرينَ ﴿19﴾ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ اَبْصَارَهُمْ كُلَّمَٓا اَضَٓاءَ لَهُمْ مَشَوْا فيهِ وَاِذَٓا اَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَٓاءَ اللّٰهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَاَبْصَارِهِمْ اِنَّ اللّٰهَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ۟﴿20﴾﴾

اعلم أن مدار النظر في هذه الآية أيضاً من ثلاثة وجوه: نظمُها بسابقتها، والنظمُ بين جملها، ثم النظر بين هيئات جملةٍ جملةٍ. مثلُها في الارتباط كمثل الأميال العادّة للساعات والدقائق والثواني.

أما وجه النظم بينها وبين سابقتها فهو: أنه كرّر التمثيلَ وأطنب في التصوير، إشارة إلى احتياج تصوير حال المنافقين في دهشتهم وحيرتهم إلى نوعين منه، إذ:

خلاصة التمثيل الأول هي: أن المنافق يرى نفسَه في صحراء الوجود منفردةً عن الأصحاب، مطرودةً عن جمعية الكائنات، خارجةً عن حُكم شمس الحقيقة. يصير كلُّ شيء في نظره معدوماً ويرى المخلوقات أجنبية كلَّها، ساكنةً وساكتة، استولى عليها الوحشةُ والخمود. وأين هذا من حال المؤمن الذي يرى بنور الإيمان كلَّ الموجودات أحبّاءه ويستأنس بكل الكائنات؟.

وخلاصة التمثيل الثاني هي: أن المنافق يظن أن العالَم بأجزائه ينعى عليه بمصائبه ويهدده ببلاياه ويصيح عليه بحادثاته ويحيط به بنوازله، كأن الأنواع اتفقوا على عداوته فانقلب النافعُ ضاراً. وما هذه الحالة إلا لعدم نقطتي الاستمداد والاستناد كما مرَّ.

وأين هذا من حال المؤمن الذي يسمع بالإيمان تسبيحاتِ الكائنات وتبشيراتِها؟

وأيضاً تكرارُ التمثيل إيماء إلى انقسام المنافقين إلى الطبقة السفلية العامية المناسِبة للتمثيل الأول، وإلى الطبقة المتكبرة المغرورة الموافقة للتمثيل الثاني.

وأما مناسبة هذا التمثيل لمقامه بالنظر إلى السامع فهي أن الصف الأول من مخاطبي القرآن أبناءُ الفيافي يفترشون الصحارى ويتخيّمون بفسطاط السماء. وما منهم إلّا وقد رأى بنفسه أو سمع من أبناء جنسه مثل هذه الحادثة حتى استأنس بها حسُّ العموم؛ بحيث تؤثّر فيه كضرب المثَل.

وأما مناسبته للتمثيل الأول فأظهرُ من أن يَخفى، إذ هو كالتكملة والتتمة له، مع الاتحاد في كثير من النقط.

وأما مناسبة التمثيل للممثَّل له فبخمسة وجوه:

منها: وقوعُهما كليهما في شدة الحيرة، بانسداد كلِّ طرق النجاة عليهم، وبأنْ ضلّ جميعُ أسباب الخلاص عنهم.

ومنها: وقوعهما في شدة الخوف، حتى يتخيلُ كلٌّ من المشبَّه والمشبَّه به، أن الموجودات اتفقت على عداوته، ولا يأمَن من بقائه في كل دقيقة.

ومنها: وقوعهما في شدة الدهشة المنتجة لاختبال العقل حتى إن كلاًّ منهما يتَبَلَّه. كمثل مَن يرى برق السيوف فيتحفظ بغَمضِ بصره أو يسمع تَقْتَقَة البنادق فيتجنّب عن الجرح بسد سمعه. أو كمثل مَن لا يحب غروبَ الشمس فيُمسك دولاب ساعته لئلا يدور جرخُ الفَلك الدَّوّار، فما أخبَلهم! إذ الصاعقةُ لا تنثني بسدّ الأسماع، والبرقُ المُحرق لا يترحم عليهم بغضِّ الأبصار. ومن هنا يُرى أنْ لم يبقَ لهم مَمسَك.

ومنها: أن الشمس والمطر والضياء والماء كما أنها منابعُ حياة الأزاهير وتربيةِ النباتات، وسبب تعفن الميتات ونَتن القاذورات؛ كذلك إن الرحمة والنعمة إذا لم تَصادفا موقعَهما المنتظَر لهما والعارف بقيمتهما، تنقلبان زحمةً ونِقمة.

ومنها: أنه كما يوجد التناسب بين المآلين الذي هو الأصل في انعقاد الاستعارة التمثيلية بلا نظر إلى تطبيق الأجزاء؛ كذلك يوجد مناسباتٌ هنا بين أجزائهما؛ إذ الصيِّب حياةُ النباتات كما أن الإسلاميةَ حياةُ الأرواح، والبرق والرعد يشيران إلى الوعد والوعيد، والظلماتُ تريك شبهاتِ الكفر وشكوكَ النفاق.

وأما وجه النظم بين الجمل:

فاعلم أن التنـزيل لمّا قال: ﴿اَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَٓاءِ﴾ مشيراً إلى أنهم كالذين اضطروا إلى السفر في صحراء موحشة في ليلة مظلمة تحت مطر شديد، كأن قطراتِه مصائبُ تصيب مَرماها بصَوبها وقد ملأت الجوّ بكثرتها؛ استيقظ ذهنُ السامع منتظراً لبيان السبب في أنْ صار الصيّبُ الذي هو في الأصل رحمةٌ مرغوبةٌ مصيبةً هائلةً، فقال مصوراً لدهشته: ﴿فيهِ ظُلُمَاتٌ﴾ مشيراً إلى أن المطر كما هو ظرفٌ لظلمة السحاب ولكثافته؛ كذلك لأجل عمومِه وكثرته وإحاطته كأنه ظرفٌ للّيلة المُتَفَتِتَة قطراتٍ مسودةً بين قطراته.. ثم ما من سامع يسمع ﴿فيهِ ظُلُمَاتٌ﴾ إلَّا وينتظر لبيان. كأن المتكلم سمع صدى الرعد من ذهن السامع فقال: ﴿وَرَعْدٌ﴾ مشيراً إلى تهويل الحال وتشديدها بأن السماء -أميرَ الموجودات- عزمتْ على إهلاكهم، وتصيح عليهم برعدها؛ إذ المصابُ المدهوش يتخيل من الكائنات المتعاونة على إضراره حركةً مزعجة تحت سكونها، ونطقاً مهيباً تحت سكوتها. فإذ سمع الرعدَ توهَّم أنها تتكلم بما يهدده وتصيح عليه؛ إذ بالخوف يحسب كلَّ صيحةٍ عليه.. ثم إن السامع لا يسمع الرعدَ إلّا ويستهل فيبرق في ذهنه رفيقه الدائميّ، ولذلك قال: ﴿وَبَرْقٌ﴾ مشيراً بالتنكير إلى أنه غريبٌ عجيب. نعم، هو في نفسه عجيب؛ إذ بتولّده يموت عالَمٌ من الظلمات فتطوى وتلقى إلى العدم، وبموته فجأة يحيى ويحشر عالمٌ من الظلمات. كأنه نار حينما تنطفئ تورث مِلءَ الدنيا دخاناً. ومن شأن المصاب بها أن يمعن النظر ولا يمرّ بنظر سطحي بناءً على الألفة والمناسبة حتى يتكشف عن دقائق صُنع القدرة..

ثم بعد هذا التصوير كأن ذهنَ السامع يتحرك سائلاً: كيف يعملون؟ وبِمَ يتشبثون؟ فقال: ﴿يَجْعَلُونَ اَصَابِعَهُمْ فٓي اٰذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ مشيرا إلى أن لا مناص ولا ملجأ ولا منجى لهم حتى إنهم كالغريق يتمسكون بما لا يُتَمَسك به. فمن التدهّش يستعملون الأصابع موضع الأنامل كأن الدهشة تضرب على أيديهم فيُدخلون الأصابع من الوجع في الآذان، ومن التبلّه أنهم يسدّون الآذان لئلا تصيبهم الصواعق.. ثم بعد هذا يتحرى ذهنُ السامع سائلاً: أعَمَّت المصيبةُ أم خَصّت فيُرجى؟ فقال: ﴿وَاللّٰهُ مُحيطٌ بِالْكَافِرينَ﴾ مشيراً إلى أن هذه المصيبة جزاءٌ لكفرانهم النعمة. يؤاخذهم الله تعالى به لشذوذهم عن القانون الإلهي المودَع في الجمهور. ثم لما سمع شدةَ الرعد يحدّث نفسه بـ«أَلَا يفيدُهم البرق بإراءة الطريق»؟ فقال: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ اَبْصَارَهُمْ ﴾ مشيراً إلى أنه كما أن الرعد يعاديهم فلا يستطيعون السمعَ؛ كذلك البرقُ يخاصمهم بإضاءته فيُظلم أبصارَهم.. ثم بعد سماع تجاوب الكائنات على عداوتهم ينادي ذهنُ السامع بـ«فما مصير حالهم وما يفعلون؟ وبمَ يشتغلون؟» فقال: ﴿كُلَّمَٓا اَضَٓاءَ لَهُمْ مَشَوْا فيهِ وَاِذَٓا اَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوامشيراً إلى أنهم مشوشون مترددون متحيّرون مترقبون لأدنى فرصة ولأدنى رؤية للطريق. فكلما تراءت لهم يتحركون، لكن كحركة المذبوح لاضطراب أرواحهم، ويتخطّون خطى يسيرة مع علمهم بأن لا فائدة، وكلما غشيَتهم الظلمةُ فجأة ينجمدون في مقامهم.. ثم يستعد ذهنُ السامع للاستفسار بـ«لِمَ لا يموتون أو يعْمَون أو يَصَمُّون بالمرّة فيخلصون عن الاضطراب؟» فقال: ﴿وَلَوْ شَٓاءَ اللّٰهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَاَبْصَارِهِمْ ﴾ أي ليسوا مستحقين للخلاص من الاضطراب، ولهذا لا تتعلق المشيئةُ بإماتتهم، ولو تعلقت لتعلقت بذَهاب سمعهم وبصرهم. ولكنّ بقاءَ السمع لاستماع العقاب ووجودَ البصر لرؤية العذاب أجدرُ بمن شذّ ونشَزَ عن قانونه تعالى..

ثم إنَّ هذه القصة لما احتوت على نقاط يتلوّح من معاطفها استطراداً: العظمةُ والقدرة الإلهية وتصرّفُه تعالى في الكائنات، ولاسيما يتذكّر السامع تبعاً في تلافيفها عجائب الرعد والبرق والسحاب، كان من حق السامع المتيقظِ وجدانُه أن يعلن ويقول: «سبحانه ما أعظمَ قدرةَ مَنْ هذه الكائنات تَجَلِّي هيبتِه، وهذه المصيباتُ تَجلِّي غضبه». فقال: ﴿اِنَّ اللّٰهَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ﴾.

وأما نظم هيئات جملة جملة:

فاعلم أن ﴿اَوْ﴾ في ﴿اَوْ كَصَيِّبٍ﴾ إشارة إلى انقسام حال الممثّل إلى قسمين، ورمز إلى تحقيق المناسبة بين التمثيلين وبينهما وبين الممثَّل له، وإيماء إلى مسلَّمية المشابهة.. وأيضاً متضمنٌ لـ«بل» التَرْقِيَة؛ إذ التمثيل الثاني أشدُّ هَوْلاً.

وأن ﴿كَصَيِّبٍ﴾ لعدم مطابقته للمَمثّل يقتضي تقديرَ لازمٍ، والسكوتُ عن إظهار المقدَّر للإيجاز، والإيجاز في اللفظ لإطناب المعنى بإحالته على خيال السامع بالاستمداد من المقام. فبعدم المطابقةِ كأنه يقول: أو كالذين سافروا في صحراءَ خاليةٍ وليلةٍ مظلمة فأصابتهم مصائبُ بصيّبٍ.

وأن العدول عن لفظ المطر المأنوس المألوف إلى الصيّب رمز إلى أن قطرات ذلك المطر كمصائبَ تُرمى إليهم بقصدٍ فتصيبُهم مع فقد الساتر عليهم.

وأن ذكر ﴿مِنَ السَّمَٓاءِ﴾ مع بداهةِ أن المطر لا يجيء إلّا من جهتها، إيماءٌ بالتخصيص إلى التعميم، وبالتقييد إلى الإطلاق نظيرَ التقييد في ﴿وَمَا مِنْ دَٓابَّةٍ فِي الْاَرْضِ وَلَا طَٓائِرٍ يَطيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ (الأنعام:38) أي مُطبِقٌ آخذٌ بآفاق السماء. وما استدل بعضُ المفسرين بلفظ ﴿مِنَ السَّمَٓاءِ﴾ هنا وفي آيةِ ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَٓاءِ مِنْ جِبَالٍ فيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾ (النور:43) على نزول
المطر من جِرم السماء حتى تَخيل «بعضٌ» وجودَ بحرٍ تحت السماء، فنظرُ البلاغة لا يرى عليه سكةَ الحقيقة. بل المعنى: من جهة السماء، والتقييدُ لمَا عرفت. وقد قيل: السماء ما علاك. فالسحاب كالهواء سماء.

وتحقيق المقام: هو أنك إن نظرتَ إلى القدرة، تتساوى الجهاتُ، أي يمكن النـزول من أية جهة كانت؛ وإن نظرت إلى الحكمة الإلهية المؤسِّسة للنظام الأحسن في الأشياء المستلزِم لمحافظة الموازنة العمومية المرجِّحة لأقرب الوسائل، فالمطر إنما هو من تكاثف البخار المائي المنتشر في كرة الهواء التي أحدُ أجزائها العشرة ذلك البخار المائيّ المنتشر في أعماقها.

وتوضيحه: أن ذراتِه إذا أمرَتها الإرادةُ الإلهية، يتمثل كلٌّ، ويتسللنَ من الأطراف، ومن كل فجٍ عميق. فيتحزَّبن سحاباً هامراً. ثم بإرادةِ آمرها يشتدّ تكاثفُ بعضٍ فتصير قطراتٍ تأخذها بأيديهم الملائكةُ الذين هم ممثلو القوانين ومَعكس النظامات، لئلا يزاحِمَ ويصادم بعضٌ بعضاً، فيضعونها على الأرض. ولأجل محافظة الموازنة في الجوّ لابد من بدلِ ما يتحلّل بالتقطر، فيُبخَّر البحرُ والأرضُ فيملأ منازلها. وأما تخيّل بعضٍ وجودَ بحر سماويّ فمَحْمِله أنه تَصور المجاز حقيقةً؛ إذ لإراءة خُضرةِ الجوّ لونَ البحر، ولاحتواءِ الجو على ماءٍ أكثرَ من البحر المحيط ما استُبعِد تشبيهُه بالبحر.

أما ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَٓاءِ مِنْ جِبَالٍ فيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾ فاعلم أن الجمود على الظاهر مع التوقّد في استعارتها جمود بارد وخمود ظاهر. إذ كما تَضمَّنَ: ﴿قَوَاريرَ مِنْ فِضَّةٍ﴾ (الإنسان:16) استعارةً بديعة؛ كذلك يحتوي ﴿مِنْ جِبَالٍ فيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾ على استعارة بديعة عجيبة مستملحة. فكما أن ظروف الجنة لم تكن من الزجاجة ولا من الفضة بل في شفافية الزجاج وبياض الفضة، ومن حيث إن الزجاجة لا تكون من الفضة لتخالف النوعين أشار إلى الاستعارة بالإضافة بذكر ﴿مِنْ﴾، كذلك ﴿مِنْ جِبَالٍ فيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾ متضمنة لاستعارتين مؤسستين على خيال شعريّ بالنظر إلى السامع. وذلك الخيال مبني على ملاحظة المشابهة والمماثلة بين تمثل العالم العلويّ وتشكل العالم السفليّ. وتلك الملاحظة مبنية على تصور المسابقة والرقابة بين الأرض والجوّ في لبس الصور من يد القدرة، كأن الأرض لما برزت بجبالها اللابسة للبيض من حُلل الثلج والبَرَد في الشتاء، والمتعممة بها في الربيع. ثم تزينت في الصيف ببساتينها المتلونة فأظهرت في نظر الحكمة بانقلاباتها معجزةَ القدرة الإلهية، قابلَها جوُّ السماء محاكياً لها مسابقاً معها لإظهار معجزة العظمة الإلهية فبرز متبرقعاً ومتقمصاً بالسحاب المتقطع جبالاً وأطواداً وأودية، والمتلون بألوان مختلفة مصوِّرة لبساتين الأرض، ملوحاً ذلك الجو بأجلى دلائل العظمة وأجلها.

فبناء على هذه الرؤية والمشابهة والتوهم الخياليّ استَحسن أسلوبُ العرب تشبيهَ السحاب لاسيما الصيفيّ بالجبال والسفن والبساتين والأودية وقافلة الإبل كما تسمع من العرب في خطبهم. فيخيل إلى نظر البلاغة أن قطعات السحاب الصيفي سيارة وسبّاحة في الجو، كأن الرعد راعيها وحاديها كلما هزّ عصا بَرقه على رؤوسهم في البحر المحيط الهوائي اهتزت تلك القطعات وارتجت، وتراءت جبالاً صادفت الحشر، أو سفناً يلعب بها يد العاصفة، أو بساتين ترججها من تحتها الزلزلة، أو قافلة شردت من هجوم قطاع الطريق، ومع ذلك يسيرون ويجرون بأمر خالقهم حتى كأن كل ذرة من ذرات ذلك البخار تكمَّنتْ في مكانها أوّلا ساكتة ساكنة منتظرة لأمر خالقها. ولما ناداها الرعدُ -كالآلة المعروفة في العسكر- بـ«حَيَّ على الاجتماع والاتحاد!» تسارعوا من منازلهم مهطعين إلى داعيهم فيحشرون سحاباً. ثم بعد إيفاء الوظيفة وأمرِهم بالاستراحة يطير كلٌ إلى وكره.. فبناءً على هذه المناسبة الخيالية، وعلى المجاورة بين السحاب والجبال -إذ الجبل لجذب الرطوبة يتظاهر ويتشكل السحاب عليه بمقداره ويلبس لباسه- وعلى تلون السحاب بنظير بياض الثلج والبَرد وتكيّفه برطوبتهما وبرودتهما، وعلى وجود الأخوّة بينهما ومبادلة الصورة واللباس لهما في كثير من مواضع القرآن ومصافحتهما في منازل التنـزيل كمحاورتهما ومعانقتهما في كثير من سطور صحيفة الأرض من كتاب العالم، فترى السحاب متوضعاً على الجبل ويصير الجبل كأنه مرسىً لسفن السحاب تُرسى عليه، أو مجلس تتشاور عليه، أو وكر تطير اليه؛ استحق بحكم المجاورة في نظر البلاغة أن يتبادلا ويستعيرا لوازمهما فيعبّر عن السحاب بالجبل مع تناسي التشبيه. فإذا قد عرفت ما سمعت من المناسبات فـ ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَٓاءِ﴾ أيْ من جهة السماء. ﴿مِنْ جِبَالٍ﴾ أي من سحاب كالجبال. ﴿مِنْ بَرَدٍ﴾ أي في لونه ورطوبته وبرودته.

فيا هذا! ما أجبرك مع وجود هذا التأويل الذي تقبله البلاغة على اعتقاد نزول المطر بدقيقتين من مسافة خمس مائة سنة المخالف لحكمة الله الذي أتقن كل شيء صنعاً.

أما هيئات جملةِ ﴿فيهِ ظُلُمَاتٌ﴾ المسوقة للتهويل؛

فتقديم ﴿فيهِ﴾ إشارة إلى أن خيال المصاب المدهوش والسامعِ المستحضِر خيالُه لتلك الحال يتوهم أن ظلمات الليالي الكثيرة أفرغت بتمامها في تلك الليلة.

وأما الظرفية مع أن الصيِّب مظروف فرمز إلى أن المتدهش بتلك المصيبة يظن فضاء العالم حوضاً قد ملئ من المطر، فما الليل إلا مظروف مفتت بين أجزائه.

وأما جمع «الظلمات» فإيماء إلى تنوعها من ظلمة سواد السحاب وكثافته وانطباقه، ومن تقارب دفعات المطر وتكاثف قَطْره، ومن تضاعف ظلمة الليل.

وأما تنكير ﴿ظُلُمَاتٌ﴾ فللاستنكار ولجهل المخاطب، فهو تأكيدُ ﴿ظُلُمَاتٌ﴾.

وأما جملةُ ﴿وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ فاعلم أن المقصد تصوير حيرتهم ودهشتهم، وأن المصاب المتحير يجمع تمام دقته ونظره إلى أدنى حادث. فلإمعان النظر يتفطنون لما في الرعد والبرق من الانقلابات العجيبة والتحول الغريب. إذ بينما يرى المصابون ظلمة استولت على الكائنات وابتلعت الموجودات -نظير العدم- فتنقلب حيرتُهم بالغمِّ اليتميّ والسكوت الميتيّ؛ إذ يرون أظهر دلائل الوجود، وهو تكلُّم العلويات، ثم ظهورها بكشف الحجاب، فينقلب نظرهم إلى نظر المدهوش المتحير الخائف؛ إذ كما أنهم إذا رأوا ظلمات غير محصورة في فضاء غير متناهٍ، لا ضعفَ فيه بجانبٍ يُبقي لهم أملاً، ينظرون نظر اليأس؛ كذلك إذا فاجأهم بغتةً انعدامُ الظلمات بأن أفرغت من الفضاء، ومُلئ بدلها نوراً، ينقلب يأسهُم المطلق إلى رجاء.

اعلم أن الرعد والبرق آيتان ظاهرتان من جهة العالم الغيبيّ في أيدي الملائكة الموكلين على عالم السحاب لتنظيم قوانينه. ثم إن الحكمة الإلهية ربطت الأسباب بالمسَّببَات فإذا تشكل السحاب من بخار الماء المنتشر في الهواء؛ صار قسم حاملاً «للألكتريق» المنفي وقسم حاملاً «للألكتريق» المثبت؛ فحينما يتقاربان يتصادمان دفعة فيتولد البرق. ثم بالهجوم والانقلاع دفعة وامتلاءِ موضعه بآخرَ لعدم الخلو، يهتز وتتموج الطبقات فيتولد صدى الرعد. ولا تجري هذه الحالات إلا تحت نظام وقانون يتمثلهما مَلَكُ الرعد والبرق. وأما ظرفية الصيّب لهما مع أن الظرف هو السحاب فلأن المدهوش والسامع المتدهش بدهشته يرى الصيِّب محيطاً بكل شيء لإحاطته بنفسه.

وأما إفراد الرعد والبرق مع جمع الظلمات، فإشارة إلى أن منشأ الدهشة تخيُّلُ المُصابِ تكلمَ السماء وتهديدَها بالإرعاد، وكشْفَ الحجاب بالإبراق، وهما معنى مصدريّ، لا الكلام واليد البيضاء. وأيضاً كل منهما نوعٌ واحد وإن تعددت أفراده.

وأما تنوين ﴿رَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ فبدل من الصفة، أي رعد قاصف وبرق خاطف، ودالة على عدم الأُلفة بهما بسبب التفطن بالدقة لما فيهما من العجائب.. وأيضاً فيها إيماء إلى أنهم لا يعرفون ذلك الرعد والبرق لسد السمع وغض البصر.

وأما هيئات جملة ﴿يَجْعَلُونَ اَصَابِعَهُمْ فٓي اٰذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾

فاعلم أنها جواب لسؤال مقدَّر واستيناف حسن؛ إذ السامع لما توجه إلى هذه القصة الحسية التمثيلية حصل له مَيَلان شديد لكشف حال المصيبة. ثم بعد أن كمّل التصويرُ التصويرَ وقضى منه الوطر انثنى مجرى الميلان إلى كشف حال المصاب. فكأنه يقول السائل: كيف حال المُصاب حينئذ وبمَ يتشبث للنجاة؟ فأجاب القرآن بقوله: ﴿يَجْعَلُونَ اَصَابِعَهُمْ..﴾ الخ. أي لامناص لهم، إنما هم كالغرقى يتمسكون بغير متمسك فيريدون التحفظ من مجانيق السماويين بسد الأسماع. وكونه سبباً محالٌ، فلا سبب.

وأما لفظ ﴿يَجْعَلُونَ﴾ بدل «يُدخلون» فإيماء إلى أنهم تحروا الأسباب فما صادفوا إلَّا ما سببيته بجعلهم وظنهم فقط.. وصورة المضارع المستحضِرة للحال فرمز إلى أن السامع في مثل هذا المقام المهيج للحيرة يحضر بخياله زمان الواقعة ومكان الحادثة. ثم في المضارع استمرار تجددي. وفي استمراره إيماء إلى تواتر تَقْتَقَة السحاب.

وأما ﴿اَصَابِعَهُمْ﴾ بدل «أناملهم» فإشارة إلى شدة الحيرة باستعمال الأصابع موضع الأنامل.

وأما في ﴿اٰذَانِهِمْ﴾ فإيماء إلى شدة الخوف من صدى الرعد حتى يخيل إليهم أنه لو دخل الرعد في شبكة الآذان لطيّر الأرواحَ من أبواب الأفواه. وفيه رمز لطيف إلى أنهم لمّا لم يفتحوا آذانَهم لنداء الحق والنصيحة عوقبوا من تلك الجهة بنَعَرات الرعد، فسَدّوا هنا ما سدّوا هناك، كمن أخرج كلاماً شنيعاً مِن فيهِ يُضْرَب على فمه، فيُدخل يمينَ الندامة في فيهِ ويضع يسارَ الخجالة على عَينه.

وأما ﴿مِنَ الصَّوَاعِقِ ﴾ فإشارة إلى اتحاد الرعد والبرق على إضراره؛ إذ الصاعقة صوتٌ شديد معه نار مُحرقة تصرع مَن صادف.

وأما ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ ﴾ فإشارة إلى أن البلاء جذَّ اللحمَ إلى العظم، وجاز الأحوالَ إلى الحياة، فما يعنيهم إلّا غمّ الموت وحفظ الحياة.

وأما هيئات جملة: ﴿وَاللّٰهُ مُحيطٌ بِالْكَافِرينَ﴾.

فاعلم أن «الواو» تقتضي المناسبة، وما المناسبة إلّا بين هذه وبين التابع لمآل السابقة. فكأن هذه «الواو» تقرأ عليهم: «هم قومٌ فرّوا من العمارة ونفروا من الحضارة وعصَوا قانون كون الليل سباتاً ولم يُطيعوا نصيحة الناصح فظنوا النجاةَ بالخروج إلى الصحراء فخابوا وأحاط بهم بلاءُ الله».

وأما لفظ ﴿اللّٰهُ﴾ فرمز إلى قطع آخرِ رجائهم؛ إذ المصاب إنما يلتجئ ويتسلَّى أولاً وآخراً إلى رحمة الله، فحين استحقوا غضبَ الله تعالى انطفأ ذلك الرجاءُ.

وأما لفظ ﴿مُحيطٌ﴾ فإيماء إلى أن هذه المصائب المحيطة آثارُ غضبه تعالى، فكما أن السماء والسحاب والصيّب والليل تهجُم عليهم من الجهات الست؛ كذلك غضبُه تعالى وبليّاتُه محيطة بهم.. وأيضاً علمُه تعالى وقدرتُه محيطان بكل الكائنات، وأمرُه شامل لكل الذرات. فكأن ﴿مُحيطٌ﴾ يتلو عليهم: لا تنفذون من أقطار السماوات والأرض، ﴿فَاَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ﴾ (البقرة:115).

وأما تعلق «الباء» فرمز إلى أنهم وقعوا فيما هربوا عنه فصاروا هدفاً للسهام.

وأما التعبير بـ ﴿الْكافِرِينَ﴾ فإشارة إلى إراءة تمثال الممثَّل -أعني المنافقين- في مرآة التمثيل، لئلا يتوغل فيه ذهنُ السامع فينسى المقصد.. ورمز إلى أن المشابهة وصلت إلى درجة، وتَضايَق المسافةُ بينهما إلى حدّ يتراءَيان معاً، فتمتزج الحقيقةُ بالخيال.. وأيضاً إيماء إلى ظلمةِ قلوبهم إذ وجدانُهم أيضاً يعذبهم لقصورهم وجنايتهم؛ إذ مَن رأى جزاءَ جنايته لا يستريح وجدانُه.

وأما هيئات جملة: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ اَبْصَارَهُمْ ﴾ فاستينافُها يشير إلى أن السامع يقول: ألَا ينتفعون بالبرق المخفِّف لبلاء الظلمة عنهم؟ فأُجيبَ بأنهم يخافون من الضرر فضلاً عن الفائدة.

وأما ﴿يَكَادُ﴾  فيشير -باعتبار خاصّته المشهورة- إلى وجود سببِ زوال البصر، لكن لم يزل لوجود مانع.

وأما ﴿يَخْطَفُ﴾ باعتبار استعماله كـ«اختطفتهُ الغُول والعُقاب»، ففيه بلاغة لطيفة تبرُق للذهن، وتشير إلى أن البرق يسابق شعاعَ العين، من قبل أن يصل إلى الأشياء ليأخذ صوَرَها، يمرّ هو عليه فيقطعُه ويضرب على جفنه فيذهبُ بنورِه. كأن نور العين لمّا خرج من بيته مُسرعاً لاجتناء صوَر الأشياء يسارع البرقُ الذي هو شعاع عين الليل، فيأخذ من يد شعاع العين صورتَه قبل إيصاله إلى المخزن، أي يختلس البرقُ صورتَه من يده.

وأما ﴿اَبْصَارَهُمْ﴾ فرمز -بناءً على كونها مرآةً للقلوب- إلى عمل بصائر المنافقين المتعامية عن البراهين القاطعة القرآنية.

وأما هيئات جملة: ﴿كُلَّمَٓا اَضَٓاءَ لَهُمْ مَشَوْا فيهِ وَاِذَٓا اَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾

فاستينافُها يشير إلى أن السامع حينما رأى اختلافَ المصيبة وتغيّرَها سأل عن شأنهم في الحالتين فأُجيب بذلك.

وأما ﴿كُلَّمَٓا﴾ في الإضاءة و ﴿إِذَا﴾ في الإظلام، فإشارة إلى شدة حرصهم على الضياء، ينتهزون أدنى الضياءِ فرصةً. وأيضا ﴿كُلَّمَٓا﴾ متضمن لقياس مستقيم استثنائي.

وأما ﴿اَضَٓاءَ لَهُمْ﴾ بلام الأجْلية والنّفع، فرمز إلى أن المُصاب المدهوش يستغرق في حاجة نفسه حتى يَظنُّ الضياءَ الذي تنشره يدُ القدرة في العالم لآلاف حِكمٍ كلية أنه المُراد به خاصة، ويدُ القدرة إنما أرسلتْه لأجله.

وأما ﴿مَشَوْا﴾ مع اقتضاء الفرصة السيرَ السريع، فإشارة إلى أن المصيبة أقعَدَتهم، فما سيرُهم السريع إلّا مشيٌ وحركة على مهل.

وأما ﴿فيهِ﴾ فإشارة إلى أن مسافة حركتهم الضياءُ، الذي هو لون الزمان، فكأنه يحدّد لهم المكان.

وأما ﴿وَاِذَٓا﴾ فـ«الواو» رمز إلى تجديد المصيبة لتشديد التأثير. وأما الإهمال والجزئية في ﴿إِذَا﴾ عَكْسَ ﴿كُلَّمَٓا﴾ فإشارة إلى شدة نفرتهم وتعاميهم، فتأخذُهم وهم منغمسون في آنِ الفرصة.

وأما ﴿اَظْلَمَ﴾ بالإسناد إلى البرق، فإشارة إلى أن الظلمة بعد الضياء أشدُّ. وإيماءٌ إلى أن خيال المصاب لمّا رأى البرقَ طردَ الظلمةَ ثم ذهب وامتلأ موضعُه بالظلمات، يتخيل أنه انطفأ وأورث دخاناً.

وأما ﴿عَلَيْهِمْ﴾ الملوِّح بالضرر فإشارة إلى أن الإظلام ليس تصادفيا، بل جزاءٌ لعملهم. ورمزٌ إلى أن المدهوش يتخيل الظلمةَ المالئة للفضاء كأنها تَقصِد -من بين الأشياء- ذلك الإنسانَ الصغير الذليل وتجعلُه خاصةً هدفَ هجومها وإضرارها.

وأما ﴿قَامُوا﴾ بدل «سكنوا» فإشارة إلى أنهم بالمصيبة وشدة التشبّث تقوّسوا كالراكعين، كما هو شأن المجدِّين في العمل.

وأما هيئات جملة ﴿وَلَوْ شَٓاءَ اللّٰهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَاَبْصَارِهِمْ ﴾ فالـ«واو» -بسر الربط- تلوّح إلى أن يدَ القدرة تتصرف تحت حجاب الأسباب، وأن نظر الحكمة يراقبُ من فوقِ جميعِ العلل.

وأما ﴿لَوْ﴾ فمتضمنةٌ لقياس استثنائيّ غيرِ مستقيم. أي عدمُ المشيئة علةٌ لعدم ذهابهما؛ كما أن عدمَ الذهاب دليلٌ على العلم بعدم المشيئة بذهابهما. وأيضاً رمز إلى أن السبب بلغَ النهاية.

وأما ﴿شَٓاءَ﴾ فإشارة إلى أن الرابط بين السبب والمسبَّب إنما هي المشيئة والإرادة الإلهية. فالتأثيرُ للقدرة، وما الأسباب إلّا حجابُ العزة والعظمة؛ لئلا تباشرَ يدُ القدرة بالأمور الخسيسة في ظاهر نظرِ العقل.

وأما التصريحُ بلفظة ﴿اللّٰهُ﴾ فإشارة إلى زجر الناس عن الابتلاء بالأسباب والانغماس فيها. وأيضاً لدعوة الأذهان إلى رؤية يدِ القدرة خلفَ كل الأسباب.

وأما حذفُ مفعول ﴿شَٓاءَ﴾ وإن كان واجباً بالقاعدة المطّردة، فيجوز بقرينة إخوانه أن يكون إيماءً إلى عدم تأثّر المشيئة والإرادة الإلهية بأحوال الكائنات، وعدم تأثير الأشياء في الصفات الإلهية، كما تتأثر إرادةُ البشر بحُسن الأشياء وقبحها وعظمتِها وصِغَرها.

وأما ﴿لَذَهَبَ﴾ فإشارة إلى أن الأسبابَ ليست مسلطةً ومستولية على المسبّبات، حتى إذا رُفعت بقيت المسبباتُ في جوف العدم تلعب بها يدُ التصادف وتشتّتها بالاتفاق؛ بل يدُ القدرة حاضرةٌ خلف الأسباب. إذا أخرجت الأشياءَ تأخذها يدُ الحكمة الإلهية، بقانون الموازنة والانتظام، ترسلها إلى مواقعَ أُخر ولا تُهملها. كما أن الحرارة إذا خرّبت بُنية الماء، فبالنظام المندمج في الهواء يذهب البخارُ في مجرى معيّن ويسوقُه صانعُه إلى موقع معين. وكذا في ﴿ذَهَبَ﴾ رمز إلى أن الحواسَّ الخمس الظاهرة ليست متولدةً عن الطبيعة، ولا لازمةً لتجاويف السمع والبصر، بل إنما هي هداياه تعالى وعطاياه. وما التجاويفُ والأسباب إلّا شرائطُ عاديةٌ.

وأما التعديةُ بـ«الباء» بدلَ «الهمزة» فإيماء إلى أن يد القدرة لا تُطلق الأشياءَ عن حبل الأسباب، غَاربُها على عنقها بل تضع أزمّتها بيد نظام.

وأما إفراد «السمع» مع جمع «البصر» فإشارة إلى إفراد المسموع وتعدّد المُبصَر، إذ ألفُ رجل يسمعون شيئاً واحداً مع تخالف المبصَرات.

وأما هيئات جملة: ﴿اِنَّ اللّٰهَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ﴾ فاعلم أنها فذلكة لتحقيق الدهشة في التمثيل والممثَّل له، تشير إلى أنه كما لا تهمل دقائق أحوال المصابين المتمثلة لجزئيات أحوال المنافقين؛ كذلك يُرى في كل ذرة تصرّف القدرة الإلهية.

وأما ﴿اِنَّ﴾ فمع إشارتها إلى أن هذا الحكم من الحقائق الراسخة، رمزٌ إلى عظمة المسألة ووُسعَتها ودقّتها، وعجزِ البشر وضعفه وقصوره عنها، المولِّدة للأوهام المُنتجة للتردّد في اليقينيات.

وأما التصريحُ بلفظة ﴿اللّٰهَ﴾ فإيماء إلى دليل الحُكم، إذ القدرة التامة الشاملة لازمةٌ للألوهية.

وأما ﴿عَلٰى﴾ فإيماء إلى أن القدرة المُخرِجةَ للأشياء من العدم، لا تتركها سُدىً هَملاً، بل ترقُب عليها الحكمةُ وتربّيها.

وأما ﴿كُلِّ﴾ فإشارة إلى أن آثار الأسباب، والحاصلَ بالمصدر من الأفعال الاختيارية أيضاً بقدرته تعالى.

وأما لفظ ﴿شَيْءٍ﴾ بمعنى مَشيء، أي ما تعلقت به المشيئةُ، فإشارة إلى أن الموجودات بعد وجودها لا تستغني عن الصانع، بل تفتقر في كلِّ آنٍ لبقائها -الذي هو تكرّر الوجود- إلى تأثير الصانع.

وأما لفظ ﴿قَديرٌ﴾ بدل «قادر» فرمز إلى أن القدرة ليست على مقدار المقدورات فقط، وأنها ذاتية لا تغيّر فيها، ولازمةٌ لا تقبل الزيادة والنقصان، لعدم إمكانِ تخلّلِ ضدِّها حتى تترتب شدةً ونقصاناً.. وتلويحٌ إلى أن القدرة كالجنس وكميزان الصّرف، أعني: «فَعَلَ» لجميع الأوصاف الفعلية من الرزاق والغفار والمحيي والمميت وغيرها. تفكّر فيما سمعتَ حقَّ التفكر!