محاكمات عقلية

في التفسير والبلاغة والعقيدة

أو

صيقل الإسلام «رجتة العلماء»

وصفةٌ طبية: لعصر مريض، وعنصر عليل، وعضو سقيم

تأليف

ترجمة وتحقيق

إحسان قاسم الصالحي


تقديم

العالم الفاضل الأستاذ الدكتور

عبد الملك السعدي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرشدين، وعلى آله وأصحابه الهداة المهديين.

وبعد، فالإمام النُّورْسِيّ أشهرُ من أن يُعرَّف به؛ إذ قد تجسّد في ذاته جميعُ ما أُطلق عليه من ألفاظ، فهو سعيدٌ اسمًا ومعنى، وبديعُ زمانه جهادًا وتضحية، ونورٌ شعَّ في ظروف تركية إسلاميًا هي بأمس الحاجة إلى أنوار عقليته الجبارة وتوجيهاته السديدة.

فقد عرفتُ النُّورْسِيّ من خلال ثروته العلمية عالمًا نابغًا، ومرشدًا مبصّرًا، وواعظًا مؤثرًا، ومجاهدًا مثابرًا، وصابرًا على المكاره جليدًا، ومؤلفًا بارعًا.

كيف لا.. وهو الذي أفنى حياتَه بين سجن وإبعاد، وأيامَه بين ضغط واضطهاد.

وهو الذي زيَّن خزانات العلم بمؤلفاته ورسائله؟!

لقد ظهر النُّورْسِيّ في ظروف وكأنها تنتظره لإصلاح ما فسدَ بها وإعلاءِ ما انخفض فيها.

وما هو وجهادهُ إلّا لمحةٌ من لمحاتِ ﴿اِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَاِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحِجر:9) ونبأٌ من أنباء خلود الرسالة المحمدية في أرض الله.

فقد ظهر في عصرٍ رفع الكفرُ رأسه فيه، واشرأبت أعناقُ التضليل لتطل بنظراتها المسمومة على دولة لها عراقتُها في الحضارة الإسلامية ولها دَورها الفعال في تدعيم ركائز العقيدة في بلاد الأناضول.

فقد وقف وقفةَ الشجاع الصامد، والهِزَبر الجَسور أمام أئمة العلمانية ودعاتها فأَلقم بحججه وكتابته ومناظراته حَجرًا للأفواه النتنة المتمشدقة بالطعن بالإسلام ولغةِ القرآن واتهمتها بالرجعية والتخلف.

فالإمام سنّ في تركيا المسلمة سنةً حسنة له أجرُها وأجرُ مَن عمِل بها إلى يوم القيامة؛ إذ قابل الشرَّ بالخير، وعالج الفكر بالفكر، فدعوتُه كانت وما زالت بعدَه تغرس العقيدةَ في نفس الشعب التركي وتحفّز همّته وتوقد جذوةَ الإيمان في قلبه كلما أراد أهلُ الشر إطفاءها.

ولم تكن حركةُ هذا الإمام مقصورةً على الشعب التركي المسلم فحسب بل انتشرت إلى العالم وذاع صيتُها وخرجت إلى أرجاء العالم تحمل بين يديها الأملَ والبشرى للمؤمنين وأيقنوا أن شعبًا تخلد فيه حركة كحركة النُّورْسِيّ حريّ به أن يحقق أهدافَه في مواصلة الدرب الذي وضعهم الإمام عليه.

فقد حصل لهذا الرائد الكبير والمصلح الملهَم أتباعٌ يحملون ذلك المشعل الذي أوقده بأيديهم داخل تركيا وخارجها ليواصلوا المسيرة حتى يرفعوا راية الإسلام على ربوع بلاد الفاتح.

وقد قيّض الله لنشر مؤلفاته وترجمتها رجالًا مخلصين لربهم ولدينهم ولعقيدتهم، ومن بين هؤلاء الرجال الأخ الماجد الأستاذ إحسان قاسم الصالحي؛ إذ قد ترجم له العديدَ من مؤلفاته إلى العربية وملأ بها أسواق العراق وخزانات العلماء، فجزاه الله خيرًا عن المؤلف وعن المسلمين وبارك له في جهوده.

والأستاذ الصالحي هو الذي عرض عليّ أن أُشرّفَ ناظري في كتابٍ من كتب هذا الداعية الكبير، وأُكحّل أجفاني بما انطوى عليه من حِكمٍ جمّة ومعرفة واسعة وعلم غزير. ذلك الكتاب هو «محاكمات عقلية».

وبعد أن تصفحتُ صفحاته وقلبت طرف الطَرْف في سطوره وجنباته واطَّلعت على كنوز ذخائره وخزانته، وجدتُه كتابًا قد احتوى على معلومات لها وزنُها لدى أهل العلم والمعرفة ولها قيمتُها عند أهل الفضل والعرفان. إلّا أنى وجدت الشيخ رحمه الله قد تأثر في أسلوبه ببلاغةِ بلغاءٍ كالسكاكي والتفتازاني والجرجاني وغيرهم حيث كانت ظاهرة الغموض تضفو على أسلوبه. وعلامات التعقيد تظهر على عباراته، مع أنه قد اتجه اتجاهًا روحيًا دقيقًا متحديًا كثيرًا من أعداء العقيدة، مقرنًا تحدياته بالتوجيه والنصح والتحذير مما قد ينأى بعيدًا بالقارئ عن عنوان الموضوع.

لذا فإن حُكمي على الكتاب بأنه كتابٌ علمي رصين وليس كتابًا ثقافيًا يسهل تناول ما فيه لكل مَن له خلفية إسلامية، بل يستفيد منه أهلُ التخصص بهذا الشأن وليس للعامة فيه نصيب.

ومع هذا فإن المكتبة الإسلامية العربية بحاجة إلى إخراجه من حيّز العدم إلى حيّز الوجود ليتبوأ مكانته مع أخواته مصنفات المؤلف نفسها والمصنفات الأخرى التي أملتها قرائحُ فطاحل هذه الأمة وأفذاذُها من رجال الفكر والتأليف.

فللأخوة القائمين بنشر تراث هذا الرجل العظيم مني كل إجلال وتقدير مع دعائي لهم بالتوفيق من العلي القدير.

ولهذا الحَبر من أبناء أمة محمد ﷺ الرحمة والرضوان من الرحمن الرحيم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

د. عبد الملك عبد الرحمن السعدي

العراق – الرمادي – الجامع الكبير

تحريرًا في 26/7/1410هـ

23/3/1990م