ولاسيما: أن لصاحب هذا العالم والمتصرِّف فيه بهذه الأفعال، سخاوةً وَجُودا عظيما، وخزائن مشحونة. ومن ظرائف ظروف تلك الخزائن هذه الشموسُ المملوءة من الأنوار، وهاتيك الأشجار المشحونة من الأثمار.. وهذه السخاوة السرمدية مع هذه الثروة الأبدية تقتضيان وجود دارِ ضيافةٍ أبدية، ودوامَ وجودِ محتاجين بأنواع الحاجات فيها؛ إذ الكرم بلا نهاية يقتضي الامتنانَ والتنعيم بلا نهاية؛ وهما يقتضيان قبول المنة والتنعم بلا نهاية؛ وهما يقتضيان دوام وجود الشخص المكرم عليه، ليُقابِل بدوامه في التنعم شكرَ المنة الدائمة، وإلَّا لانحصر مقابلةُ كل واحد في دقائق عمره الزائل، ولصار بحيث لا يهتم بما لا يرافقه، بل يتنغص عليه ذلك التنعم الجزئي أيضا.

وكذا لفاعل هذه الأفعال الحكيمة الكريمة كمالات مستورة، يُفهم من تظاهره بهذه المعجزات المزينات أنه يحب أن يشهِّر تلك الكمالاتِ على رؤوس الأشهاد المستحسِنين المقدِّرين.

نعم، إن من شأن الكمال الدائم التظاهرَ بالدوام، ووجودَ نظر المستحسِن الدائميّ.. فالناظر الذي لا يدوم يسقط مِن نظرِ محبته قيمةُ الكمالات.

وكذا لصانع هذه المصنوعات الجميلات المليحات المزينات المنورات، محاسنُ جمالٍ مجرد معنوي بلا مثل، وله لطائف حُسن مخفي يليق به بلا نظير؛ بل في كل اسم من أسمائه كنوز مخفية من جلوات ذلك الحسن المنـزه والجمال المجرد.

نعم، أين عقولنا وأين فهم جمالِ مَن مِن بعض مراياه الكثيفةِ وجهُ الأرض المتجددة التي تُظهر وتصف لنا في كل عصر -بل في كل فصل، بل في كل وقت- ظلالَ جلوات ذلك الجمال الدائمِ التجلي، مع تفاني المرايا وسَيَّالية المظاهر.. ومِن بعض أزاهيره ونقشه: الربيعُ؟

ثم إنه من الحقائق المستمرة الثابتة أن كل ذي جمال فائقٍ يُحب أن يشاهِد جمالَه بنظره، وبنظر غيره؛ ويَنظر إلى محاسنه بالذات، وبالواسطة؛ ويشتاقُ إلى مرآةٍ فيها جلوة جماله المحبوب، والى مشتاقٍ فيه مقاييس درجاتِ حُسنه المرغوب. فالحُسن والجمال يقتضيان الشهود والإشهاد؛ وهما يقتضيان وجود مستحسِنين متنـزهين في مناظرهما، ووجودَ مشتاقين متحيرين في لطائفهما. ثم لأن الجمال سرمدي، يقتضي أبديةَ المستحسِن المتحيّر؛ إذ الجمال الدائم الكامل لا يرضى بالمشتاق الزائل الآفل؛ إذ بسرِّ أن الشخص المقيّد بنفسه، له نوع عداوة لما لا يصل إليه فهمُهُ أويدُهُ، ولمن يردّه أويطرده من دائرة حضوره. فيحتمل حينئذ أن يقابِل هذا الشخصُ ذلك الجمالَ -الذي يستحق أن يقابَل بمحبة بلا نهاية، بشوق بلا غاية واستحسانٍ بلا حد- بعداوة وحقد وإنكار.

الحاصل: أن هذا العالم كما يستلزم صانعَه بالقطع واليقين، كذلك يستلزم صانعُهُ الآخرةَ بلا شك ولا ريب..

ولاسيما: أن لمالك هذا العالم رحيميةً شفيقة في سرعةِ إغاثةِ الملهوف المستغيث، وفي إجابة الداعي المستجير؛ إذ قد نرى أنه يراعي أدنى حاجةٍ مِن أدنى خلقه، بدليل قضائها وقتَ وجودها من حيث لا يحتسب، وأنه يسمع أخفى نداءٍ مِن أخفى خلقه، بدليل إسعاف مسؤوله ولوبلسان حاله.

فانظر إلى حُسن تربيةِ أطفال ذوي الحياة وضعفائها، كي ترى هذه الشفقة كالشمس في ضيائها. فهذه الشفقة الرحيمة الكريمة تقتضي اقتضاءً ضروريا قطعيا أن تسعف أعظمَ حاجة وأشدَّها، مِن أعظم عباده وأحب خلقه إليه..

وبالخاصة إذا كانت الحاجة عامة بحيث يؤمِّن على دعاء ذلك الحبيبِ جميعُ الخلق بألسنةِ الأقوال والأحوال.. وبالخاصة إذا كانت مُهمةً عند كل شيء، لكونها سببا لصعود قيمة الأشياء إلى أعلى عليين، وبدونها تسقط قيمة كل شيء إلى أسفل سافلين. فحينئذ يشترك في تضرعِ ذلك الحبيبِ جميعُ الموجودات بألسنة استعداداتها.. وبالخاصة إذا كانت مطلوبةً لكل الأسماء المتجلية في الكائنات.

نعم، تلك الحاجة كمخزن الغايات لتلك الأسماء ولكمالاتها في ظهورها بإجراء أحكامها، فحينئذ تَشْفَع جميعُ الأسماء عند مسمّاها لإسعاف حاجة ذلك الحبيب.. وبالخاصة إذا كانت تلك الحاجة كلمح البصر سهلة يسيرة على مالكها الكريم.. وبالخاصة إذا تضرع ذلك الحبيب بأنواع التضرعات الحزينة، متذللا بأنواع الافتقارات المشفَّعة، متحببا بأنواع العبادات المقبولة. وقد اصطف خلفَه -مؤتمّين به مؤَمِّنين على دعائه- جميعُ أفاضلِ ثمراتِ شجرةِ الخلقة من الأنبياء والأولياء والأصفياء، وهوإنما يطلب من ربه الكريم الجنةَ والبقاءَ والسعادةَ الأبدية والرضاء.

فبالضرورة لا يمكن بوجه من الوجوه أن يقبل جمالُ هذه الشفقة الشاملة المشهودة بآثارها، قبحا غدَّارا بعدم قبول مثل هذا المطلوب المعقول، مِن مثل ذلك المحبوب المقبول!

نعم، كما أن ذلك الحبيب الذي هومدار الشهود والإشهاد للشاهد الأزلي رسولٌ؛ وبرسالته كاشفُ طلسمِ الكائنات، ودلّال الوحدة في غمرات الكثرة، وسببٌ لوصول السعادة في الجنة.. كذلك عبدٌ؛ فبعبوديته كشافُ خزائن الرحمة، ومرآةٌ لجمال الربوبية، وسببٌ لحصول مدار السعادة، وسبب لوجود الجنة. فلوفُرض عدم جميع الأسباب الغير المحصورة المقتضية للجنة إلّا مثلُ هذا الطلب من مثل ذلك الحبيب، لكفى لإيجاد هذه الجنة ووجودها مِن جُودِ جَوادٍ يوجِد في كل ربيع جِنانا مزيَّنة كأنموذجات تلك الجنة. فما هذه بأسهل من تلك، وما هي بأصعب عليه من هذه. فكما يحقّ -وحقٌ أن يُقال، وقد قيل-: «لولاك لولاك لما خلقت الأفلاك»، يستحق أن يقال: لولم يكن إلّا دعاؤك لخلقتُ الجنة لأجلك.

اَللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلٰى ذٰلِكَ الْحَبِيبِ الَّذِي هوسَيِّدُ الْكَوْنَيْنِ وَفَخْرُ الْعَالَمَيْنِ وَحَيَاةُ الدَّارَيْنِ وَوَسِيلَةُ السَّعَادَتَيْنِ وَذُوالْجَنَاحَيْنِ وَرَسُولُ الثَّقَلَيْنِ وَعَلٰى آلِهِ وَصَحْبِهِ أجْمَعِينَ
وَعَلٰى إخْوَانِهِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، آمِينَ.


ولاسيما: أنه يُشاهَد في جريان هذا العالم آثارُ سلطنةٍ محتشَمة في تسخير الشموس والأقمار والأشجار والأنهار، فيُعلم أن لمتصرف هذه الموجودات سلطنةً محتشمة في ربوبيةٍ معظمة؛ مع أن هذه الدار -بسرعةِ تحوّلها أوزوالها- كمنـزلٍ في خانٍ أُعدّ للمسافرين، يُملأ ويُفرغ في كل يوم، وكميدانِ امتحان يتبدل في كل وقت، وكمَشهر أُحضِرَ لإراءة أنموذجاتِ غرائبِ صنعةِ صاحبِ الموجودات، ونمونات إحساناته. وهذا المشهر يتحول في كل زمان، مع أن الخلق والعِباد الذين هم كالرعية ومدار السلطنة اجتمعوا في ذلك المنـزل، وهم على جناح السفر في كل آن، وحضروا ذلك الميدانَ مستمعين ناظرين بمقدارِ سؤالٍ وجواب، وهم على نية الخروج في كل زمان، وتوقفوا قليلا في ذلك المشهر وهم على قصد التفرق في كل وقت وأوان.

فهذه الحالة تقتضي بالضرورة أن يوجَد خلف هذا المنـزل الفاني والميدان المتغير وبعد هذا المشهر المتبدل، قصورٌ دائمةٌ ومساكن أبدية وخزائنُ مفتحة الأبواب مشحونة من جيّدات أصول تلك الأنموذجات المغشوشات لتَقوم تلك السلطنة السرمدية المشهودة عليها؛ إذ من المحال أن يكون قيام هذه الربوبية المحتشمة بأمثال هذه الفانيات الوانيات الزائلات الذليلات!

نعم، كما يَتفطن مَن له أدنى شعور إذا صادف في طريقه منـزلا أعده ملِكٌ كريم في الطريق لمسافريه الذين يذهبون إليه، ثم إن الملك قد صرف ملايين الدنانير لتزيين المَنـزل لتَنـزُّهِ ليلة واحدة، ثم رأى أن أكثر المزينات صور وأنموذجات! ثم رأى المسافرين يذوقون من هذا وذلك للطعم لا للشبع، إذ لا يشبعون من شيء، ويأخذ كل واحد بـ«فُوطُوغْرَافِه» المخصوص صورَ ما في المنـزل، ويأخذ خُدّامُ الملك أيضا صور معاملاتهم بغاية الدقة.. ثم رأى أن الملِك يخرّب في كل يوم أكثر تلك المزينات الغاليات القِيمةِ، ويجدد لضيوفه الجديدين مزيناتٍ أخرى.. ويَتفهم بلا شك أن لصاحب هذا المنـزل المؤقت منازلَ عالية دائمة، وثروةً غالية مخزونة، وسخاوة عظيمة كريمة؛ وهويريد أن يشوّق إلى ما عنده ويرغّبهم فيما ادَّخره لهم..

كذلك؛ لابد أن يتفطن الإنسان أن هذه الدنيا ليست لذاتها وبذاتها، بل إنما هي مَنـزلٌ تُملأ وتُفرغ بحلول وارتحال، وأن ساكنيها مسافرون، يدعوهم رب كريم إلى دار السلام.. وأن هذه التزيينات ليست للتلذذ بالتنـزه فقط، بدليل أنها تُلِذُّك آنا، ثم تؤلمك بفراقها أزمانا، وتُذيقك وتفتح اشتهاءك، ثم لا تشبعك لقِصَر عُمرها أوقصر عمرك، بل إنما هي للعبرة وللشكر، وللشوق إلى أصولها الدائمة ولغايات عُلوية.. وأن هذه المزينات صور وأنموذجات لِما ادّخره الرحمن في الجنان لأهل الإيمان، وأن هذه المصنوعات الفانيات ليست للفناء، بل اجتمعت اجتماعا قصيرا لتؤخَذ صورُها وتماثيلُها ومعانيها ونتائجها، فيُنسج منها مناظر دائمة لأهل الأبد، أويَصنع منها مُحَوّلُها ما يشاء في عالم البقاء.

ومن الدليل على أن الأشياء للبقاء لا للفناء، بل الفناءُ الصوري تمامُ الوظيفة وترخيصٌ له، أن الفاني يفنى بوجهٍ ويبقى بوجوهٍ غير محصورة! مثلا: انظر من كلمات القدرة إلى هذه الزهرة التي تنظر إلينا في وقت قصير، ثم تفنى؛ تراها كالكلمة التي تزول لكن تودِعُ بإذن الله في الآذان ألوفَ تماثيلها، وفي العقول -بعدد العقول- معانيَها؛ إذ هي وقت تمام الوظيفة تُبقي وتُودع في حافظتنا وفي حافظة كل مَن رآها في الشهادة، وفي بذورها في الغيب صورَها ومعانيَها؛ حتى كأن حافظة كلِّ مَن نظر إليها وكلَّ بُذيراتها (فوطوغرافاتٌ) لحفظ زينةِ صورها، ومنازلُ لبقائها. وقس عليها ما فوقها وما فوق ما فوقها من ذوي الأرواح الباقية.

وإن الإنسان ليس سدىً غاربهُ على عنقه: يسرح كيف يشاء، بل تؤخذ صور أعماله، وتُكتب وتحفظ نتائج أفعاله ليحاسَب؛ وإن التخريبات الخريفية للمصنوعات الجميلات الربيعية، إنما هي ترخيصات بتمام الوظيفات وتفريغات لوفود مخلوقات جديدات، وإحضارات لنـزولِ مصنوعاتٍ موظفات، وتنبيهات للغفلات والسكرات. وإنّ لِصانع هذا العالم عالما آخر باقيا يسوق إليه عبادَه ويشوّقهم إليه، وإنه قد أعد لهم ما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

ولاسيما: أن لمتصرف هذا العالم حفيظيةً تامة بحيث لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا تحفظها في كتاب مبين. ومن أبواب هذا الكتاب المبينِ النظامُ والميزانُ المشهودان، إذ نشاهد أن كل ما تمّ عمرُه بتمام وظيفته، وذهب عن الوجود في عالم الشهادة، يُثبت فاطرهُ كثيرا من صوره في ألواح محفوظة، وينقُش أكثرَ تاريخ حياته في نواتاته ونتائجه، ويُبقيه في مرايا متعددة غيبا وشهادة، حتى كأن كثيرا من الأشياء موظفون بأخذ صورةِ جريان معاملة الأشياء المجاورين لها.

فإن شئت فانظر إلى حافظة البشر وثمرة الشجر ونواة الثمر وبذر الزهر، لتفهم عظمةَ إحاطة قانون الحفظ والحفيظية، حتى في السيالات الزائلات. فقس من هذا قوةَ جريان هذه الحفيظية في الأمور المهمة المثمرة في العوالم الغيبية والأخروية. فيُفهم من هذه المحافظة التامة أن لصاحب هذه الموجودات اهتماما عظيما بانضباط ما يجري في ملكه، وأن له نهايةَ دقةٍ في وظيفةِ حاكميته، وانتظاما تاما في سلطنة ربوبيته، بحيث يَكتب ويَستكتب أدنى حادثة وأهونَ عمل وأقلَّ خدمة، ويأمر -بالأمر التكويني- بأخذ صورةِ كل ما يجري في ملكه، ويَحفظ ويستحفظ كلَّ فعل وعمل. فهذه الحفيظية تشير بل تصرح بل تستلزم المحاسبة. وبالخاصة في أعظم الأعمال وأهمها من أكرم المخلوقات وأشرفها أي الإنسان، لأن الإنسان كالشاهد على كليات شؤون الربوبية، وكالدلاّل على الوحدانية الإلهية في دوائر الكثرة، وكالمشاهِد والضابط على تسبيحات الموجودات، وهكذا.. مما لا يعد من أسباب تكريمه بالأمانة وتقليده بالخلافة.

فمع هذا ﴿اَيَحْسَبُ الْاِنسانُ اَنْ يُتْرَكَ سُدًى (القيامة:36) ولا يُسألَ غدا؟ كلا.. بل لَيحاسَب على السَبَد واللَبد، وسيذهب إلى الحشر والأبد. وما الحشر والقيامة بالنسبة إلى قدرته إلّا كالربيع والخريف. فكل الوقوعات الماضية معجزاتُ قدرته تشهد قطعا على أنه قدير على كل الإمكانات الاستقبالية.

ولاسيما: أن مالك هذا العالم قد وَعد مكررا بما إيجادُه عليه هيّن سهل يسير، ووجوده لخلقه وعباده مهمّ بلا نهاية، وغال بلا غاية. مع أن خُلف الوعد في غاية الضدية لعزّة اقتداره ومرحمة ربوبيته؛ إذ خُلفُ الوعد نتيجةُ الجهل أولا والعجز آخرا. فخلف الوعد محال على العليم المطلق والقدير المطلق. فليس إيجاد الحشر بانقلاباته وبجنّاته بأعسر عليه من إيجاد الربيع بتحولاته وبجنانه. وأما وعدُه سبحانه فثابت بتواتر كل الأنبياء بإجماع جميع الأصفياء. استمع قوةَ وعدِه سبحانه من هذه الآية: ﴿اَللّٰهُ لَٓا اِلٰهَ اِلَّا هوۜ لَيَجْمَعَنَّكُمْ اِلٰى يَوْمِ الْقِيٰمَةِ لَا رَيْبَ فيهِۜ وَمَنْ اَصْدَقُ مِنَ اللّٰهِ حَديثًا (النساء:87).. ﴿قُتِلَ الْاِنْسَانُ مَٓا اَكْفَرَهُ (عبس:17) لا يصدِّق حديثَ مَن هذه الموجودات كلماتُه الصادقة بالحق، وهذه الكائنات آياتُه الناطقة بالصدق؛ ويعتمد على هذيانات وهمِه وحماقات نفسِه وأباطيل شيطانه. نعوذ بالله من الخذلان ومن شر النفس والشيطان..

ولاسيما: أنّا نشاهد في هذا العالم تظاهراتِ ربوبيةٍ محتشمة سرمدية، وآثارَ سلطنةٍ مشعشعةٍ مستقرة. وقس عظمة صاحب هذه الربوبية من كون هذه الأرض بسَكَنَتها كحيوان مسخّر مذلل تحت أمره يحييها ويميت، ويربّيها ويدبّر. والشمس بسياراتها مسخرةً منظمة بقدرته ينظمها ويدَوِّر، ويقدرها ويكوّر. مع أن هذه الربوبية السرمدية المستمرة والسلطنة المستقرة المحيطة -بشهادة تصرفاتها العظيمة المحيّرة للعقول- لا تقومان على هذه الأمور الزائلة الواهية المتبدلة السيّالة، ولا تُبْنَيان على مثل هذه الدنيا الفانية المغيّرة المتخاذلة المنغّصة. بل لا يمكن أن تكون هذه الدنيا في سرادقات هذه الربوبية إلا كميدان بُنيت فيها منازلُ مؤقتة للتجربة والامتحان والتشهير والإعلان، ثم تُخرَّب وتبدل بقصور دائمة ويساق إليها الخلق. فبالضرورة لابدّ أن يوجَد لربّ هذا العالم الفاني المتغير عالمٌ آخر باقٍ مستقر. ومع ذلك قد أَخبر كلُّ مَن ذهب من الظاهر إلى الحقيقة من ذوي الأرواح النيّرة والقلوب المنوّرة والعقول النورانية، ودخل في حضور قُربه سبحانه أنه أعدّ للمطيعين والعاصين دارَ مكافأة ومجازاة، وأنه يَعِدُ وعدا قويا ويوعد وعيدا شديدا، وهوأجلُّ وأقدس من أن يَذِلّ ويتذلّل بخُلف الوعد، وأعلى وأعزّ من أن يَعجز عن إنجاز الوعيد. مع أن المخبِرِين الذين هم الأنبياء والأولياء والأصفياء متواترون، وأهلُ اختصاص لمثل هذه المسألة، وقد أجمعوا واتفقوا -مع تخالفهم في المسالك والمشارب والمذاهب- على هذا الإخبار الذي تؤيده الكائنات بآياتها. فهل عندك أيها الإنسان حديثٌ أصدقُ من هذا الحديث؟ فهل يمكن أن يكون خبر أصدقَ من هذا الخبر وأحقَّ؟

ولاسيما: أن متصرف هذا العالم يُظهِر في كل وقت -يوما وسَنة وقرنا ودَورا- في ميدان الأرض الموقت الضيّق كثيرا من أمثال ذلك الميدان الأكبر الأوسع، ومن نموناته ومن إشاراته.. فإن شئت فتأمل في كيفية إحياء الأرض في الحشر الربيعي، كي ترى قريبا من ثلاثمائة ألف حشر ونشر بكمال الانتظام في مقدار ستة أيام، وبكمال الامتياز والتشخيص مع غاية اختلاط تلك الأموات الغير المحصورة المشتبكة المنتشرة، متداخلة في صحيفة الأرض! فمن يفعل هذا كيف يؤوده شيء؟.. وكيف لا يخلق السماوات والأرض في ستة أيام؟.. وكيف لا يكون حشرُ الإنسان كلمح البصر بالنسبة إليه؟!

نعم، مَن يكتب ثلاثمائة ألف كتاب قد انمحت حروفُها في صحيفة واحدة معا، ومختلطا بلا غلط ولا مرج ولا مزج، كيف يعجز عن استنساخِ كتابٍ عن حافظته -هوألّفه أولا ثم محاه- كتابةً ثـانيةً؟ فإن شئت فانظر إلى آيةِ ﴿فَانْظُرْ اِلٰٓى اٰثَارِ رَحْمَتِ اللّٰهِ كَيْفَ يُحْيِ الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَاۜ اِنَّ ذٰلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتٰىۚ وَهوعَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ (الروم:50) لِترى في تلك الكيفية حقيقة هذا التمثيل. فيُفهَم من هذه التصرفات ويُتحدَّس من هاتيك الشؤونات، أن ما يشاهَد من هذه الاجتماعات والافتراقات، ليست مقصودةً لذاتها، لعدم المناسبة بين تلك الاحتفالات المهمة وبين الثمرات الجزئية الفانية في زمان قصير! بل إنما هي تمثيل وتقليد لتؤخَذ صورُها، وتُركَّب وتحفَظ نتائجُها، وتكتب لتدور المعاملة في المجمع الأكبر عليها، وتدومَ المشاهدة في المحضر الأشهر بها؛ فتثمر هذه الفانيات صورا دائمة وأثمارا باقية ومعاني أبدية وتسبيحات ثابتة. فما هذه الدنيا إلّا مزرعة، والبيدرُ الحشرُ، والمخزنُ الجنةُ والنار.

ولاسيما: إذا أظهر ذلك الربُّ السرمدي والسلطان الأزلي الأبدي، في تلك المنازل الزائلة والميادين الآفلة والمشاهر الراحلة، آثارَ حكمةٍ باهرة ماهرة، وعنايةٍ ظاهرة زاهرة، وعدالة عالية غالية، ومرحمة واسعة جامعة؛ بدرجةٍ يَعرِف باليقين مَن لم يكن على عينه غين وفي قلبه رين، أنه ليس في الإمكان أكملُ من حكمته، وأجمل من عنايته، وأشمل من مرحمته، وأجلّ من عدالته. فلولم تكن في دائرة مملكته -في ملكه وملكوته- أماكنُ دائمة عالية، ومساكن قائمة غالية، وسواكن مقيمة خالدة، لتكون تلك الأمور مظاهر لتَظاهُر حقائق تلك الحكمة والعناية والرحمة والعدالة، لَلزم حينئذٍ إنكار هذه الحكمة المشهودة لذي عقل، وإنكارُ هذه العناية المُبصَرة لذي بصيرة، وإنكارُ هذه الرحمة المنظورة لذي قلب، وإنكار هذه العدالة المرئية لذي فكر؛ وللزم قبول كون صاحب هذه الأفعال الحكيمة الرحيمة الكريمة العادلة -حاشا، ثم حاشا!- سفيها لعّابا، وظالما غدّارا، فيلزم انقلاب الحقائق بأضدادها، وهومحال باتفاق جميع أهل العقل غير السوفسطائي الذي ينكر وجود الأشياء، حتى وجودَ نفسه. فمن لم يصدِّق فهوكالسوفسطائي، أحمقُ من هبنّقة المشهور الذي كان لا يعرِف إلّا نفسَه، ولا يعرف نفسَه إلّا بقلنسوته، حتى إذا رآها على رأس أحدٍ ظن أنه نفسه! ففِكرُ المنكِر كقلنسوة هذا!

* * *

فيا من رافقني بفهمه من أول المسألة إلى هنا! لا تظنّن انحصار الدلائل فيما سبق. كلا! بل يشير القرآن الحكيم إلى ما لا يعد ولا يحصى من أمارات: أن خالقنا سينقلنا من هذا المشهر المؤقت إلى مقرّ سلطنة ربوبيته الدائمة.. ويلوّح إلى ما لا يحد ولا يستقصى من علامات: أنه سيبدل هذه المملكة السيّالة السيارة بتلك المملكة المستمرة السرمدية..

وكذا لا تحسبنّ أنّ ما يقتضي الآخرة والحشر من الأسماء الحسنى، منحصرٌ على:»الحكيم والكريم والرحيم والعادل والحفيظ». كلا، بل كل الأسماء المتجلية في تدبير الكائنات، تقتضيها بل تستلزمها.

الحاصل: إن مسألة الحشر مسألة قد اتَّفق عليها:

الحقُ سبحانه بجماله وجلاله وجميع أسمائه..

والقرآنُ المبين المتضمن لإجماعِ كلِ كتبِ الأنبياء والأولياء والأصفياء..

وأكملُ الخلق محمدٌ الأمينُ عليه الصلاة والسلام، الحاملُ لسرّ اتفاق ذوي الأرواح النيّرة الصافية العالية، من الرسل والنبيين ومن أهل الكشف والصديقين..

وهذه الكائناتُ بآياتها، حتى إن لكلٍ من هذه الموجودات -كلا وجزءا وكليا وجزئيا- وجهين:

فوجه؛ ينظر إلى خالقه وفي ذلك الوجه ألسنةٌ كثيرة، تشهد وتشير إلى الوحدانية..

ووجه آخر؛ ينظر إلى الغاية والآخرة، وفي هذا الوجه أيضا ألسنةٌ كثيرة تدل وتشهد على الدار الآخرة واليوم الآخر.

مثلا: كما تدل أنت -بوجودك في حُسن صنعةٍ- على وجوب وجودِ صانعك ووحدته.. كذلك تدل -بزوالك بسرعةٍ مع جامعية استعدادك الممتد آمالُه إلى الأبد- على الآخرة، فتأمل!

وقد يتحد الوجهان؛ مثلا: إن ما يُشاهَد على كل الموجودات من انتظام الحكمة، وتزيين العناية، وتلطيف الرحمة، وتوزين العدالة، وحسن الحفظ؛ كما تشهد على الصانع الحكيم الكريم الرحيم العادل الحفيظ، كذلك تشير بل تصرح بحقانية الآخرة وبقرب الساعة وبتحقيق السعادة.

اَللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أهْلِ السَّعَادَةِ وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ السُّعَدَاءِ وَأدْخِلْنَا الْجَنَّةَ مَعَ السُّعَدَاءِ بِشَفَاعَةِ نَبِيِّكَ الْمُخْتَارِ. فَصَلِّ وَسَلِّمْ عَلَيْهِ وَعَلى آلِهِ كَمَا يَلِيقُ بِرَحْمَتِكَ وَبِحُرْمَتِهِ

آمِينَ آمِينَ آمِينَ.

والحمد لله رب العالمين.

* * *