478

من أوله إلى آخره مرآةً كبرى مؤلَّفةً من مرايا بلا حَدٍّ تَتَجدَّد وتَتغيَّر على الدوام، لإظهارِ النقوش والجلوات واحدةً تلو الأخرى بتجدُّدٍ في كلِّ وقت.

وبالقياس على هذا فإن صفات السمع والبصر والاختيار والكلام تُعرِّف كذلك كلُّ واحدةٍ منها بالذات الأقدس وتُعلِنُ عنه بقدر الكون.

ثم إنه كما دلَّتْ هذه الصفات على وجودِ الذات ذي الجلال، فإنها تدلُّ بالبداهة أيضًا على وجود الحياة وتَحقُّقِها وعلى كونه سبحانه حيًّا..

ذلك أن العلم علامة الحياة؛ والسمع أمارتُها؛ والبصرُ خاصٌّ بالأحياء؛ ولا يمكن أن تكون الإرادة إلا بالحياة؛ والاقتدارُ الاختياري إنما يوجد في ذوي الحياة؛ أما التكلُّم فشأنُ من هو حيٌّ عالِم.

وهكذا يتبيَّن من هذه النقاط أن لصفة الحياة من الدلائلِ والبراهينِ المنبِئةِ عن وجودها ووجودِ موصوفها ما يبلغ سبعة أضعاف الكون، حتى غَدَتْ هذه الصفة أساسَ جميع الصفات ومنبعَها، ومصدرَ الاسم الأعظم ومدارَه.

ولما كانت رسائل النور قد أثبتت هذه الحقيقة الأولى بالبراهين القوية وأوضحتها بما يكفي، فحسْبُنا هذه القطرة من هذا البحر.

الحقيقة الثانية: التكلُّم الإلهي الآتي من صفة الكلام.

فإنه بسرِّ الآيةِ: ﴿لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي…﴾ [الكهف:109]: لا منتهى للكلام الإلهي؛ وإن أظهَرَ علامةٍ تُنبئ عن وجودِ ذاتٍ ما: تَكَلُّمُه؛ إذًا فهذه الحقيقة تَشهَد شهادةً بلا انتهاء على موجوديَّة المتكلِّم الأزلي ووَحدته.

ولما كانت قد جاءت شهادتان قويَّتان لهذه الحقيقة بما بُيِّن في جهةِ الوحْيات والإلهامات في المرتبتين الرابعة عشرة والخامسة عشرة من هذه الرسالة؛ وجاءتْ كذلك شهادةٌ واسعةٌ من جهةِ الكتب المقدسة السماوية المُشارِ إليها في المرتبة العاشرة؛ وجاءتْ شهادةٌ أخرى ساطعةٌ جامعةٌ من جهة القرآن المعجز البيان في المرتبة السابعة عشرة؛ فإننا نحيل بيانَ هذه الحقيقة وشهادتها على تلك المراتب.

هذا وإن أنوارَ وأسرارَ الآية العظيمة: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران:18] التي أعلنتْ هذه الحقيقةَ بإعجازٍ وعبَّرتْ عن شهادتها مع شهادة سائر الحقائق الأخرى قد جاءت كافيةً وافيةً لمسافرنا هذا حتى إنه لم يستطع أن يتقدَّم أكثر.

وهكذا ذُكِر في المرتبة التاسعة عشرة من المقام الأول ما يلي إشارةً لتفسيرٍ موجزٍ للدرس الذي تلقاه هذا المسافر من هذا المقام القدسي:

لا إله إلا الله الواجبُ الوجودِ، الواحدُ الأحدُ، له الأسماء الحسنى، وله الصفاتُ العليا، وله المثل الأعلى، الذي دلَّ على وجوبِ وجوده في وَحدتِه الذاتُ الواجبُ الوجودِ بإجماعِ جميعِ صفاتِه القدسيَّة المحيطة، وجميعِ أسمائه الحسنى المتجلِّية، باتفاقِ جميعِ شؤوناته وأفعاله المتصرِّفةِ بشهادةِ عَظَمَةِ حقيقةِ تَبارُزِ الأُلوهيَّة في تَظاهُرِ الربوبيَّةِ في دوامِ الفعَّاليَّة المستوليةِ بفعلِ الإيجادِ والخَلْقِ والصُّنعِ والإبداعِ بإرادةٍ وقدرةٍ، وبفعلِ التقديرِ والتصويرِ والتدبيرِ والتدويرِ باختيارٍ وحكمةٍ، وبفعلِ التصريفِ والتنظيمِ والمُحافظةِ والإدارةِ والإعاشةِ بقصدٍ ورحمةٍ، وبكمالِ الانتظامِ والموازنةِ، وبشهادةِ عَظَمَةِ إحاطةِ حقيقةِ أسرارِ: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران:18].

***